نصر القفاص
انتصرت إرادة الشعب
المصرى برفض إبعاد "محمد على" عن مصر واليا على "جدة" وتأكد
الانتصار بقبول السلطان العثمانى للأمر الواقع.. ثم انتصرت إرادة الشعب مرة ثانية
بعدها بعام – 1806 – حين رفض نقل "محمد على من حكم مصر, ليكون واليا على "سالونيك"
فى اليونان.. أدركت بريطانيا أن الدولة العثمانية, يدب فى كيانها المرض والضعف.. فقررت
أن تتحرك مباشرة لاحتلال مصر, فحرضت "محمد الألفى" أن يتحرك لكسر إرادة
هذا الشعب وسحق قائده الجديد.. اتفقت مع "محمد الألفي" على احتلال "دمنهور"
وانتظار أسطولها البحرى حين يصل إلى الإسكندرية..
وكان "الألفي"
يملك جيشا يتجاوز قوامه أربعة آلاف مقاتل, نجحوا بالفعل فى الوصول إلى حدود "دمنهور"
وحاصروها.. لكن "عمر مكرم" استنهض الناس للقتال ومقاومة "المماليك"
فى الوقت نفسه كان "محمد على" يطارد جيشا آخر من "المماليك" يسيطر
على مساحات شاسعة فى الصعيد بقيادة "البرديسى بك" المدعوم من فرنسا.
فى هذا الوقت كانت
الإسكندرية خارجة عن سلطة حاكم مصر, وتتبع مباشرة لسلطة السلطان العثماني..
شاءت الأقدار أن يتأخر الأسطول البريطاني فى
الوصول إلى الإسكندرية..
وشاءت إرادة الشعب أن
تكسر قوات "محمد بك الألفي" وتفرض عليه فك الحصار عن "دمنهور"
والتراجع نحو "القليوبية"..
وفى مطلع شهر مارس من
عام 1807 وصلت طلائع الأسطول البريطاني, واكتمل وصول القوات يوم 16 مارس.. ليقوم "أمين
أغا" حاكم الإسكندرية – تركى – بتسليم المدينة مقابل رشوة تقاضاها من "فريزر"
يوم 21 مارس!!
والموقف يفرض علينا أن
نتذكر "محمد كريم" حاكم الإسكندرية وقت وصول الحملة الفرنسية, ومقاومته
الشرسة لها.
علم "محمد على"
بتطور الأحداث, فاضطر للتفاوض مع "البرديسى" على أن يترك حكم الصعيد
مقابل مبلغ يدفعه من ثرواته وخيراته!!
وقاد جيشه ليقاوم
الانجليز فى الشمال.. لكن "عمر مكرم" كان يقود تحصين العاصمة, ويتواصل
مع أهل البحيرة لترتيب المقاومة..
قرر "فريزر" تحريك قواته فى اتجاه "رشيد"
يوم 29 مارس وكان عددهم ألفى مقاتل.. وواجه هناك سبعمائة جندى فقط بقيادة "على
بك السلانكى" حاكم "رشيد" الذى رسم خطة بارعة وخادعة, بأن أخلى
الشوارع وفرض على الناس الاستعداد فى المنازل.. واعتقدت القوات البريطانية أن ما
حدث فى "الإسكندرية" سيتكرر فى "رشيد" فإذا بالجنود والأهالي
ينقضون عليهم يوم 31 مارس فأخذتهم الصدمة.. سقط 170 قتيلا و250 جريحا غير 120
سقطوا كأسرى..
وتسلم "عمر مكرم" رسالة تفيد بأخبار
هذا الانتصار, وأبلغ الأخبار إلى "محمد على" الذى كان مازال فى طريق
عودته من الصعيد..
وعندما وصل اطلع على
سير الأمور والتقى "مسيو دروفتى" قنصل "فرنسا" الذى هرب من "الإسكندرية"
إلى "القاهرة" وشاوره فى خطط المواجهة القادمة..
ثم تحرك بجيشه قاصدا "رشيد" التى
تعرضت لغارة جديدة من الانجليز بدأت يوم 3 إبريل, وبلغت ذروتها يوم 7 إبريل.. لكن
المقاومة كانت شديدة, فأدرك الجنرال "ستيوارت" قائد هذه القوات صعوبة
المهمة, فاقترح على "فريزر" قائد الحملة الانسحاب تفاديا للمزيد من
الخسائر الذى طلب منه انتظار مدد قوات "محمد الألفى" من "المماليك"
لكن أخبارا جديدة وصلتهم عن موت "محمد الألفى" وقبله بأيام مات "البرديسى"..
ليرفع الانجليز "الراية البيضاء" ويطلبون التفاوض على الرحيل..
وفى يوم 19 سبتمبر تم
جلاء الانجليز عن "الإسكندرية" لتعود إلى أحضان الوطن تحت حكم "محمد
على" ودخلها فى يوم مشهود, وشهد فيها احتفالات غير عادية.. ثم غادرها عائدا
إلى القاهرة التى وصلها صباح يوم 6 أكتوبر عام 1807, وفيها كانت الاحتفالات الأكبر
بالنصر على الانجليز وتأكدت قدرة الشعب المصرى الذى انتصر على الفرنسيين عام 1801..
كما انتصر على الدولة العثمانية عام 1805.
