نصر القفاص
فشل "محمد على"
فى فرض نظام جديد للضرائب, تحت ضغط "شيوخ الأزهر" عام 1806 لأنهم هددوا
بإثارة الشعب.. وكانت التحديات الداخلية والخارجية, أكبر من أن تجعله يقدر على فرض
كلمته..
وخلال مواجهة محاولة
بريطانيا احتلال مصر, بحملة "فريزر" تمكن من إقناع الجميع بضريبة مؤقتة
وافق عليها "عمر مكرم" والشيوخ.. وتم استثناء "شيوخ الأزهر" من
دفع أى ضريبة..
لكنه عاد وكرر محاولة
تطبيق نظام الضرائب الجديد عام 1809.. عبر الناس والملاك عن تبرمهم ورفضهم, ولجأوا
للزعيم "عمر مكرم" باعتباره ملاذهم الأخير.. فالرجل لا تهمه مغريات أو
ثروة.. يتمسك بالنزاهة والاستقامة والزهد.. وذلك كان واضحا للكافة من أهل مصر.. وواضح
كذلك للحاكم "محمد على" كما يروى "الجبرتى" الذى يقول عن "شيوخ
الأزهر": "أغلبيتهم انصرفوا للمنافع.. بحثوا عن الأموال والضياع وبناء
القصور.. راحوا يقلدون البكوات والمماليك فى البذخ والرفاهية.. أذلتهم الدنيا
فضعفت نفوسهم أمام سلطة الحاكم ونفوذه"!!
ونتيجة لذلك ميزهم "محمد على" وأعفاهم
من الضرائب.
نعود إلى "الجبرتى"
الذى يقول: "إفتتنوا بالدنيا.. هجروا مذاكرة المسائل ومدارسة العلم إلا
بمقدار.. تركوا عملهم وصار بيت أحدهم مثل أحد أمراء المماليك.. واتخذوا الخدم
والأعوان.. وصار دينهم واجتماعهم ذكر الأمور الدنيوية, والحصص والالتزام – الأملاك
– وأضف إلى ذلك التحاسد والتحاقد.. فتنافروا وشغلتهم سفاسف الأمور وحظوظ الأنفس
على الأشياء الواهية"!! والصورة ذاتها رسمها "مسيو مانجان" فى
كتابه "تاريخ مصر فى حكم محمد على" .
وأوضح أن الحكومة
قررت إلزام جميع الملتزمين – الملاك – بأن يدفعوا للدولة نصف ما يفيض عنهم من
إيراد.. وكان ذلك يؤثر فى قطاعات كبيرة من الفقراء, كانوا يعيشون على ما يدفعه لهم
هؤلاء..
فحرضوهم على أن يذهبوا بالشكوى للشيوخ وعمر مكرم..
سمعهم الشيوخ وأشاروا عليهم بالذهاب إلى عمر مكرم الذى اجتمع بالناس وتفهم مطالبهم
وأعلن رفضه للنظام الجديد.. وفى هذه الأثناء أمسكت الشرطة بأحد طلاب العلم – المجاورين
– فى الأزهر, وهو من أقارب الشيخ حسن البقلى الذى تشفع للطالب.. فلم يلق آذانا
صاغية".
فى يوم 30 يونيو عام 1809..
بينما الشيوخ حاضرون بالأزهر لقراءة الدروس على طلابهم.. أقبلت أفواج من رجال
ونساء يعلنون رفضهم, ويطالبون بالإفراج عن الطالب الذى أمسكته الشرطة.. طلب الشيوخ
"عمر مكرم" الذى حضر, وتدارسوا الأمر واتفقوا جميعا على تناسى أية
خلافات بينهم وأن يتوحدوا دفاعا عن مصالح الناس.. وعقدوا العزم على اللقاء فى
اليوم التالى.. انتهوا إلى إجماع على رفض الضريبة على الأطيان وضريبة الدمغة على
المنسوجات والأواني.. وطالبوا بالإفراج عن الطالب المحبوس.. واتفقوا على رفع الأمر
إلى الوالى "محمد على" عبر عريضة فقط, مع رفض فكرة لقائه حتى لا يؤثر
عليهم أو يقنعهم!!
كان "محمد على"
يتابع الأحداث وتطوراتها..
