التصوف الفاطمي في المغرب العربي (4)
تعايش
وتسامح ورفض التعصب الوهابي
بقلم / محمود جابر
مراحل تطور المذهب بالمغرب :
باستقرائنا لمختلف
الأدبيات التي أرخت للمذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، وخصوصا في مراحله الأولى
تفيد أن هذا المذهب قد عرف رجالات تمثلوا العقيدة الأشعرية، والتزموا
بمبادئها وأفكارها.. حيث شهدت الفترة الممتدة من وفاة أبي الحسن الأشعري (ت324هـ)
إلى بداية القرن السادس الهجري بروز نخبة من المفكرين المغاربة العائدين من
المشرق، وهم متشبعون بالفكر الأشعري، بعد أن استقوه من ينابيعه الأصلية..
ومع أن هؤلاء قد سعوا
إلى تعميم هذا
الفكر ونشره بين أوساط الناس، فإن الطابع الفردي في تمثل هذا المذهب ظل هو
الطابع المميز لهذه الفترة. إذ
لم يتعد هؤلاء مجالهم الخاص في التزامهم بهذا المبدأ، حيث ظلت دائرة تمثيل هذا المذهب لا
تتعدى دائرة الأصحاب وبعض الأتباع القلائل.
ومما لا شك فيه أن
الفكر المغربي السني كان على صلة بالفكر الأشعري، في هذه الفترة التاريخية المبكرة، ومما يدل على
ذلك آراء ابن أبي زيد القيرواني (ت386هـ) وعقيدته التي
هي في مقدمة رسالته، فهي نموذج العقائد السنية في هذه الفترة، وهي مع هذا متلبسة بآراء الأشعرية
التي تتمثل في عدد فقراتها التي قصد بها المؤلف الرد على مذاهب الاعتزال والإرجاء
والخوارج والشيعة على طريقة الأشاعرة..
وإذا كانت الدولة
المرابطية لم تتبن المذهب الأشعري مذهبا رسميا للدولة، مما ضيق من أفق انتشار هذا المذهب في
الأوساط العامة، لاعتبارات سياسية وتاريخية آنية، تمثلت على الخصوص في تبني هذه الدولة
للعقيدة السلفية، فإن ذات الاسباب - أعني الظرفية السياسية والتاريخية- ستكون وراء
تشبث الموحدين بالعقيدة الاشعرية ومحاولة تثبيتها وجعلها مذهبا رسميا للدولة
الموحدية.
لذلك عمل
المنظرون في الدولة الموحدية
على تثبيت دعائم هذا المذهب وترسيمه، فقاموا بمجهودات نظرية وأخرى أيديولوجية_سياسية لفرض هذا
الفكر على العامة والخاصة على حد سواء، وسخروا مختلف الآليات الراهنة لفرض هذا الفكر.
وضمن هذه السيرورة
التاريخية،والتدافعات السياسية، فرض الفكر الأشعري نفسه موضوعا لنقاشات كلامية
متقدمّة سواء على مستوى العرض والتحليل، أو على مستوى الاحتجاج للمسائل العقدية..
فبرز مفكرون كبار أدلوا بدلوهم في هذا الشأن..
ومما يترجم ذلك مختلف
المجهودات النظرية التي قام بها هؤلاء من أمثال أبي الحجاج يوسف بن موسى
الضريري، ومهدي الموحدين محمد بن تومرت، وأبي بكر بن العربي المعافري، وأبي عمرو عثمان
السلالجي في تدعيم المذهب الأشعري، وإرسائه مذهبا رسميا للبلاد.
ومع تطور السجالات
والمناقشات التي قادها الأشاعرة وخصوصا مع الفلاسفة، لاحت في الأفق ظاهرة فكرية
ارتبطت بحضور المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي، وهي ظاهرة تصحيح أخطاء
العامة في علم الكلام..
وعبر هذه المراحل كان
علم الكلام يتأرجح بين حركتي المد والجزر، حسب الظرفية السياسية
والتاريخية. وهكذا، عرف هذا
العلم جمودا فكريا في القرن الثامن الهجري، عندما غلب التقليد وضعفت الهمم عن التجديد، وذهلت الأمة
بكارثة سقوط الأندلس، إلى أن ظهر الإمام عبد الله محمد بن يوسف السنوسي (ت832هـ) الذي دعا
للتجديد وحارب التقليد، فكان دوره متمثلا في ترميم المذهب وإعادة بنائه في شروط
حضارية ومعرفية متميزة، وألف لهذه الغاية عدة مصنفات أهمها: العقيدة الكبرى...
