آخر الأخبار

التصوف الفاطمي في المغرب العربي تعايش وتسامح ورفض التعصب الوهابي (2)












بقلم / محمود جابر








المجتمع المغربي والوهابية :


هذا التنوع الثقافي والعطاء الحضاري جعل للمغرب العربي الإسلامي طابعا خاصا يتميز بالتعدد والانفتاح وقبول الآخر، وفى العصر الحديث والمعاصر نبتت نحلة منحرفة وهى " الوهابية" التي حاولت أن تحتل الإسلام ذاته والتحدث باسمه، رغم المحاولات الحثيثة التي قامت بها الوهابية من أجل محاولة اختراق كافة المجتمعات الإسلامية والتجمعات، بيد أن المغرب العربي ظل عصيا عن هذا الاختراق ورغم وجود العديد من التنظيمات الوهابية التكفيرية التي انتشرت في اغلب أقطار المغرب العربي ( ليبيا و تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا )، إلا أن الوهابية لم تعد في أي وقت من الأوقات في السابق أو اللاحق خيارا مجتمعيا لرجل الشارع المغربي، ويرجع ذلك إلى عيب في المباني المنهجية للوهابية ذاتها، حيث أن الوهابية قامت على فكرة التفرد والإقصاء أما الثقافة المغرب فكانت قائمة على التنوع والتعدد سواء داخل المدرسة الإسلامية ذاتها، أو داخل التكوين الثقافي الديني المغربي عاما، من هنا فقد عجزت الوهابية عن التغلغل والاختراق داخل هذه المجتمعات.


وبالنظر إلى البنية الثقافية المجتمعية الإسلامية في المغرب العربي الإسلامي نجد انه قائما على ثلاث أعمدة وهى إجمالا:

الأول: الفقه المالكي.

الثاني: العقيدة الاشعرية.

الثالث: التصوف.

وقد عبر عبد الواحد بن عاشر (ت 1040هـ) عن هذا المعنى في منظومته المرشد المعين بقوله:

في عقد الأشعري وفقه مالك *** وفى طريقة الجنيد السالك


 أولا: الفقه المالكي :

هذا المذهب المالكي الذي اختاره  أهل المغرب العربي عن إيمان واقتناع وحجة وبرهان. ولم يبغوا به بديلا منذ عرفوه فجمع شملهم ووحد كلمتهم وصان دولتهم وعصمهم من التفرق والاختلاف بما يمتاز به من خصوصيات على الصعيدين:على صعيد أصول الفقه، وعلى صعيد الفقه نفسه.

 ويرجع ذلك إلى وجود بشارات عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الوارد في عالم المدينة،

وقد ورد الحديث بألفاظ عدة منها :" يضربون آباط الإبل"، وروى:" يضربون أكباد الإبل". وهو كناية عند الرحيل وإسراع السير لإدراك الغرض خشية فواته لأن الكبد لا تضرب وإنما يضربون آباط الإبل حيث تكون الكبد.


كما روي بلفظ:" فلا يجدون أعلم من عالم المدينة"، وفي رواية:" فلا يجدون أفقه من عالم المدينة"، ويرى كثير من العلماء أن العلم والفقه مترادفان في حين يرى آخرون أن الفقه هو صفاء الفهم، ويرى الشيرازي أن الفقه هو العلم بخفايا الأمور ودقائقها وأنه منزلة فوق مجرد العلم.


 ولهذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم):" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين". وأما المعنى الإجمالي للحديث فهو إخبار بأنه يكاد ويقرب تهافت الناس على طلب العلم ولا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة .


ويبقى من هو هذا العالم المبشر به،يقول سفيان بن عيينه وغيره ممن عاصر مالكا ومن جاء بعده إنه "مالك بن أنس" - رضي الله عنه.

والحديث إحدى المعجزات النبوية حيث أخبر بالغيب ووقع كما أخبر به، فقد سجل التاريخ أن الناس كانوا يرحلون إلى "مالك" من المشرق ومن الغرب طلبا للعلم والاستفتاء وقد بلغ عدد من روى عنه ألفا و ثلاثمائة عالم محدث، والحديث من جهة أخرى شهادة "لمالك " - رحمه الله . بأنه أعلم وأفقه أهل زمانه، وكفى بها شهادة له ولمذهبه وفقهه وهنيئا للمغاربة وللمالكية بهذه الشهادة النبوية لمذهبهم.

