نصر القفاص
المسافة بين مساء 8 يونيو 1967 وهو اليوم الذى غادر فيه "عبد الحكيم
عامر" مقر القيادة العامة للقوات المسلحة.. ومساء يوم 25 أغسطس وهو اليوم الذي
استقبله فيه "جمال عبد الناصر" فى منزله بمنشية البكرى, بحضور كل من "زكريا
محيى الدين" و"أنور السادات" و"حسين الشافعي".. شهدت
أحداثا درامية وتطورات شديدة الخطورة, وبقيت سرية حتى تحدث عدد كبير من شهود هذه
الفترة..
بعضهم كتب مذكرات لتبقى شاهدا على ما حدث.. آخرين أدلوا بأحاديث صحفية
وتليفزيونية وإذاعية قالوا فيها الكثير من المعلومات..
ومعظم الذين تحدثوا ونشروا مستندات أكدوا على أن أرشيف رئاسة الجمهورية
والمخابرات, فيهما التفاصيل والوثائق التى يصعب التشكيك فيها.. ورغم ذلك بقيت
للأكاذيب سطوتها, وللشائعات مكان الصدارة.. رغم أن الحقيقة حية ولم تمت!!
والمسافة بين الساعات الأولى ليوم 26 أغسطس, حتى يوم 13 سبتمبر.. كانت لها
تفاصيل أخرى.. كانت ذروتها إعلان وفاة المشير "عامر" منتحرا.. ثم عشنا
سنوات طويلة – ومازلنا – نسأل هل انتحر "عامر" أم تم اغتياله.. البعض
اختار "الفذلكة" وقال "استنحروه"!!
ومعظم الذين تصدوا للإجابة, يعتمدون
على خيالات.. لا يذكرون معلومات.. وكان الهدف دائما هو الغمز واللمز تجاه "عبد
الناصر"..
وقطاع عريض يوجه الاتهام قاطعا نحو "عبد الناصر".. يحدث كل ذلك
والمعلومات وشهود الانتحار بالعشرات.. صفحات التحقيق فى القضية تضم شهادات الجميع..
قادة وضباط.. أطباء.. رجال قضاء.. أهله وأسرته.. وزراء.. كلهم وقعوا على أقوالهم
فى القضية.. لم يشكك فى انتحاره – خلال التحقيق – سوى بنتيه استنادا إلى أنه مؤمن
ولا يمكن ينتحر.. هكذا وفقط.. ودون ذلك كل الأوراق والشهادات والوثائق تؤكد أنه
انتحر.. وتبلغ الإثارة قمتها حين نعلم أن الحقيقة حية.. لكنها صامتة.. ليست خرساء!!
بينما الأكاذيب تمارس الزهو بنفسها!!
لعلى أتحدث قاطعا, لأنني قرأت كل التفاصيل.. دققتها.. حققتها.. وأملك عقلا
باردا.. وموقفا لا ينكر على المشير "عبد الحكيم عامر" أنه كان واحدا من
أبطال ثورة 23 يوليو.. وأصدق كل من تحدث عنه بأنه كان رجلا وطنيا مخلصا.. وكان
شهما.. كان صادقا وأمينا.. وكان الأقرب للصديق والرئيس "عبد الناصر" الذي
لم ينكر ذلك, حتى بعد رحيله.. وأصدق – أيضا – عقلي الذي لا يخدعنى حين يحدثني بأن "عبد
الحكيم عامر" كان أكبر ثغرة فى زمن "عبد الناصر" وسبب له أزمات
عديدة, انتهت إلى كارثة 5 يونيو.. وشاء "عامر" أن يعالج الكارثة بمحاولة
صناعة كارثة أخرى, بالإقدام على تنفيذ انقلاب عسكري كان يمكن أن يحرق الوطن كله.. وشاء
أن يغادر الدنيا بتنفيذ كارثة "الانتحار" بعد أن هدد بارتكابها عدة مرات
أمام كثيرين.. وكلهم حكي وتحدث بالتفاصيل.
لماذا إذن بقى السؤال.. انتحر أم قتل أم استنحر مشتعلا؟! ومن كان وراء
إشعال حريق هذا السؤال, ومن الحريص على استمرار اشتعال هذه النيران؟!