اهتدى إلى ضرورة
إبعاد "شيوخ الأزهر" عن "عمر مكرم" باعتبار أن التفاهم معه هو
الأصعب, وأنه الزعيم القادر على تحريك الجماهير..
أما الآخرون فمصالحهم
هى التى تحكم مواقفهم.. أرسل سكرتيره وكان اسمه "ديوان افندى" لمقابلتهم
وجس نبضهم.. وجدهم متمسكين بمواقفهم ورافضين الذهاب لمقابلة "الباشا" وهنا
يستحسن أن نقرأ وصف اللقاء كما كتبه "الجبرتى" وفيه قال: "حضر
ديوان افندى وقال أن الباشا يسلم عليكم, ويسأل عن مطلوباتكم.. فعرفوه بما سطروه
إجمالا, وبينوه له تفصيلا.. فقال ينبغى ذهابكم إليه وتخاطبونه مشافهة بما تريدون, وهو
لا يخالف أوامركم ولا يرد شفاعتكم.. والقصد أن تلاطفوه فى الخطاب لأن نفسه لا تقبل
التحكم" فأجابوا جميعهم برفض الذهاب إليه, قبل أن يعلن قبوله ما طلبوا.. وقالوا..
لقد بايعناه على العدل.. لا على الظلم والجور.. ولما كرر "ديوان افندى" توضيح
وجهة نظره بأن اللقاء المباشر سيحقق المطلوب.. أجابوه بالرفض وأنهم سيلزمون بيوتهم
ويصبرون على تقدير الله بهم وبغيرهم.. فحمل رسول الباشا "العرضحال" ووعدهم
برد الجواب.
هنا يجب أن نوضح أن
قصد الشيوخ بأنهم "سيلزمون بيوتهم" تعنى إعلان الغضب والرفض على من
أجلسوه على كرسى الحكم كما قال أحدهم.. وهذا يعنى تهديد سلبى وصريح بتجديد دعوات
الثورة!!
فلما عرف "محمد على" أن الأمور وصلت
إلى هذا الحد.. قرر أن يبادر إلى التهدئة, فبادر بالإفراج عن قريب الشيخ "حسن
البقلى" وأعلن رفضه للظلم والحبس أو التعذيب لأى مواطن!!
وكلف "محمد
افندى طبل" ناظر المهمات – أحد كبار رجال الدولة – بأن يجتمع مع الشيخ "محمد
المهدى" والشيخ "محمد الدواخلى" لإقناعهم بالذهاب إلى "عمر
مكرم" والتأكيد له أن "الباشا" برىء مما نسب إليه, وأنه لم يقرر
زيادة الضرائب حتى الآن.. والتأكيد على أنه لا يخالف أوامر المشايخ إذا جاءوا
واجتمعوا معه.
حمل الشيخ "المهدى"
والشيخ "الدواخلى" الرسالة إلى "عمر مكرم" الذى أغضبه أنهم
نقضوا عهد عدم الاتصال بالباشا حتى يعلن قبول المطالب..
وأكد أنه لن يذهب
إليه مهما كلفه الأمر.. وعاتبهم على أنهم نقضوا عهدهم معه, وقال أنه ما لم يتراجع
الباشا عن مظالمه سنكتب للباب العالى ويجمع الشعب لإنزاله من على كرسيه كما أجلسه
عليه!!
وصلت الأمور إلى هذا
الحد بما ينذر بمواجهة بين "الحاكم" و"الثائر" ويوضح "الجبرتى"
الصورة أكثر فيقول: "أعاد المهدى والدواخلى الكرة لإقناع عمر مكرم بالعدول عن
مقاطعة الباشا.. ذهب إليه صحبة ديوان افندى سكرتيره وعبد الله بكتاشى ترجمانه – مترجمه
– وطال الكلام.. تمسك عمر مكرم بموقفه.. فذهبوا إلى الشيخ محمد الأمير راجين
التدخل, فاعتذر بأنه متوعك صحيا!!
