الدليل الثاني:
قوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) الإسراء/١٥.
ومفادها، ملازمة العذاب لتمامية الحجة وتحقق المخالفة، ومع عدم تماميتها لا
موضوع للعذاب، كما أنه مع تماميتها وعدم المخالفة لا موضوع له أيضا وهذا هو
المرتكز في العقول ( تهذيب علم الأصول ج٢ بتصرف بسيط ).
إذن: يمكن فهم ( رسولا ) مطلق الحجة ومع عدم ثبوت هذه الحجة فلا عقاب،
وأشكل عليها بعدة إشكالات:
الإشكال الأول: إن الآية في مقام الأخبار عن جريان عادة الله في
القرون الخالية والأمم الماضية بالنسبة للعذابات الدنيوية، وليست في مقام بيان نفي
العذاب الأخروي الذي هو محل البحث،
وقد أجيب عليه:
بما حاصله: إن الآية مطلقة وتخصيصها يحتاج إلى دليل للانصرف للتخصيص وهو
مفقود، بل يقال أن المورد لا يخصص الوارد.
الإشكال الثاني: أن الآية تنفي فعلية العذاب ولا تنفي إستحقاق العقاب،
إذ قد يستحق المكلف العقاب إلا أن المولى يرتفع فعليته، والمقصود بالاثبات نفي
الاستحقاق لا نفي الفعلية، ولا ملازمة بين عدم فعلية العذاب وعدم ثبوت الاستحقاق،
إذ قد ينفى العذاب رغم الاستحقاق، كما في موارد الشفاعة،
وقد اجيب عليه:
أن دعوى الملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق قريبة جدا خصوصا بالنسبة
لعنايات الله غير المتناهية، سيما قبل تمامية البيان والحجة، لأن الملازمة حينئذ
حجة متحققة وخروج بعض الأفراد عن هذه الملازمة - على فرض التسليم - فهو خروج بدليل
خاص لا يضر بدعوى الملازمة ما لم يدل دليل على الخلاف، وقد دل الدليل على عدم
الفعلية في مورد الشفاعة كما ذكر اعلاه، ومرود تكفير السيئات بالحسنات مع تم هذه
الموارد خارجة تخصصا عن المقام بلحاظ تمامية الحجة وثبوتها على المكلف المخالف،
إذن: يمكن القول أن الآية تدل على أكثر من نفي فعلية العذاب وكونها تشمل من
يستحقه كذلك،
الإشكال الثالث: وقد سجله السيد محمد باقر الصدر، وذكره النائيني في
بحثه،
وحاصله: أن لفظة ( رسولا ) في الآية كناية عن الحجة اي لا نعذب من دون
إرسال حجة، والحجة اعم من الحجة الشرعية والحجة العقلية، وحينئذ فان معنى الآية هو
: أن الشارع ليس من شأنه أن يعاقب مع عدم وجود حجة على التكليف، ومن الواضح أنه في
مورد وجود حجة ولو عقلية من قبيل حق الطاعة أو وجوب الاحتياط فان العذاب ليس خلاف
شأن المولى، أما متى تثبت الحجة ومتى لا تثبت فالآية ليس لها دلالة على ذلك، فتكون
الآية إرشادا إلى حكم عقلي واضح و هو حق الطاعة للمولى في مورد ثبوت الحجة على
التكليف، وحينئذ تكون مورودة لكل دليل يثبت وجوب الاحتياط،
إلا أن هذا الإشكال ( مع ما فيه من خلط فاضح ) قد رده السيد الصدر على ما
في تقريرات بحثه فلا مزيد ونقل الرد فيطلب من مظانه، نعم لو تبناه لكتبنا الرد
وبيان الخلط،
وبعد أن استعرضنا جملة من الآيات القرآنية لإثبات المدعى، مع إيماننا كون
تلك الآيات هي إرشادية،
قد تركنا آيات أخر، لأنها إما ترجع بالتالي لتلك النصوص القرآنية وما يودى
مؤداها، أو قد تجدها قاصرة على الدلالة وما نريد، ومن رام الاطلاع على الآيات
القاصرة في الدلالة فما عليه إلا مراجعة ما ذكره الشيخ الأنصاري في بحثه الأصولي،
