أحمد مبلغي⇭
[وفقًا لوعدي السابق، لا يجب أن أخوض في بحث مفصل حول الاستقراء (لأن
الفرصة هنا لا تسمح بالمناقشات التفصيلية، وإنما الفرصة لتناول القضايا ذات الصلة
المباشرة بهذا المرض) ولكن نظرًا لأن احد الأعزاء الفضلاء، ترك تعليقًا قيمًا،
فهذا التعليق دفعني إلى البقاء قليلا في البحث عن الاستقراء، وإجراء بحث يلقي
المزيد من الضوء عليه.
يعكس هذا البحث -الذي أقدمه هنا- قضية علمية مهمة ومنهجية، تعطينا نظرة
ثاقبة للتحرك العلمي في العديد من مجالات الاجتهاد، بما في ذلك، ما يتعلق
بالاستقراء].
نقاط إيضاحية:
النقطة الأولى: هناك مدرستان كبيرتان:
هناك مدرستان اجتهاديتان كبيرتان قد عَبَرَتا وتَحَرَّكتا وتبلورتا عبر
التاريخ، كتفا الى كتف، وهما: مدرسة القرائن ومدرسة القواعد.
وقد استطاعت كل مدرسة من هاتين المدرستين إثبات وإبراز قدراتها وطاقاتها في
مختلف مجالات الاجتهاد، وتمكّنتا في العديد من العلوم المتعلقة والملصقة بالفقه،
من تشكيل الإشارات والأدبيات المناسبة لأسسهما.
النقطة الثانية: المجالات الأربعة لبلورة المدرستين :
إن المدخلات والمخرجات والمواصفات لكل مدرسة قد ظهرت في مجالات اجتهادية
مهمة أربعة على النحو التالي:
١- تأسيس القاعدة الرجالية.
٢- تأسيس القاعدة الأصولية.
٣- تأسيس القاعدة الفقهية.
٤- إجراء عملية الاستنباط الفقهي، (والوصول الى الرأي الفقهي فيها).
النقطة الثالثة: نقطة الاختلاف الجوهرية بين المدرستين:
إن البحث عن الاختلاف بين هاتين المدرستين، يعد نقاشاً مركزياً ومهماً، ولا
توجد هنا فرصة مناسبة للدخول في هذا النقاش، ولكن على الفور -وبإيجاز وباختصار- يمكن
تقديم البيان التالي:
عادةً ما یكون القواعديّون، تميل وتتّجه عقولهم وأذهانهم نحو تكوين الأفكار
الاجتهادية بالاستناد إلى مجموعة من الأطر والقواعد والضوابط، بينما القرائنيّون
يسعون إلى فحص وجمع القرائن المتناثرة هنا وهناك، (صغيرها وكبيرها) وبالتالي،
تحليلها، وفي النهاية، الانتقال عبرها إلى الاطمئنان العلمي بنتيجة مبنية عليها،
سواء كانت نتيجة هذه القرائن، إنشاء قاعدة فقهية أو قاعدة أصولية أو قاعدة رجالية
أو كانت نتيجتها الوصول الى فكرة اجتهادية في ساحة الاستنباط.
النقطة الرابعة: ذكر شخصية قواعدية بارزة كنموذج:
في حين أنه توجد في مدرسة القرائن، شخصيات مهمة معاصرة، (ويكون على رأسهم،
صاحب الجواهر، الذي يجب أن يبحث عنه في المجال المناسب) نجد شخصية قواعدية معاصرة،
وهو السيد المحقق الخوئي.
الواقع أن هذه الشخصية لم يتحرك على أساس القرائن بشكل مبدئي، لا في الأصول
ولا في علم القواعد الفقهية ولا في الرجال ولا في عملية الاستنباط، فعلى سبيل
المثال، لم تكتسب فكرة الإجماع الأصولي (التي تستمد كيانها من تجميع القرائن؛ حيث
تبتني على أساس تراكم الظنون أو حساب الاحتمالات) مكانة بارزه وأهمية كبيرة في نظر
هذه الشخصية.
أو أنه لا يؤمن بقاعدة الجبر والكسر بالنسبة الى أسانيد الروايات، بل هو
يركز أساسا على وضعية الأسانيد، صحتها أو ضعفها.