الإجابة.. ذكرها واضحة لا لبس فيها "عصام حسونة" وزير
العدل الأسبق والذي حدثت واقعة الانتحار وقت توليه المسئولية.. وكان معروفا عنه
أنه مقرب للمشير "عامر" وعائلته.. وهو كان أحد وكلاء النيابة الذين
حققوا جريمة "السيارة الجيب" قبل الثورة, وكذا اغتيال "محمود فهمي النقراشي"
على يد جماعة "الإخوان" وبينهما أنه كانت تربطه علاقة وثيقة بمرشد
الجماعة "حسن الهضيبى".. وشغل بعد الثورة منصب المحافظ لثلاث محافظات ثم
وزيرا للعدل.. وكان معروفا عنه شجاعة فى قول رأيه, وعنيدا بما لا يجعله يقبل الصمت
لتمرير أزمة أو موقف.. وكتب مذكراته ونشرها فى مطلع التسعينات, وصدرت عن مؤسسة "الأهرام"
فى صمت مريب!!
فى مذكراته كتب "عصام حسونة" يقول: "بعد وفاة الرئيس
جمال عبد الناصر.. فى مطلع السبعينات.. وبعد أن استقر الحكم للرئيس محمد أنور
السادات.. التقيت مصادفة بالمهندس حسن عامر شقيق المشير.. كنت أمارس رياضة المشي
على كوبري قصر النيل.. فوقف يحييني فى ود وحرارة.. كنت لم أره منذ وفاة المشير.. قال
لي: آل عامر لا ينسون لك مواقفك معهم.. ثم بادرني بالسؤال..
إننا نشعر أن المشير لم ينتحر.. هل قتل؟! وهل يمكن أن يعاد التحقيق فى
الحادث؟!
قلت له.. القضية قضية شهود.. وقد قرر هؤلاء الشهود – على سبيل القطع – أن
الوفاة انتحارا.. وأيدهم فى ذلك صفوة الأطباء الشرعيين فى مصر.. فهل عندك ما يفيد
أن شهود الحادث مستعدون اليوم للعدول عن شهاداتهم وأقوالهم؟!
أجاب.. لا..
قلت له: هل استشرت أحدا من رجال الحكم الجديد؟! قال: نعم..
استشرت أنور السادات وقد شجعني على
طلب إعادة التحقيق؟!
قلت: فى قضايا الوفاة بالسم, لا يفرق بين القتل والانتحار شيء.. فالصورتان
لا تختلفان من حيث الآثار المادية.. ففى الحالتين يتناول الضحية السم بيده عامدا
أو مخدوعا أو مكرها.. ثم أضفت: إن الشهود الذين رافقوا المشير فى الساعات الأخيرة..
هم وحدهم بعد الله الذين يعرفون إن كانت الوفاة انتحارا أو اغتيالا.. سكت وشكرنى..
مضى كل فى طريقه"!!
من هنا تم فتح هذا الملف الذى استمر مفتوحا.. رغم أن "أنور السادات"
أكد فى مذكراته "البحث عن الذات" أن المشير انتحر!!
ومذكرات "عصام حسونة" ضمت كافة المستندات والحقائق.. وتم
دفنها بعد نشرها.. تجاهلها الإعلام كغيرها من المذكرات التى كانت تذكر إيجابيات
زمن "عبد الناصر" وتحدياته.. وكانت الحفاوة.. كل الحفاوة بالمذكرات التى
تطعنه وتشوه زمنه!!
قدمت قبل أن أذهب لسرد بعض الوقائع والتفاصيل, ما اعتقده تفسيرا لحالة غموض
استمرت لأكثر من نصف قرن.. لم أعتمد على خيال أو شهادة شفهية.. بل هى شهادة مكتوبة,
والكلمة المكتوبة لا تموت.. ونار الحقيقة تأكل كل نيران الإشاعات والأكاذيب مهما
طال زمن الحرائق!!
عندما غادر "عبد الحكيم عامر" منزل "عبد الناصر" تم
توصيله إلى منزله بالجيزة, بعد تنظيفه من الأسلحة والذخائر والقبض على من كانوا
ضالعين فى الانقلاب..
عاش بين أسرته وأولاده فى إقامة إجبارية.. وصدر بعد ذلك قرار رئيس
الجمهورية رقم 2209 لسنة 1967 بتشكيل "محكمة الثورة" برئاسة "حسين الشافعي"
وعضوية الفريق "عبد المنعم رياض" واللواء "سليمان مظهر"..
ثم صدر بعدها قرار رئيس الجمهورية بتعديل تشكيل المحكمة, وتم فيها استبدال
اسم الفريق "عبد المنعم رياض" بالفريق "محمد على عبد الكريم"..