وعليه: قد وصلت النوبة للاستدلال الروائي في هذا البحث، لنرى هل الروايات
دالة أو قاصرة في المقام،
الدليل الأول: على البراءة من السنة،
حديث الرفع : ومفاده ( رفع عن أمتي تسعة: الخطأ، والنسيان، وما اكرهوا
عليه، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، ، ، ( الخصال ج٣)
والرفع خلاف الوضع للغة وعرف، ويمكن فهمه ككبرى لصغرى وجدانية، هو في مقام
الامتنان، ومما يفهم من إطلاقه تعمييم متعلق الرفع لكل ما أمكن رفعه في الشريعة،
سواء من التكليفات، نفسيا كان التكليف أو غيريا، حكميا كانت الشبهة أو موضوعية،
كما نعم الوضعيات التأسيسية والامضائية،
والتزيلية ( تنزيل الموجود منزلة المعدوم وتنزيل المعدوم منزلة الموجود ) فيرفع
الإلزام والصحة والجزئية والشرطية والسببية والمسببية، والقضاء والإعادة وكل أثر
شرعي إلا ما خرج بدليل، ( التهذيب ج٢ بتصريف )
ومفاده ( وما لا يعلمون ) تثبت البراءة، فإن الأحكام الشرعية كما يتصور
الوضع والإثبات فيها، يتصور الرفع أيضا،
وكيف كان: ما نحن فيه ومعنى الرفع، هو الرفع التشريعي التنزيلي، كقوله (ص)
( لا شك في نافلة ولا شك لكثير الشك )
وقد بحث علماء الأصول هذا الحديث وغيره بجهات متعددة كالشيخ الأنصاري
والمحقق العراقي وصاحب الكفاية، وغيرهم من الفقهاء، وناقشهم السيد الشهيد الصدر
الأول،
وكل ما ذكروه هناك تأييدا أو إيرادا تركته عن علم وعمد في البحث السنتي
واقتصرت على عرض الحديث وفهمه فهما عرفيا فقط، وأن الأساس كل الأساس تم في
الاستدلال العقلي وما نحن فيه من نصوص فهي من قبيل الإرشادات والقرائن المؤيدة في
إثبات كبرى المطلب،
إذن: الاستدلال بحديث الرفع، متوقف على لفظ ( ما ) في ما لا يعلمون، التي
هي موصولة المعممة للحكم والموضوع المجهولين، كجهل المكلف بحكم شرعي أو موضوع
خارجي، فيكون المكلف مشمولا للفظ ( ما ) لا يعلم، وهو معذور على كل حال، في
الشبهات الحكمية والموضوعية،
إضافة، إلى أن الرفع كما يكون تكويني فهو أيضا يكون تشريعي، ومعنى التشريعي
هو نسبة الرفع إلى الشيء بالعناية والمجاز باعتبار رفع الأثر ( لا شك لكثير الشك )
كما ذكرنا سابقا، ومعلوم أن المرفوع ليس نفس الشك بل أثره،
فصار بالتالي سببا لنسبة الرفع لذاته، وأما الأمور الأخرى كالخطأ والنسيان
وما عطف عليه الحديث، فهي نسبة ادعائية وهذه الموضوعات الادعائية مسلوبة الآثار
صحت نسبة الرفع إلى ذاتها بلحاظ عدم وجود أثارها،
وكيف كان: عدم المؤاخذة مرتفعة وهذا هو معنى البراءة باختصار شديد، فرفع كل
أثر مرتب على المجهول إلا إذا دل الدليل على عدم رفعه، كنجاسة الملاقي فيما لو شرب
المكلف المائع المشكوك فبان أنه خمر، فلا ترتفع نجاسة كل ما لاقى الخمر،
الدليل الثاني: حديث كل شيء لكل مطلق:
و هو مرسل الصدوق، عن الإمام الصادق (ع) قوله ( كل شيء مطلق حتى يرد فيه
نهي ) ولا معنى للوقوف على لفظ المرسل باعتبار توجد أحاديث أخرى وما بوافقها في
بعض الأبواب الفقهية الحديثية،
وكل شيء مطلق يعني مباح أو حلال وهذا يفهم من لفظ النهي المقابل، التحريمي
أو التنزيهي، فالإباحة هنا تكون في مورد عدم البيان،
إذن: كل ( شيء ) يراد منه مطلق المجهول، مجهول الحكم والإطلاق فيه من