1-     خصوصيات المذهب على مستوى أصول الفقه:


يمتاز المذهب المالكي على مستوى أصول الفقه بعدة مزايا وخصوصيات من أهمها:

أولا: وفرة مصادره و كثرة أصوله المتمثلة في الكتاب و السنة وإجماع الأمة وعمل أهل المدينة والقياس والاستحسان والاستقراء وقول الصحابي وشرع من قبلنا والاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والأخذ بالأحوط ومراعاة الخلاف.

بالإضافة إلى القواعد العامة المتفرعة عنها والتي أنهاها بعض المالكية إلى ألف و مائتي قاعدة تغطي جميع أبواب الفقه ومجالاته.

هذه الكثرة أغنت الفقه المالكي و أعطته قوة وحيوية و وضعت بين أيدي علمائه من وسائل الاجتهاد وأدوات الاستنباط ما يؤهلهم لبلوغ درجة الاجتهاد ويمكنهم من ممارسته ويسهل عليهم مهمته.

وإذا كانت بعض المذاهب شاركت المذهب المالكي في بعض هذه الأصول فإن ميزة الفقه المالكي تكمن في الأخذ بجميع هذه الأصول بينما غيره لم يأخذ إلا ببعضها ورد الباقي.

ثانيا: تنوع هذه الأصول والمصادر فإنها تتراوح بين النقل الثابت والرأي الصحيح المستمد من الشرع والمستند إليه كالقياس. هذا التنوع في الأصول والمصادر والمزاوجة بين العقل والنقل والأثر والنظر وعدم الجمود على النقل أو الانسياق وراء العقل هي الميزة التي ميزت المذهب المالكي عن مدرسة المحدثين ومدرسة أهل الرأي وهي سر وسطيته وانتشاره والإقبال الشديد عليه وضرب أكباد الإبل إلى إمامه في أيام حياته.


ثالثا: توسعه في استثمار الأصول المتفق عليها توسعا كبيرا مما ساعد ويساعد على سد الفراغ الذي يمكن أن يحس به المجتهد عند ممارسة الاجتهاد والاستنباط، وهكذا نجده في التعامل مع الكتاب والسنة لا يكتفي بالنص والظاهر بل يقبل مفاهيم المخالفة والموافقة وتنبيه الخطاب كما يقبل دلالة السياق ودلالة الاقتران والدلالة التبعية، وقد استدل بقوله تعالى:  على عدم وجوب الزكاة في الخيل لاقترانها بالحمير(والخيل والبغال والحمير لتركبوها) التي لا زكاة فيها ،كما توسع في باب القياس فقبل أنواعا من القياس لا يقبلها غيره ولم يخصه بباب من أبواب الفقه ولا نوع من أنواع الحكم.


بينما نجد كثيرا من الفقهاء يردون بعض أنواع القياس ويضيقون مجالات المقبول عندهم. فلا يقبلون القياس على ما ثبت بالقياس ولا القياس المركب والقياس على مخصوص وقياس العكس. ولا يجيزون القياس في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات والأسباب والشروط والموانع.


خصوصياته على الصعيد الفقهي: و نوجزه في عشرة محاور:

 أولا: رحابة صدره و انفتاحه على غيره من المذاهب الفقهية والشرائع السماوية السابقة و اعترافه بالجميع و استعداده للتعايش معه والاستفادة منه بفضل قاعدة شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ التي اتخذها مالك أصلا من أصوله التي بنى عليها ماله و أسس عليها فقهه و انطلاقا من إيمانه بحرية الاجتهاد و وجوبه و أنه لا يقلد مجتهد غيره،و أن المصيب واحد كما يراه مالك و أكثر علماء الأصول يتجلى ذلك:

1- في اتخاذ شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم يرد ناسخ، وهكذا أخذ المالكية بمشروعية الجعالة والكفالة من شريعة يوسف كما حكاه الله عنه في قوله: ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم. كما استدلوا على مشروعية قسمة مهيأة بقول صالح: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم. وعلى جواز الإجازة والنكاح على منافع بقول صاحب مدين: إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج.