ولظروف اجتماعية وحضارية
للمنطقة، قبل أهل المغرب هذا الفكر ودعموه بمختلف الوسائل والآليات فاستطاعوا بذلك
أن يؤسسوا لمرحلة جديدة من مراحل تطور المذهب الأشعري في هذه المنطقة، كان لها
تأثير جلي
على صيرورة الفكر الأشعري في هذه المنطقة إلى وقتنا هذا.
خصائص العقيدة الأشعرية في المغرب:
إن المتتبع للحضور
الأشعري في
الغرب الإسلامي سيميز بين ثلاثة أطوار أو مراحل أساسية مر بها هذا الحضور، وكل
مرحلة تميزت بطابع خاص على
امتداد فترة وجودها..
في المرحلة
الأولى لم يرق الوجود الأشعري
إلى مستوى تكوين مدرسة أشعرية مغربية، وكل ما كان هناك هو تمثلات فردية لهذا المذهب ليس إلا...
أما المرحلة الثانية،
وهي مرحلة ترسيم
المذهب، ففيها شهد هذا المذهب انتشارا كبيرا وتغلغلا واسعا أدى إلى تعميمه
وترسيمه. وفي هذه المرحلة بدأت ثوابت هذا المذهب بصيغتها المغربية تتشكل في
ضوء الملابسات السياسية،
والشروط الموضوعية والنظرية التي كان يعرفها الغرب الإسلامي وبخاصة في غضون تأسيس دولة
الموحدين، لمواجهة العقيدة التي كانت سائدة زمن المرابطين (عقيدة أهل التسليم والتفويض) التي
كانت مذهبا رسميا زمن الدولة المرابطية وقبلها..
فكان - والحال هذه
-أن انتقى هؤلاء الأشاعرة من بين آراء الأشاعرة رأيا يرى أن علوم النظر واجبة شرعا
وجوبا عينيا، وأنها شرط من شروط الإيمان، يصح بوجودها وينعدم ويبطل بانعدامها.
وفي هذا الاختيار دفاعا
عن المذهب الأشعري وتكريس له دون سواه. لأن علوم النظر في هذا السياق لم تكن تعني
شيئا آخر غير مذهب
"أهل الحق" فكان هذا ثابتا مركزيا ميز المذهب الأشعري بالغرب
الإسلامي.
والجانب السياسي في
العقيدة الأشعرية - زمن الموحدين- يأخذ طابع التسامح في شرط (القرشية) في (الإمامة)،
ويكشف عن اجتهاد هؤلاء في تجاوز الإحراج السياسي الذي كان يفرضه عليهم كل خوض فيه إلى
أن تم إقصاؤه من مباحث علم الكلام في المرحلة الأخيرة.
وإذا كنا نلحظ بالفعل
تطورا ملحوظا كما وكيفا،فإنه في المرحلة السنوسية يستحيل إسقاط مفهوم التطور عليها
مثلما لاحظنا في المرحلتين السابقتين لأنها مرحلة تدهور وتراجع، لكن هذا لم يمنع من
وجود تطور كمى وتراكم لمؤلفات عقدية وانشغالات واسعة بهذا الميدان، مما حافظ على
استمرارية هذا المذهب وتكريسه مذهبا رسميا للبلاد إلى يومنا هذا.
وهناك جوانب تميز بها
حضور علم الكلام الأشعري في الغرب الإسلامي، والكشف عن الدواعي الكامنة وراء ذلك. ومن
ذلك فإنه نظرا لارتباط المذهب الأشعري في الغرب الإسلامي في بداياته الأولى
بالمشروع الإصلاحي
السياسي والديني، فقد وقعت في هذا المذهب انتقائية واضحة حكمت وجوده
واستمراره في هذه البقعة من
العالم الإسلامي. وقد قام هؤلاء المفكرون الأوائل بعملية انتقاء داخل هذا المذهب للآراء
والاختيارات التي تناسب مواقفهم الإيديولوجية، والشروط الموضوعية التي عرفوها في
صراعهم الإيديولوجي.
