آخر الأخبار

أصول الفقه : أصالة البراءة (3)








علي الأصولي



جواب المناقشة الثانية:

وهي مردودة لأن الكلام كل الكلام في الحكم المجعول على حد تعبير الفقيه الأصولي الشيخ إسحاق الفياض،


لان الحكم المجعول في كل قضية هو حكم واحد غير قابل للتعدد في اختلاف مراتبه أو قل هو مجعول على نحو القضية الحقيقية للموضوع المقدر ووجوده في الخارج،


أي أن الموضوع ما دام في عالم التقدير والفرض فثبوت الحكم له ثبوت إنشائي وإذا خرج من عالم الفرض والتقدير إلى عالم العين والتحقق يصبح الحكم فعليا بفعليه موضوعه لا بذاته، إذ أن الفعلية صفة لموضوع لا صفة لحكم ونسبتها للحكم عرض فالحكم هنا آمر اعتباري لا يتصف بالفعلية، في الخارج ولا يمكن وجوده في الخارج حتى نصفه بالفعلية،


وعليه: أن كان الحكم واحدا فاستصحاب بقاء الجعل للحكم الإنشائي هو بعينه بقاء للحكم الفعلي، أي أن بقاء استصحاب الجعل نفسه استصحاب بقاء المجعول، ، ، ، الخ



إذن وبناء على دفع هذه المناقشة الثانية يتم المطلوب،

وكيف كان: هذا ما يمكن بيانه عقلا والدفاع عن مسلك المشهور،

تنبيه:

إن ما يصح الاعتذار به، ما يكون عذرا بنفسه كما تقدم بعدم الوصول، ويكون حينئذ هذا المورد مسرحا لأصالة البراءة، لأننا بالتالي إزاء جهل ثابت ومستقر بعد الفحص عن الحجة واليأس من تحصيلها، وهذا الجهل سواء كان واقعيا أو ظاهريا ( مع فقدان النص أو مع وجوده ولكنه لم يصل ) فالمورد هو مجرى لهذا الأصل الأصيل،


البراءة الشرعية

قبل الدخول لموضوعة البراءة الشرعية، يمكن لنا أن نضع مقدمة مختصرة لما نحن فيه،

البراءة: للغة، من برأ - بفتح الباء والراء - يقال برأ من الأمر براء.

اصطلاحا: هي - البراءة الشرعية - الوظيفة الشرعية النافية للحكم الشرعي عند الشك فيه، واليأس من تحصيله من مظانه، وبهذا تعرف أن البراءة أصل عملي غايتها إعطاء فسحة للمكلف في الحركة والعمل بصرف النظر عن النظر للواقع، فهي ليست من قبيل الأدلة أو الإمارات المثبتة للأحكام وإنما هي تحدد الوظيفة الفعلية للمجتهد عند فقدان النص بعد الطلب واليأس ونحو ذلك،


قديما كانت تسمى هذه البراءة ( أصالة خلو الذمة من الشواغل الشرعية ) وهي ما يعبر عنها بالبراءة الأصلية، أو على حد تعبير المحقق الحلي ( بأصالة النفي ) وهي ما تشمل العقلية والشرعية معا، ولذا تارة يستدل على هذه البراءة بقاعدة قبح التكليف بما لا يطاق وتارة يستدل عليها روائيا،


نعم البراءة العقلية الأصلية صنفت عند القدماء ضمن الأدلة العقلية القطعية لأنهم أرجعوها إلى استصحاب حال العقل، ومن ثم صنفت على كونها من ضمن الأدلة الظنية لان الاستصحاب يفيد الظن بالبقاء على الحالة السابقة،



وكون الحالة السابقة هو عدم التكليف فإن ذلك يوجب الظن ببقاء الحالة على ما هي عليه،


ويمكن مراجعة ما ذكره العلامة محمد صنقور في كتابه ( المعجم الأصولي ج١ ) باب البراءة العقلية لمعرفة الأدوار التاريخية لهذه المسألة بتفصيل واف،