2- في إباحته الإقتداء بالمخالف في الفروع و لو ترك شرطا من شروط الصلاة أو ركنا من أركانها في الفقه المالكي إذا كان الإمام لا يراه شرطا ولا ركنا في مذهبه، الصلاة وراء من نام ولم يتوضأ أو لا يقرأ الفاتحة في الصلاة أو يفتتح الصلاة بغير تكبيرة الإحرام على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه.

3- في رفضه تكفير المسلمين بالذنب و الهوى فقد سئل مالك عن المعتزلة أكفار هم؟ قال من الكفر فروا.

4- في تصحيحه حكم المخالف لمذهب مالك ومنع نقضه وإن خالف المشهور أو الراجح في المذهب المالكي، وهي القاعدة المعروفة بحكم الحاكم يرفع الخلاف المشار لها بقول خليل ورفع الخلاف لا أحل حراما.

5- فيما قرره الفقه المالكي في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن المختلف فيه لا يجب فيه الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، وهي قاعدة من أهم القواعد التي تحقق التعايش بين المذاهب والطوائف المختلفة وتحفظها من الصراع المذهبي والطائفي.

6- إذا لم يوجد نص للمالكية في النازلة المعروضة فإنه يعمل فيها بالفقه الشافعي أو الحنفي على خلاف بينهم.

7- في رفض مالك فرض مذهبه وموطئه على جميع الأئمة حين عرض عليه الخليفة العباسي ذلك واعتذر مالك عن ذلك .

8- في استحسانه العمل برأي المخالف ابتداء في بعض مواطن الخلاف من باب الورع والخروج من الخلاف، قراءة البسملة سرا، وقراءة الفاتحة خلف الإمام للخروج من خلاف الشافعي.

9- في قبوله رواية المبتدع إذا لم يكن داعية لمذهبه و لم يكن ممن يستحل الكذب .
10- في إباحته الخروج عن المذهب و العمل بقول المخالف عند الحاجة وفي بعض القضايا التي يصعب فيها الأخذ بالفقه المالكي أو لغير ذلك من الأسباب .

روي عن مالك أنه دخل المسجد بعد صلاة العصر وجلس ولم يصل تحية المسجد فقال له صبي: قم يا شيخ فاركع ركعتين، فقام فصلاهما فقيل له في ذلك، فقال خشيت أن يصدق علي قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)، هكذا إذا يتبين مدى انفتاح الفقه المالكي على غيره و مصالحته له و تعايشه مع في سلام و تفاهم ووئام وإمكان الأخذ عنه والاقتباس منه.
وهذا هو الذي تفاعل في رحم المجتمع المغربي عبر التاريخ ليجعل منه هذا المجتمع المنفتح المتسامح المتسع لمخالفة المخالفين لكن دون فقد خصوصياته ولا تضييع هويته.

مما يمكن اعتباره حسنة من حسنات هذا المذهب وفضلا من أفضاله على هذا البلد الأمين.

ثانيا: قابليته للتطور والتجديد ومواكبة العصر في ظل الشريعة الإسلامية وتحت مراقبتها وداخل إطارها الفقهي ومحيطها الفلسفي والأخلاقي بفضل أخذه بمبادىء العادة الحسنة والمصلحة المرسلة وسد الذرائع، فإن هذه الأمور تختلف من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد مما يفتح الباب على مصراعيه أمام كل باحث مقتدر وكل فقيه مجتهد يتمتع بالأهلية الضرورية لاستنباط ما يحتاج لاستنباطه من أحكام أو اختيار ما هو الأفضل والأنسب مما هو موجود ومنصوص عليه في التراث الفقهي الإسلامي.


وقد أثبتت التجربة المغربية نجاعة هذا الأسلوب و فائدته، فإن رواد هذا الفقه التجديدي استندوا في أحكامهم وفتاويهم التي جرى بها العمل إلى المصالح المرسلة وسد الذرائع والعادات الحميدة لاعتماد أقوال مرجوحة أو خارجة عن المذهب تتناسب مع الظروف الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي كانوا يعيشونها مما أغناهم عن الاستيراد والتبني والتقليد والاقتباس من الغير وساعدهم على المحافظة على الهوية الإسلامية والطابع المالكي في تشريعهم وقضائهم، كمثال على ذلك قراءة القرآن جماعة شهادة اللفيف بيع الصفقة؛إلا أن هذه القابلية للتطور والتجديد محصورة ومحدودة في ساحة المسكوت عنه أو المخير فيه أو المختلف فيه أما المنصوص عليه أمرا أو نهيا أو إذنا أو ما يسمى بالعادات الشرعية فإنه من الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يجوز المساس بها باسم المصلحة المرسلة أو العادة المتجددة لأن ذلك يعتبر نسخا للشريعة و لا نسخ بعد وفاته صلى الله عليه و سلم.