فعلى
طول مرحلة الفكر الأشعري بالغرب
الإسلامي نلحظ شبه إجماع على إيجاب النظر واعتباره من فروض الأعيان، ونبذ التقليد
في العقائد نبذا صارما، واعتبار المقلدين كفارا، وما ذلك إلا لأن الصراعات النظرية
والسياسية التي دارت بين مفكري الأشاعرة ومفكري أهل التسليم والتفويض كانت قد عرفت
اصطدامات دموية عنيفة. فقد وجد المذهب الأشعري في مواجهته فكرا عقديا منظما يصادر النقل، وعلى
ما كان عليه السلف الصالح، وفي نفس الوقت متحكما ومتمكنا من الساحة لاسيما في أوساط عوام
الناس.
وكان من شأن
هذا الوضع أن دفع الأشاعرة إلى
التزام اختيار أشعري يقول به بعض أئمة الأشاعرة في المشرق وهو إلزام العوام بعلم الكلام
وإجبارهم على النظر واعتبار ذلك شرطا من شروط إيمان الفرد، فجعلوه ثابتا مركزيا وأساسيا في
المذهب.
كما كانت عملية
انفصال الخلافة
الموحدية عن الخلافة العباسية لأول مرة في تاريخ الغرب الإسلامي، وتكوين
خلافة مغربية مستقلة حدثا
سياسيا بارزا وخطيرا، لا سيما حينما تولى الحكم أمراء انعدم فيهم شرط (القرشية)،
وكان من نتائج هذا كله أن أصبح موضوع (الإمامة) في العقائد الأشعرية مدعاة لإحراج جمع
كبير من المفكرين ودافعا لتساهلهم في هذا الشرط والتقليل من أهميته.
ويبدو لنا أن موضوع (الإمامة)
قد تم فصلها عن العقائد في المرحلة السنوسية ليشكل بذلك مبحثا خاصا سموه
"مبحث الإمامة" هو أقرب إلى السياسة منه إلى العقائد، وهذا ما يبرر وجود كتابات سياسية في
مبحث (الإمامة) على شكل رسائل متخصصة في هذا الموضوع
ومركزة عليه بصفة خاصة.
أما
موضوع النبوة فإنه نظرا للواقع
النظري المغربي الذي كان واقعا بعيدا عن أفكار من عرف بتاريخ الإسلام بمنكري النبوات
والمعجزات، أو بملاحدة الإسلام، أمثال أبى عيسى الوراق، وابن الراوندي، وغيرهما،
فلم يثبت أن ظهر في الفكر المغربي عبر تاريخه الطويل من اعتنق هذه الأفكار أو رددها، وكل
ما ثبت أن أفكار منكري النبوات هذه استمرت في المشرق تخبو مرة وتظهر أخرى، حتى حدود القرن
السادس الهجري، وتمارس تهديدها على عقائد المسلمين، وتقض مضاجع من حملوا راية
الدفاع عن هذه العقائد هناك
. فكان عليهم إذن أن يتسلحوا للدفاع عن عقائدهم
فيدفعوا أفكار هؤلاء وينتقدوها، فظهر لذلك موضوع النبوات في عقائد متكلمي المشرق
وأشاعرتهم بخاصة مطبوعا بطابع الشعور بالتهديد. فكثرت فيه الاستدلالات على صحة
النبوة والمعجزات، وطال فيها الحديث لكن في الغرب الإسلامي الذي لم يشهد هذا النوع من
التهديد، ولم يعرف ذلك النوع من التفكير، فقد ظل موضوع النبوة موضوعا يدخل في إطار ما
ينبغي اعتقاده والتصديق به، بعيدا عن المسحة التي طبع بها في المشرق، فلا نعثر على
تلك الغزارة والإطناب في تحليله،اللهم إلا كتابات القاضي أبي بكر بن العربي الذى
كان اقرب لمدرسة ابن تيمية من مدرسة الاشاعرة ثم سرعان ما تحول كليا إليها .