وكيف كان: البراءة الشرعية، هي المستفادة من لسان الدليل الشرعي، - الكتاب والسنة - وكذلك الاستصحاب على ما ذكرناه سابقا وأن كان كبرى الاستصحاب مستفاد من نفس الشارع إلا أننا قدمناه ضمن الاستدلال العقلي على البراءة العقلية في هذا البحث،



جرت عادة الأصوليين استعراض الدليل القرآني لإثبات البراءة ومن ثم الدليل الروائي لتدعيم هذا الأصل العملي واثبات حجيته في المقام،
وكل ما سيق كأدلة قرآنية وروائية لدعم هذا المبنى هو من قبيل الإرشاد على حكم العقل ليس إلا وهذا ما ذكره حتى الفقيه الأصولي السيد السبزواري في كتابه ( تهذيب الأصول ج٢) إذ قال بما حاصله قد يستدل عليها بالأدلة الأربعة - مع كونها من الفطريات العقلائية - لقاعدة قبح العقاب بلا بيان،

إذن: كل ما قالوا وقيل في شأن الأدلة الشرعية لإثبات البراءة الشرعية هو من قبيل الإرشاد والتنبيه ونحو ذلك،

الاستدلال بالكتاب:

الدليل الأول: ( ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) الطلاق -٧-

بدعوى: إن المراد بالموصول هو التكليف، وبالإيتاء هو الوصول، فيصير مفادها عدم التكليف بغير ما وصل، وهو عبارة أخرى عن البراءة،


ولا يضر كون الآية تتحدث عن موضوعة المال، إذ أنها سبقت على نحو القاعدة الكلية للتعليل في موارد المال وعدم المنع من النعليل في الموارد الأخرى،


وعليه أن الموصول هنا العموم لكل شيء - حكما كان ام غيره - ومنه يفهم عدم التكليف في أي شيء،

إلا أن المحقق النائيني أثار مناقشة حول هذه الآية،


مفادها: إذا كانت ( ما ) الموصلة شاملة للتكليف فيقع مفعولا مطلقا للفعل ( يكلف ) في صدر الآية فإذا كانت شاملة للمال والفعل والنسبة بينهما لزم من ذلك شمول الإطلاق لنسبتين متغايرتين في استعمال واحد، وهما نسبة الفعل إلى المفعول به ونسبة الفعل إلى المفعول للمطلق، إذ النسبة الأولى نسبة الفعل إلى متعلقه والنسبة الثانية نسبة الفعل إلى مبدءاه وهما معا لا يكون شمولهما بالإطلاق، ولكن حيث ان النسبة الأولى هي نسبة الفعل إلى المفعول به قدر متيقن لأنها مورد الآية فلا يمكن إثبات النسبة الثانية إذ لا دليل،


وأجاب المحقق العراقي، على هذا الإيراد بالقول:


إن النسبة المستعملة في الآية هي نسبة جامعة بين نسبة الفعل إلى المفعول به ونسبة الفعل إلى المفعول المطلق، وبإطلاق الموصول نثبت إرادتهما معا، أي إرادة المفعول به والمفعول المطلق،


وقد رد السيد الصدر الأول، على المحقق العراقي بما حاصله:

إن النسب وحقيقتها عبارة عن معان حرفية كل نسبة مغايرة مع النسب الأخرى،

وعليه : لا جامع حقيقي بين النسب حتى يتم مطلوب المحقق العراقي ودعواه بالجامعية بين النسب،

نعم، الجامع الأشاري موجود بين النسب و لكنه مفهوم اسمي وليس معنى حرفي حتى يمكن استعمالها في المقام،

وأن أراد المحقق العراقي القول أن الجامع المذكور هو نسبة مباينة مع كلتا النسبتين ولكنهما تنطبق عليهما معا فهذه النسبة لا نتصورها، إذ لا دليل عليها ولا يكفي مجرد الادعاء،

أقول: إذا تمت مناقشة أصل الإثارة النائينية فلا محصل بعد ومناقشة رد السيد الصدر على المحقق العراقي وتوجيه عبارة المحقق بمحتمل هو إرادة الجامعية هو نسبة المباينة غير أنها تحتاج إلى مؤونة بالإثبات والدعوى بمفردها غير كافية في المقام،