أو أنه لا يمكن ملاحظة أي تحليل تاريخي قائم على جمع القرائن التاريخية في
نظامه التفكيري وجهازه الفقهي الاستنباطي.
نعم في بعض الحالات تشاهد في استنباطاته، الاستفادة من القرائن؛ ولكن هذه
الاستفادة ليست بارزة جدا أولا، والغالب أنها قرائن داخلية ولفظية، ثانيا،
واستفادته منها للتأييد (لا للتأسيس) ثالثا، وهذا المقدار من أثر ما تركه الفقهاء
في الفقه بشكل طبيعي، رابعا.
وعلى أي حال، هذا المقدار الذي يشاهد أحيانا في فقهه، لا يجعله شخصية
قرائنية.
النقطة الخامسة: الاستقراء بين مدرستين:
الاستقراء يعد من تلك الموضوعات التي تم تحديد مصيرها من حيث النفي
والإثبات والقوة والضعف، في ظل النظرات المدرسية والاختلاف القائم بين المدرستين.
والحقيقة أن الاستقراء لدى مدرسة القرائن، ظل أساساً للعديد من الحركات
الاجتهادية النشطة والمصيرية، بما في ذلك وضع القواعد.
بالطبع، هذا الاستقراء الذي تبنّتْه هذه المدرسة، ليس كل استقراء، بل هو
الاستقراء الذي يمتلك بعدا قرائنيّاً قوياً وبارزا للغاية؛ الاستقراء الذي عبرنا
عنه بالاستقراء الكاشف عن التوجه العام التشريعي للشارع.
النقطة السادسة: ذكر مثال للاستقراء المنتهي إلى تأسيس القاعدة:
إذا أردنا أن نضرب مثالًا للاستقراء الكاشف عن الحركة التشريعية السائدة
على الفقه، فيمكننا ذكر الاستقراء الذي كشف عن قاعدة "تعدد المسببات بتعدد الأسباب"،
فقد ذكر ذلك صاحب الجواهر، وركز على صحة وإتقان وقوة هذه القاعدة، استنادا الى
الاستقراء، فقد صرح بأنها:
"ما يقضي به الاستقراء في جميع أبواب الفقه من الصلاة والزكاة والحج
والصيام والأيمان والنذور والديون والحدود وغيرها عدا النزر القليل المستند إلى ما
جاء فيه من الدليل على اختلاف في كثير من أفراده....." ( الجواهر، ٢: ١٣١).
وإذا أردنا إظهار الواقع هنا، فإن مثل هذا الاستقراء الذي تمسك به صاحب
الجواهر، ليس من سنخ الاستقراء العادي، بل هو من الاستقراء المُظْهِر للتوجه العام
التشريعي للشارع، والمبلور لسيرته التشريعية؛ التعبير الذي سبق منا تقديمه.
وإذا أردنا اكتشاف هيمنة وفاعلية مثل هذه الحركة التشريعية العامة في
المثال المشارإليه أعلاه، يمكن القول: إن قوة هذه القاعدة (التي تم اكتشافها
وبلورتها من خلال الاستقراء) تظهر في عدم توجه الفقهاء الى بعض الروايات التي يبدو
أن لها الظهور المخالف لهذه القاعدة، حيث إنهم قاموا بطرح ظهوراتها، أو بحملها على
النظر الى الموارد الخاصة؛ ولم يحصل هذا الطرح أو الحمل الا لقوة تلك الحركة
التشريعية، يقول صاحب الجواهر:
"ما يظهر من كلام الأصحاب في جميع أبواب العبادات والمعاملات من
البناء على تعدد المسببات بتعدد الأسباب، .... وكان هو المتمسك لهم في كثير من
المقامات، بل يرسلونه إرسال المسلمات، ولم يخرجوا عنه إلا بدليل، بل قد يطرحون في
معارضته النصوص ويتركون الظواهر". ( الجواهر، ٢: ١٣١).
[هناك نقطتان مهمتان أخريان حول الاستقراء تتناولان إيضاح حجية الاستقراء
من جهة، ودور النص في تأسيس القاعدة على أساس الاستقراء من جهة أخرى سأقدمهما
إنشاء الله في المنشور الآتي].
⇭مرجع دينى إيرانى
0 تعليقات