أما ما يتعلق بالسلطة
المرجعية التي هيمنت في كل مرحلة من هذه المراحل الثلاث فقد انتهينا إلى أن المرحلة
الأولى كانت مرحلة هيمن فيها تأثير (الباقلاني) فكانت المرجعية الباقلانية هي
مرجعية هذه المرحلة. ومرد ذلك في نظرنا إلى أن جمعا كبيرا من أولئك الذين مثلوا مرحلة
الدخول كانوا معاصرين للباقلانى و ارتبطوا به بأحد الروابط والجسور، بحيث كان
معظمهم تلاميذه أخذوا عنه، واحتكوا بفكره احتكاكا مباشرا، فكان ترديدهم لهذا المذهب
انطلاقا من رؤية باقلانية واضحة.
أما المرحلة الثانية
فقد ظهرت فيها مرجعية الإمام (الجويني) فكانت بذلك أفكار هذا الرجل بارزة السلطان، واضحة
التأثير على معظم من تحرك في مجال علم الكلام في هذه المرحلة. وكان من أبرز مظاهر هذه
المرجعية أن لاقى كتاب "الإرشاد" للجويني إقبالا منقطع النظير في هذه المرحلة حيث
تلقاه مفكرو هذه المرحلة بالسير على نهجه وبكثرة الشروح عليه. وكل ذلك تأكيدا على مدى
ما وصلت إليه هيمنة فكر إمام الحرمين (الجويني)
على هذه المرحلة.
أما المرحلة الثالثة
والأخيرة، أي المرحلة السنوسية، فهي وإن كانت مرحلة تراجع وتقهقر باعتبار معين
فإنها مرحلة عرفت صعود نصوص من مثلوا الفكر الأشعري في المشرق من متقدميهم
ومتأخريهم إلا أن الطابع الذي ميزها هو الطابع المنطقي في التأليفات العقدية، وفي
المساجلات الكلامية، وفي الأجوبة والتعليقات حتى أضحى الخلط بين ما هو منطقي وما
هو عقدي ميزة ميزت هذه المرحلة لا يقوى أحد على إنكارها. لكننا مع ذلك لا نجد
الخلط بين المفاهيم السلفية وبين المفاهيم الكلامية الأشعرية، كما نجده عند متأخري
الأشاعرة وبخاصة عند الفخر الرازي بل إننا نجد التصريح بذلك واضحا في كتابات هذه
المرحلة.
وهناك نتيجة
لاحظناها ونحن نتتبع الوجود
الأشعري بالغرب الإسلامي تبدت في أن معظم أولئك الذين مثلوا الفكر الأشعري، ونهضوا في نشره وترسيمه
وتغلغله بطلائع الأدوار كانوا (متصوفة( اشتهروا بتقواهم
وورعهم وزهدهم وتجلى ذلك في الكرامات التي ظهرت عليهم، لكنهم لم
يخلطوا تصوفهم هذا بميدان علم
الكلام، ولا أظهروا فيه طابعهم الصوفي، أو ما يقرب من ذلك، فكان بين اختيارهم الصوفي واختيارهم
العقدي فصلة واضحة، وحاجز ملموس يمنع التداخل بين الفكرين ويميز بين ما هو
طرقي/صوفي وبين ما هو عقدي/ كلامي.
صحيح أن بعض مفكري
الأشاعرة هنا لم تكن له صلات تذكر بالتصوف فكرا أو ممارسة، بل ربما وقف مواقف
عدائية من بعض غلاة المتصوفة المفرطين، وتحفظ منهم تحفظا كبيرا بسبب الغلو والإفراط، واحترز من
خطابهم وربما أحيانا ألف في الرد عليهم وليس على التصوف ذاته كمشرب روحي ومنهج
إسلامي أصيل.
أضف إلى كل ما سبق أن
الحضور الطويل للعقيدة الأشعرية في هذه المنطقة باعتبارها العقيدة الرسمية، جعل
مضامينها تؤثر بكيفية أو بأخرى
في مجموع مناحي الحياة الشفوية، فقد تشربت هذه العقيدة وتمثلتها من خلال الأدعية، والحكم،
والأمثال السائدة، فعكست جميعها فكرة القضاء والقدر، والقدرة المطلقة للذات
الإلهية، وإمكانية رؤية الله، وأمور أخرى ذات دلالات كونية واجتماعية للعامة أهل المغرب
العربي .
التصوف الفاطمي في المغرب العربي (3)
0 تعليقات