لانخراط "عبد المنعم رياض فى عملية إعادة بناء القوات المسلحة.. وشمل القرار
إحالة 55 متهما بقلب نظام الحكم والاستيلاء على قيادة القوات المسلحة.. وكان "شمس
بدران" هو المتهم رقم "1".. و"عباس رضوان" المتهم
الثانى.. و"صلاح نصر" هو المتهم الثالث.. و"جلال هريدى"
المتهم الرابع.. و"عثمان نصار" هو المتهم الخامس..
وبدأت المحكمة نظر القضية يوم 22 يناير 1968, ونشرت الصحف – آنذاك – الوقائع
والتفاصيل.. وحملتها كتب عديدة نالها تعتيما مذهلا, للتشويش على الذاكرة الوطنية..
ثم صدرت الأحكام التى لم ترض قطاعات عريضة, خاصة الطلاب فانفجرت مظاهرات عارمة.. لأن
الأحكام خلت من الإعدام!!
كانت الهتافات التى يرددها الطلاب "تسقط دولة المخابرات" و"تسقط
صحافة هيكل" و"لا علم بدون حرية" و"يا جمال الشعب هوة هوة.. اضرب
الخونة بقوة" و"يا سادات يا سادات.. فين قانون الحريات" و"يا
شعراوى يا جبان راحوا فين عمال حلوان"!!
أعود لمذكرات "عصام حسونة" الذى ذكر أنه عرف بخبر وفاة المشير, من
"شعراوى جمعة" وزير الداخلية الذى طلبه هاتفيا وقال له: "أنا
شعراوى جمعة يا أخ عصام.. صاحبك المشير توكل"!!
وعندما استفسرت عن المعنى مندهشا..
قال لى: "انتحر" وأضاف: "سأرسل لك سيارة خاصة تحمل بعض الضباط, ليكونوا
تحت تصرفك وتصرف النيابة العامة" ويضيف: "دعوت النائب العام ورجال
النيابة وكبير الأطباء الشرعيين لاجتماع عاجل.. حضر المستشار عدلى مصطفى بغدادى
المحامى العام, وأحمد أبو العز رئيس النيابة, والدكتور عبد العزيز
البشرى كبير الأطباء الشرعيين, ومعاونة الدكتور محمد مصطفى.. وغاب
المستشار محمد عبد السلام النائب العام لوجوده خارج القاهرة..
وأبلغتهم عندما وصلنا إلى مسرح الجريمة.. قلت لهم.. أبلغني وزير الداخلية
أن المشير انتحر.. وشددت على كلامي وأنا أقول لهم.. أنتم تتحملون أمام التاريخ
مسئولية ثقيلة.. الحادث كما يحتمل الانتحار.. يحتمل بالقدر نفسه الاغتيال.. أنتم
وحدكم القادرون على ترجيح احتمال على آخر.. مهمتى كوزير للعدل هو أن أحمى ظهوركم
وأصون استقلالكم فى هذه الساعات التاريخية الخطيرة.. ثم دخلنا إلى الغرفة التى
يرقد بها جثمان المشير.. أثبت عدلى مصطفى بغدادى المحامى العام الحالة, وسجلها فى
المحضر".
لكن المشير "عامر" مات فى استراحة على ترعة المريوطية, ولم يمت
فى منزله بالجيزة.. لأنه كان قد تقرر نقله من منزله, إلى هذه الاستراحة ليتم
التحقيق معه فيها حول قيادته لانقلاب على نظام الحكم.. أخذته الصدمة فى منزله
وحاول أن يتهرب أو يهدد.. لكنه رضخ وذهب يوم 13 سبتمبر مع الفريق "محمد فوزى"
والفريق "عبد المنعم رياض" والعميد "سعد عبد الكريم" وعدد من
الضباط والجنود.. إضافة إلى العميد "محمد سعيد الماحى".. وكانت المفاجأة
أنه ابتلع لفافة بقصد الانتحار.. وذلك دفع الجميع إلى الاتجاه نحو مستشفى القوات
المسلحة لإنقاذه, وخلال الرحلة حاول الفريق "عبد المنعم رياض" إخراج
اللفافة التى ابتلعها.. وعندما لفظها نزلت فى يد الرائد "عصمت محمد مصطفى"
من الشرطة العسكرية.. وتم تسليمها لإدارة المستشفى لتحليلها فور وصولهم جميعا.. وهناك
تابع وشاهد عشرات الأحداث, وتمت محاولة إنقاذه بنجاح.. ثم أخذوه واتجهوا إلى
استراحة المريوطية..
يتبع
0 تعليقات