آخر الأخبار

كورونا... بين يقين العلم وفهم الدين









علي أبو الخير


منذ تفشي فيروس كورونا في العالم، وهو فيروس عابر للحدود وعابر للمشاعر وعابر فوق الطبقات؛ لا يفرق بين غني وفقير أو بين أمير وخفير، أو بين دولة متقدمة وأخرى نامية. ومنذ انتشاره حدث جدل كبير حول علاقة ما حدث من وباء وما تفاعل معه المتدينون المؤمنون المتشددون، على اختلاف كل الأديان؛ فجماعة يهودية متشددة في إسرائيل تتحدى الحظر وتجتمع في صلواتها، وأشقاء من الشيعة يلتمسون البركات من أضرحة أهل البيت في إيران والعراق، وإخوة من أهل السُّنة والجماعة من المتصوفة والسلفيين على السواء، أقاموا صلاة الجمعة في بعض مساجد، أو قادوا مظاهرات بالتكبير ضد "كورونا"، ومسيحيون متشددون فضّلوا الصلاة في الكنائس واجتمعوا.. وتحدى الجميع الحظر رغم ما فيه من خطورة من سرعة انتشار الوباء. وسمعنا مَن يقول إن الوباء غضب من الله على البشر؛ حاخام يهودي قال إن "كورونا" حدث بسبب وجود الشذوذ الجنسي، وشيوخ مسلمون هللوا بأن ذلك من علامات قيام الساعة، وهكذا إيمان زائف رغم فطريته؛ ولكنه يمثل إحساس كل البشر بخطورة الوباء، والخوف من الموت، رغم أن الموت سيأتي بـ"كورونا" أو بغيره؛ ولكنها مشاعر البشر في كل عصر وفي كل مكان.


في مقابل هؤلاء نجد أشقاء من مفكرين علمانيين ولا دينيين أطلقوا أفكارهم الرصاصية على كل الأديان بكتبها المقدسة ورجال دينها غير المقدسين، ولم يفرقوا بين الكتاب المقدس، وتفسير هذا الكتاب المقدس، وهو ما غاب عنهم، أو حضر لديهم؛ ولكنهم في النهاية اتهموا الأديان (الإسلام خصوصًا) بالتخلف والجهل، ولكن كلمتهم ليست النهاية، وكلام رجال الدين أيضًا ليست الفصل، وكل أحد يُؤخذ منه ويُرد عليه، فلا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة.



الله خلق الإنسان وأودع فيه فطرة معرفته بالعقل والعلم والمعرفة، وفي مسيرة البشرية، كانت تخطئ الشعوب، فيرسل لهم أنبياء يهدون البشر للخير والتسامح والتلاقي بين الثقافات؛ فالأديان تهدف إلى خير البشر، تمنع الحروب وتسعى لحث الناس على العلم ومحاربة الجهل والأوبئة، فالكتب المقدسة ليست علومًا تجريبية، ولكنها أيضًا لا تنسى أبدًا حثّ الناس على العلم والتعلم، وليست مصادفة أن يبدأ القرآن الكريم نزوله بـ"اقرأ"، والقراءة لا تكون إلا من الكتب، وثاني ما نزل من القرآن "نون والقلم وما يسطرون"؛ فالعلم بالقراءة والتدوين، فالكلمة هي الأصل في الدعوات.



القرآن الكريم ذكر العلم كثيرًا، العلم بمفهومه الديني- الإيماني، والعلمي- الدنيوي، مثلًا قال تعالى في سورة آل عمران-7: "وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنّا به كل من عند ربنا وما يذكّر إلا أولو الألباب"، وأولو العلم هنا يمكن أن يكونوا رجال الدين الصادقين، ويمكن أن يكونوا من أصحاب العلم الدنيوي، المرتبط بالأخلاق النبوية والسلوك الإنساني، وهم أولو الألباب أي العقول الراجحة، التي لا تزيّف الحقائق، ولا تلوث أسماع البشر بغير الحقيقة، وهو ما ينطبق على آيات كثيرة متعددة تدل على تفسير النص المقدس، نختار منها ما جاء في سورة الرعد-37: "وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًّا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق"؛ فالعلم هنا هو الديني- الإلهي المصدر، الإنساني التفسير، ولكن الله مدح العلماء جميعًا، فقال في سورة المجادلة-11: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير"، فالعلماء هنا كما نفهم هم رجال العلم الدنيوي، أو العلوم بأسرها، وليس لرجال الدين علاقة بهم؛ فهم رجال دين، وهؤلاء علماء، والرفعة هنا قد تكون بسبب خدمتهم للبشرية، فيخلدهم التاريخ على اختلاف أديانهم وأعراقهم؛ فكل الشعوب تدين بالفضل إلى مندل وكوبرنيكوس وجاليلو.. وغيرهم، ومن قبلهم سقراط وأرسطو وأفلاطون، ومن بعدهم لويس باستير وأديسون.. وغيرهم كثيرون يفوقون الوصف والحصر في كل عصر وفي كل مصر، وفي نمو ونشأة ونهضة الحضارات لا تأخذ الشعوب التلاقي من رجال الأديان، بل من الفلاسفة والمفكرين والعلماء، فالحضارة الإسلامية انتقلت إلى أوروبا في عصر نهضتها من خلال كتب ابن رشد وابن سينا والفارابي وابن الهيثم، وليس من الفقهاء بطبيعة الحال، أي أن العلم المطلوب من البشر هو العلم الدنيوي الخادم للبشرية طوال عصورها.



وفي حديث للنبي، صلى الله عليه وسلم، قال فيه "اطلبوا العلم ولو في الصين"، والحديث إن صحّ يكون مقصد النبي، عليه السلام، هو طلب العلم الدنيوي الرياضيات والكيمياء والطب والزراعة مثلًا؛ لأن من يطلب العلم الديني من العرب فيذهب للصين، يكون أضحوكة الأمم، وقد صحّ عن النبي أنه قال: "أكثر الناس قيمة أكثرهم علمًا، وأقل الناس قيمة أقلهم علمًا"، وهو قول يتفق مع روح الإسلام وكل دعوات الأنبياء؛ فالعلم يقود إلى العقل الإيماني، وكان النبي عليه السلام يستعيذ من العلم الذي لا ينفع، تمامًا مثلما استعاذ بقلب لا يخشع، والعلم الذي لا ينفع هو علم صناعة الأسلحة الجبّارة وعلوم الذّرة الفتّاكة، وغيرها التي تفتك بأرواح البشر في كل العصور، والنبي استعاذ منها؛ لأنها علوم في قلوب بشر غير خاشعين، تستحق الاستعاذة منها.



وبالعودة إلى "كورونا" علينا أن نتيقن أنه لا صراع بين العقل والدين، بين العلم، والمطلوب هو إعادة صياغة العقل الإسلامي ليكون عقلًا نقادًا قبل أن يكون روحًا مؤمنة، وهو مطلب من مطالب تجديد الخطاب الديني أو تحريره مما علق فيه من شوائب عطَّلت مسيرته حتى اليوم، وعلى الله قصد السبيل.

إرسال تعليق

0 تعليقات