ثالثا: المرونة في معالجة كثير من القضايا الشائكة والحالات المستعصية والعمل على حل المشاكل الطارئة بفضل مبدأ مراعاة الخلاف الذي اتخذه أصلا من أصوله الفقهية التي بنى عليها فقهه، يتجلى ذلك في:

-    تصحيحه بعض العقود الفاسدة المختلف فيها يعد وقوعها مراعاة لقول المخالف بشرط أن يكون ذلك القول مؤسسا على دليل قوي في نفسه .
- في ترتيب آثار العقود الصحيحة على العقد الفاسد المختلف فيه أيضا.وكمثال على ذلك، الأنكحة الفاسدة المختلف فيها، فإن الفقه المالكي يصحح بعضها بعد الدخول. ويلحقه فيها الولد بالزوج ويوجب فيها التوارث بين الزوجين قبل الفتح ويعتد بالطلاق الواقع فيها.
وفي البيوع الفاسدة ينتقل فيها الضمان للمشتري بالقبض وإذا فات المبيع يمضي بالثمن.

بينما الفقه الشافعي يرى فسخ البيع الفاسد ولو تداولت الأيدي كما يرى فسخ الأنكحة الفاسدة ولو ولدت الزوجة الأولاد، ويحد الزوجين في بعض الحالات.

رابعا: السماحة والتيسير في أحكامه وآرائه رائده في ذلك الكتاب والسنة وما استنبط منهما من قواعد أصولية ومبادىء فقهية ساعدته على اتخاذ أيسر الحلول وأخفها مصداقا لقوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر) و قوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقوله ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) . وقول النبي صلى الله عليه وآله :" إياكم و الغلو في الدين".  

ووفق للقواعد المدرسة ذاتها ومنها : المشقة تجلب التيسير والضرر يزال الحرج  والضرورات تبيح المحظورات والأصل في الأشياء الطهارة والإباحة وغير ذلك من القواعد التي كان لها انعكاس إيجابي في مختلف أبواب الفقه في العبادات والمعاملات والمنازعات وشؤون الأسرة وغير ذلك من أبواب الفقه التي جاء فيها الفقه المالكي أكثر تيسيرا وتسامحا وأكثر استجابة لحاجات الناس في عبادتهم و معاملاتهم وأرفق بهم وأصلح لهم في دينهم ودنياهم مما جعل الغزالي - رحمه الله-  بعد المقارنة بين المذاهب الفقهية في باب المياه يقول: وددت لو كان مذهب الشافعي في المياه كمذهب مالك.


خامسا: الوسطية والاعتدال في أحكامه ومواقفه وفي أصوله وفروعه لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تشديد ولا غرابة ولا شذوذ ولا جمود ولا تعقيد ولا تمرد ولا تكفير. يقول بالقياس ويحبذ الأخذ بالرخص ويكره الأخذ بغرائب الأقوال وشواذ الأحكام يحب الاتباع ويكره الابتداع، ويحرم استعمال الحيل للتخلص من الواجبات أو التوصل إلى المحرمات، ويرفض نتائجها ويؤاخذ المحتال بنقيض قصده، و يحرمه من الاستفادة من حيلته، و يعاقبه على فعلته. و كمثال على ذلك التوليج في البيع و الوصايا ،و الفرار من الزكاة و الطلاق في مرض الزوج و نكاح المحلل .