وأنت تقرأ التاريخ فى
سطور.. يجب أن تفكر فى الصورة وقتها.. كانت مصر ممزقة إلى أقاليم, يتحكم فى كل
منها أحد قادة "المماليك" ويحكم العاصمة فقط "الوالى" وهذه
الأوضاع تمت بفعل فاعل.. هو حاكم "اسطنبول" الذى يطلقون عليه السلطان
لدولة الخلافة.. وهناك يتم تدبير المؤامرات وإشعال الفتن.. فهم لا يكترثون بشأن
مصر.. يهمهم فقط نهبها وإضعافها لتبقى تحت سيطرتهم..
السلطان لا يريد أن يكون لمصر حكم قوى.. لا يريد
أن تكون فى مصر زعامة شعبية.. لذلك حرك عددا من الجنود للتمرد على سلطة "محمد
على" يوم 28 أكتوبر وكادوا يقتلونه فى بيته بالأزبكية.. لكنه عرف بالأمر فترك
بيته إلى القلعة.. وفشلت المؤامرة.. لكنهم سرقوا ونهبوا وأحرقوا كعادتهم, بحجة
تأخر رواتبهم.. لذلك دعا "عمر مكرم" المشايخ والأعيان فى بيت "محمد
المحروقى" واتفقوا على جمع المال لإسكات هؤلاء الجند.. وعند هذه اللحظة تأكد "محمد
على" أنه لا استقرار للبلاد ولا أمان دون أن يكون لمصر جيش موحد وطنى بمعنى
الكلمة..
وهذا التحدى الخطير
والكبير استلزم سنوات طوال.. لكن الأكثر أهمية هو تدبير الموارد لكى يتمكن من
تسيير شئون الدولة..
وهذا معناه فرض
الضرائب وتنظيمها.. ولحظة أن فتح هذا الملف شبت نيران أخرى.. خاف المشايخ على مصالحهم
وثرواتهم.. تبرم الشعب لصعوبة أوضاعه.. ليبدأ الصراع بين الحاكم – محمد على – والثائر
– عمر مكرم – والذى لعب خلاله شيوخ الأزهر أخطر الأدوار.. ولن أسمح لنفسى بوصف
دورهم, لأن الوقائع والحقائق ستكون ناطقة بكل وضوح.
أدرك "شيوخ
الأزهر" أن الأمر استتب للحاكم – محمد على – فالتفوا حوله.. وكعادته كان "عمر
مكرم" خارج دائرتهم.. فهم يرفضونه فكرا وسلوكا.. شكلا وموضوعا.. فهذا رجل
يتعفف عن السلطة.. لا يغريه المال ولا يبحث عنه.. لا يهمه غير احترام وتقدير الشعب..
يتجنب الصغائر والنفاق.. يقول كلمته التى يعتقد فى صوابها علنا وسرا بالوضوح نفسه..
وكلها صفات تجعل استمرار قربه من الحاكم ودعمه له, خطر على الباحثين عن الثروة
والنفوذ.. ولما كانت أوقاف الأزهر تمثل مغنما.. فقد راح شيوخ الأزهر يبحث كل منهم
عن نصيبه منها.. ويكشف ذلك "الجبرتى" فى يومياته المنشورة عن "الهيئة
العامة للكتاب" بعنوان "عجائب الآثار فى التراجم والأخبار" وسجلها "عبد
الرحمن الرافعى" فى كتابه "عصر محمد على" وغيرها من كتب التاريخ.. يقول
"الجبرتى" بالنص: "وقعت بين أهل الأزهر منافسات بسبب أمور يطول
شرحها.. وتحزبوا إلى فريقين.. أحدهما مع الشيخ عبد الله الشرقاوى.. والثانى مع
الشيخ محمد الأمير.. وكان الفريق الثاني هو الأكثرية.. فذهبوا الى الاتفاق على أن
يكون الشيخ محمد الأمير ناظرا على الأزهر" ويؤكد ذلك "مسيو مانجان"
صديق "محمد على" فى مذكراته حين قال: "اختلف العلماء فيما بينهم
على من يتولى النظر فى أوقاف الأزهر.. انقسموا إلى فريقين.. أحدهما أراد الشيخ
محمد الأمير, والآخر تحزب للشيخ الشرقاوى.. وفاز الشيخ الأمير وحزبه"!!
لاحظ هنا أن المؤرخين
يتحدثون عن "تحزب" ومنافسة تحكمها قاعدة الأغلبية.. وتلك هى السياسة دون
أدنى شك.. ويتحدث المؤرخون عن صراع حول أوقاف الأزهر, بمعنى الصراع على مكاسب
ومغانم اقتصادية.. ولم يذكر أحد أن الخلاف كان على قضايا فكرية أو فقهية.. والفريقان
رفضا ذهاب "محمد على" إلى تنظيم الضرائب على الشعب, لأن ما اتجه إليه
كان يقضى بأن يدفع الشيوخ الضرائب عن أملاكهم وثرواتهم التى تضخمت.. وبما أن الشعب
لا يتحمل فى ظروفه دفع الضرائب, فأعلنوا انحيازهم – صمتا – للشعب.. وكان "عمر
مكرم" هو ملاذ الشعب وصوته, والقادر على المجاهرة بالرفض.. وقد حدث فعلا.. وتدخل
"شيوخ الأزهر" كوسطاء بين الطرفين عندما تفجرت الأزمة.. وتفاصيل الوساطة
تستحق أن نعرف تفاصيلها, لأنها انتهت إلى صراع وصل إلى حد الصدام بين "الحاكم"
الباحث عن بناء دولة, و"الثائر" الذى يتحمل مسئولية أمام شعبه..
يتبع
0 تعليقات