الوضوح بمكان فهو شامل الموضوعية والحكمية معا، أما شموله للوجوبية فبالملاك، أو
لان ترك الواجب منهي عنه، وقد اعتبر الشيخ الأنصاري هذه الرواية من أظهر روايات
الباب، خلافا للآخوند حيث احتمل ان يكون المراد من الورود، هو الصدور، لا الوصول،
الدليل الثالث: حديث التزويج في العدة،
وبما ورد ( فيمن تزوج امرأة في عداتها ) حيث قرر الإمام (ع) عذرية كلتا
الجهالتين، وقد قال الراوي بعد ذلك ( بأي الجهالتين اعذر ) وفي فقه الحديث ( عذر
الناس بما هو أعظم ) تام حسب الموازين العقلية والشرعية، كالجاهل القاصر بالأصول،
الدليل الرابع : حديث الحجب،
وصيغته ( ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم )
مما يدل على وجود شيء مستور وبالوضع لا معنى للاحتياط بعد، ولفظ ( ما ) الشيء
الشامل،
قد يقال: أن الحجب بمعنى عدم البيان واخفائه وهذا يساوق عدم التشريع، فيقال
حينئذ أن مع الحجب وعدم التشريع فالتكليف موضوع،
وهذا الحجب منسوب لله لا للناس كما لو حجب من قبل الظالمين حتى يقال، ان ما
محجوب بسببهم ساقط عن الناس،
فإنه يقال: إن عدم الحجب كما يفهم من معناه ما ذكر اعلاه فيفهم منه كذلك،
الأحكام التي لم يبينها الله لعدم المقتضي أو لوجود مانع، وإحتمال ظهورها يكون في
زمان الإمام المهدي (ع) وهذا ما أشارت إليه بعض النصوص ( يأتي بدين جديد )
الدليل الخامس: موثقة مسعدة،
( كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ، ، إلى قوله
، ، والأشياء على هذا حتى تستبين أو تقوم به البينة )
والدلالة واضحة ولا إشكال في شمول الموضوع للشبهة الموضوعية - وأن اختلفوا
في الحكمية - فالآخوند ذهب للشمول، والشيخ ذهب للعدم –
وكيف كان: المراد بالحل الإرسال والشمول للحكم، والاستبانة اعم كما هو ظاهر
الحديث،
وفيه أن الشمول للحكم تكلف واضح ومع الشك يكون التمسك بها من قبيل التمسك
بالعام في الشبهة الموضوعية،
ويتمكن التفحص من التكلف بملاحظة أمور:
منها : الملاك،
منها: ( لك ) مثل ( لكم ) باب المنة والامتنان
ولكن بالتالي هذه الملاحظات فيها كلفة زائدة لا نحتاجها مع ما بينا سابقا
واثبات المطلب،
الدليل السادس: حديث السعة،
وصيغته ( الناس في سعة ما لا يعلموا ) وبدلالة ( ما ) يستفاد من البراءة،
بناء على كونها موصولة مضافة، ومفادها مفاد حديث الرفع،
إذن الإشكال: في خصوص ( ما ) هل هي مصدرية أو موصولة، واختلاف فقه الحديث
باختلاف معنى فهم ( ما )
ويمكن مراجعة الكتب اللغوية والنحوية لمعرفة المزيد وكذلك يمكن مراجعة
تقريرات السيد الخوئي والسيد الصدر الأول لمعرفة طبيعة المناقشة،
وعلى اي تقدير، ان البحث الاستدلالي السنتي يؤيد مبنى البراءة الشرعية في
الجملة ومع عضد البحث السنتي مع الاستدلال القرآني يتم المطلوب فضلا عن دليل العقل
الذي هو العمدة فيما نحن فيه، ومن هنا تعرف لم لم نخوض وتستعرض معركة الآراء في
البحث السنتي بين الأصوليين،
وإلى هنا ينتهي البحث، وكما ترى أن الأدلة العقلية والشرعية وأصالة عدم
الدليل وغيرها كلها تؤيد هذا المذهب، والمبنى المشهوري، والوجدان خير شاهد بالمقام....
والحمد لله رب
العالمين،
0 تعليقات