سادسا: البعد المقصدي حيث يعتبر الفقه المالكي من أعمق المذاهب الفقهية فهما لروح الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأبعدها نظرا واعتبارا لمآلاتها، وأكثرها التزاما بمراعاة حكمها وأسرارها عند استنباط الأحكام من نصوصها، وتفريع الفروع عليها، وخاصة فيما يتعلق بالضروريات الخمس:الدين والنفس والمال والعرض والعقل فإنه تفوق على كثير من المذاهب الفقهية في العناية بها والمحافظة عليها ومنع المساس بها من قريب أو بعيد وبأي وجه من الوجوه.


وللتوضيح أكثر يكفي أن نأخذ نموذجا واحدا وثيق الصلة بالمحافظة على الأرواح، حيث يستطيع كل قارىء أو باحث أن يلمس فيه حكمة الفقه المالكي، وبعد نظره والتزامه بروح الشريعة ومقاصدها وقدرته على بلورتها وتحقيقها في تشريعاته وأحكامه.


ففي باب الدماء يتفق الفقه الإسلامي على اختلاف مذاهبه و مدارسه على أن الحكمة من القصاص هي المحافظة على أرواح الناس وحياتهم، والضرب على أيدي المعتدين وزجرهم من سفك دماء الأبرياء ظلما و عدوانا أخذا من قوله تعالى( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون).


لهذا فقد نجح الفقه المالكى في تحقيق تلك الحكمة التشريعية ووفق في وضع القواعد والضوابط الكفيلة بإنجاحها، ونجح في الحد من انتشار جريمة القتل في المجتمعات التي دانت له مدة سيادته في محاكمها ووجوده في تشريعاتها، حتى إذا غاب عنها تغيرت الأمور ولم يبق مسؤولا عما يجري فيها.


يؤكد ما نقوله أمران:

الأول: نظري تشريعي يتمثل في وضع القواعد الصارمة وغير المتساهلة مع من تسول له نفسه الاعتداء على حياة الناس وأرواحهم.
وهكذا أوجب القصاص في القتل العمد العدوان بقطع النظر عن الآلة المستعملة فيه. والطريقة المتبعة في تنفيذه، وسوى بين القتل مباشرة والقتل تسببا وتوسع كثيرا في مفهوم السببية لتشمل الإكراه على قتل الغير والأمر به. والدلالة على المختبىء المراد قتله وإمساكه لمن يقتله، ومنع الطعام والشراب والدواء واللباس عن المضطر لذلك، وشهادة الزور بما يوجب القتل. والحكم الجائر بالقتل، وتنفيذ ذلك الحكم ممن يعلم جوره، كما أوجبه بالتخويف إذا ترتب عليه الموت، وفي حالة رضا المقتول بالقتل وإذنه فيه مسبقا (ما يعرف بقتل الرحمة).

وأوجب قتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله أو تمالؤوا عليه، ونفى شبه العمد وضيق من مفهوم الشبهة الدارئة للحد، وفتح باب الإجتهاد في الحدود وجوز القياس فيها، واكتفى في ثبوت القتل بالقسامة والتدمية ولم يقبل العفو من الولي عن القاتل إذا كان القتل غيلة أو حرابة، ولا من الإمام إذا لم يكن للقتيل ولي.


وبهذا التشريح الصارم سد جميع أبواب القتل وأغلق نوافذه وقطع الطريق على المتعطشين لدماء الأبرياء ونزع الحصانة عن الجميع، وضمن للناس حياة آمنة مطمئنة (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون) .


الأمر الثاني: قلة نوازل الدماء في كتب النوازل الفقهية المالكية مما يفسر بقلة حوادث القتل،و يسجل شهادة واقعية باستتباب الأمن في تلك الحقب
والبلاد التي ساد فيها الفقه المالكي.بينما نجد بعض المذاهب الفقهية ضيق في مفهوم القتل الموجب للقصاص وتوسع في مفهوم الشبهة المسقطة للقصاص ومنع القياس في الحدود وأثبتت شبه العمد ورد حديث القسامة.


وبذلك انفتح باب القتل على مصراعيه، وأصبح باستطاعة كل مجرم أن يحقق رغبته، ويقترف جريمته، ويتخلص من عدوه بكل وسيلة من وسائل القتل التي لا قصاص فيها وهو آمن مطمئن على نفسه من القصاص ضامن لنفسه الحياة بعد تخلصه من غريمه.