المناقشة الثانية: للنائيني أيضا،

إن المصدر تارة يلحظ بما هو حدث تلبس به الإنسان أي بما هو حدث صادر من فاعله، وأخرى يلحظ بصورة مستقلة عن فاعله، أي يلحظ بما له من وجود مستقل بعد حدوثه، وإذا كان لا يمكن أخذه في اللحاظ الأول بنحو المفعول به، فإنه يمكن أخذه باللحاظ الثاني بنحو المفعول به، لأنها حالة متحققة ولوحظت كذلك،

وعليه: سوف تكون النسبة وعلى هذا الأساس في جميع الاحتمالات ( أي احتمال كون الموصول هو المال أو الفعل أو التكليف أو جميعا كما هو مقتضى الإطلاق ) نسبة الفعل إلى المفعول به، فيكون ( تكليفا ) مشمولا لإطلاق الموصول لوحدة النسبة بين الفعل ( يكلف ) ومصاديق الموصول المحتملة وهي المال والفعل والتكليف ( فوائد الأصول ج٣)

أقول بهذه المناقشة تفحص المحقق النائيني من إشكال المناقشة الأولى، بعد أن جعل ثلاث محتملات للموصول،

(١) المحتمل الأول ( التكليف )

(٢) المحتمل الثاني ( المال )

(٣) المحتمل الثالث ( العموم )

ورجح الثالث وهو الحق بعد أن نلحظ كون الانطباق في المقام هو من انطباق الكلي على بعض أفراده، وما يؤيد بهذا الكلام رواية عن الإمام الصادق (ع) حين سئل عن تكليف الناس بالمعرفة قال: على الله البيان لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها، ( أصول الكافي ج١)

وكما تلاحظ استدلال الإمام (ع) تطبيق الكلي على بعض الأفراد مع ان الآية التي استشهد بها حسب مدعى المستشكل بأنها خاصة في قضية المال والإيتاء ونحو ذلك، ولا قول بعد قول الإمام (ع) فلاحظ،

المناقشة الثالثة: وهي للصدر على ما في التقريرات،

وحاصلها: أن الآية ناظرة إلى معذرية العجز التكويني وليست ناظرة إلى معذرية الجهل، فيكون معناها هو عدم التكليف في مورد العجز، عجز المكلف من الاتيان به، بقرينة،

أولا: سياق الآية ( لينفق ذو كل سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها )

فالتعبير بمن قدر عليه رزقه هو ما نعنيه بالعجز التكويني وعدم القدرة يلحظ بهذا اللحاظ وليس بعدم الوصول المدعى،

ولا يقال ( والكلام للسيد الصدر الأول ) لا مانع من كون مراد الآية المطلبين معا، أي عدم التكليف في مورد العجز وعدم الوصول،

فأنه يقال: أن المطلبين معنيان متغايران متباينان عرفا ولا يمكن إرادتهما جدا في دال واحد،

أقول: أن الأصل وحسب صدر الآية فالكلام تام أنها ناظرة لمورد العجز التكويني، ولكن لو كنا نحن والذيل، ذيل الآية لامكن لنا الاستفادة من ما ندعيه من عدم الوصول،

وعليه فتكون الآية دالة على مطلبين مع تغايرهما وتباينهما عرفا معا، إذا نظرنا لكل من صدر الآية وذيها على حده،

بل يمكن القول حتى لو نظرنا بناء على فهم السيد باقر الصدر وكون الآية ناظرة للعجز التكويني فقط وفقط،

لكن هذا الفهم قد نقضه الإمام الصادق ( ع) في رواية الكافي التي ذكرناها سابقا،

أما الإمام (ع) كيف نظر للآية لا اعرف هل نظر لها كما نظر إليها السيد باقر الصدر ومع أنها في مورد تكويني طبقها في مورد تشريعي، أو أنه (ع) نظر لذيل الآية بمعزل عن صدرها وطبقها على بعض الأفراد،

ما يهمنا هو أن إشكال السيد الشهيد مردود بما ذكرته أعلاه أو بما طبقه الإمام (ع) كما في الرواية.






إرسال تعليق

0 تعليقات