سابعا: البعد العلمي والمعرفي بنصوص الشريعة الإسلامية وروحها، كما يؤخذ من الحديث الشريف "فلا يجدون أحدا أعلم من عالم المدينة"، وفي رواية:" فلا يجدون أحدا أفقه من عالم المدينة"، فالعلم معرفة الشيء على ما هو عليه، والفقه إدراك الأمور الخفية، ولما كان الحديث عن النشأة من نفس واحدة والمستقر والمستودع من الأمور الخفية ذيلت الآية بقوله:( لقوم يفقهون). ولذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:" من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين" ولم يقل يعلمه.


ومن أجل هذا البعد العلمي المعرفي كان الفقه المالكي أقرب المذاهب الفقهية إلى الكتاب والسنة وأقلها مخالفة للحديث الصحيح. وكان أكثرها صوابا وأصحها قياسا كما قال الشافعي وأرجحها رأيا كما قال الإمام أحمد وأقلها خطأ كما قال ابن خويز منداد. وأحسنها تأويلا وأصوبها جمعا وتوفيقا بين النصوص المختلفة والأدلة المتعارضة. والحديث يشهد لهذا كله، فإن الأعلم والأفقه لا يكون علمه وفقهه إلا هكذا والمتتبع للفقه الإسلامي والفقه المالكي على مستوى الخلاف العالي لا يسعه إلا أن يؤكد صحة هذه الشهادات وصدقها.


ثامنا: البعد الاجتماعي والمصلحي في توجهاته وأحكامه بفضل اتخاذه المصالح المرسلة والعادات الحسنة أصلا من أصوله الفقهية، ومصدرا من مصادره التشريعية التي بني عليها فقهه، وأرسى عليها قواعد مذهبه واستمد منها آراءه وأحكامه.


وهكذا نراه كلما كانت هناك مصلحة دينية أو منفعة دنيوية لم يرد دليل شرعي على إلغائها أو كانت هناك عادة متبعة في بلد أو سنة مألوفة بين الناس في أفعالهم أو أقوالهم لا تتنافى مع الشرع ولا تخالف قواعده فإن الفقه المالكي يقرها ويرحب بها ويدخلها في منظومته الفقهية ولا ينتظر قيام الدليل الخاص على شرعية تلك المصلحة بعينها أو تلك العادة بذاتها اكتفاء بالقاعدة العامة أن الشريعة الإسلامية إنما جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد، وأنه حينما كانت هناك مصلحة فهناك حكم الله حتى يدل الدليل على خلاف ذلك. إلا أن المعتبر في المصالح المرسلة ما يحقق المصالح الشرعية لا ما يحقق رغبات الناس و أهواهم لأن مصالح الناس تتعارض .


تاسعا: المنطقية والعقلانية في أحكامه لا تجد فيه ما يناقض العقل السليم أو يخالف المنطق الصحيح أو تحيله السنة الكونية، ويرفض ذلك كله ولا يقبله ويشترط الامكان في كل أحكامه ويرد ما يخالفه كما هو الشأن في الأنساب والشهادات والدعاوي.


عاشرا: الواقعية، نوازله وفروعه في مختلف الأبواب، موضوعاتها تتراوح بين ما هو واقع وما يمكن وقوعه.


وقد كان مالك رحمه الله إذا سئل عن شيء من ذلك يقول للسائل، سل عما يكون ودع ما لا يكون، وربما أعرض عن السائل، فإذا ألح عليه السائل في طلب الجواب يقول له: لو سألت عما تنتفع به لأجبتك.

هذه جملة من خصائص هذا المذهب المبارك حلى به إلى هذا البلد الأمين بطائفة من السمات بوأته هذا المقام الذي أضحى معروفا به بين العالمين مقام الانفتاح والتسامح والتعاون والثبات والتسامي.


فتفاعل المغاربة مع مذهب يحمل كل هذه الخصائص قد وسم شخصيتهم الجماعية بهذا الوسم وجعل من فهمهم للدين وتدينهم به وتنزيله على واقعهم بمختلف تمظهراته رافدا وحاملا نحو هذا الأفق الديني السني الذي أصبح العام والخاص يتبينون تميزه، ويتعرفون من خلاله على إسلام الجمال والتسامح والإخاء الذي جاء به نبي الرحمة صلى الله عليه وآله و سلم..










إرسال تعليق

0 تعليقات