فذهب الشيخين إلى
الباشا وهونا من أمر وشأن عمر مكرم فسمعا منه قوله : لا أرد شفاعتكم ولا أقطع
رجاءكم.. وإن رأيتم منى انحرافا إنصحونى.. وأثنى على موقفهم ومواقف شيوخ الأزهر.. وتحدث
بعقاب عمر مكرم وتخويفه له بالجماهير والثورة, واستحلفهم إن كان هذا يليق..
فرد الشيخ المهدى
قائلا: هو ليس إلا بنا, وإذا خلا عنا فلا يسوى شىء.. إن هو إلا صاحب حرفة أو جابى
وقف – محصل ضرائب – خاضع لنقابة الأشراف, ودوره جباية إيراد الوقف وصرفه للمستحقين".
انتهى الاجتماع الذى
أكد خلاله الشيخ "الدواخلى" على أن حضوره بالأصالة عن نفسه ونيابة عن
الشيخ "الشرقاوى" الذى فوضه, مؤكدا موافقته على ما يتوصلون إليه من
نتائج..
وكرر كل من "المهدى
و"الدواخلى" زيارة "عمر مكرم" أملا فى أن يتنازل عن موقفه
المتشدد, حتى لا يظهر عاصيا ومتمردا على سلطة "الحاكم" والصورة وصفها "الجبرتى"
بدقة, فقال: "إلتقاهم عمر مكرم وهو ممتلىء غيظا مما حدث ونقض الشيوخ لعهدهم
معه.. وقالا له أن الباشا لم يحدث منه ما يوجب الخلاف.. وأنه أكد لهما أنه لا يرد
لهم شفاعة.. لكنه قال أن نفسه لا تقبل التحكم.. والواجب عليكم إذا رأيتمونى فعلت
شيئا مخالفا, أن تنصحونى وتتشفعوا.. وأنا لا أردكم ولا أمتنع عن نصحكم.. أما ما
تفعلونه من التشنيع والاجتماع بالأزهر, فهذا لا يناسب منكم.. كأنكم تخوفوننى بهذا
الاجتماع, وتهييج الشرور وقيام الرعية كما كنتم تفعلون فى زمان المماليك..
وأنا لا أفزع من ذلك..
وإن حصل من الرعية أمر فليس لهم عندى غير السيف والانتقام.. فقلنا له هذا لا يكون..
ونحن لا نحب ثورات الفتن.. إنما اجتماعنا دائما لقراءة البخارى ودعوة الله بأن
يرفع الكرب.. والباشا قال لنا.. أريد أن تخبرونى عمن انتبذ لهذا الأمر – أى استجاب
لدعوات الثورة – ووعدنا بإبطال الدمغة وتخفيف تحصيل الفايض من النصف إلى الربع.. وأنكر
ضريبة المال الميرى على الأطيان فى إقليم البحيرة".
طبعا ما ذكره الشيخين
تجاوز كثيرا ما حدث.. والرسالة التى حملوها كانت واضحة, بما فيها من تهديد..
وهما يعلمان أن "عمر
مكرم" لن يقبل هذه اللغة, وكانا يأملان أن يزداد الموقف بين "الحاكم"
و"الثائر" تأزما طمعا فى المزيد من المكاسب..
وذلك أكده "عبد
الرحمن الرافعى" فى كتابه "عصر محمد على" وأوضح أن "عمر مكرم"
سمعهما.. ثم أكد ثباته على موقفه, ورفضه رسالة الباشا..
وانفض الاجتماع على ذلك..
وشاعت بين الناس هذه
التفاصيل وغيرها.. وكلها كانت تدور حول استجابة "الباشا" لشفاعة "شيوخ
الأزهر" وتراجعه عن جباية ضرائب جديدة, وأدى ذلك إلى تهدئتهم وانصرافهم
لأعمالهم..
وبقيت الأزمة قائمة
بين "محمد على" الذى اتجه إلى المزيد من التهدئة, والإعراب عن أمله فى
أن يرضى "عمر مكرم" وطلب من الشيوخ أن يكرروا محاولتهم لإقناعه باللقاء
معه.. ليتأكد أن عقلية رجل الدولة تختلف تماما مع عقلية الثائر.. ومنهج كليهما
يختلف عن الآخر..
ومضت الأحداث لتصل
إلى حد يفرض على أحد الطرفين أن يتجه إلى تنفيذ ما يراه واستقر عليه..
يتبع
0 تعليقات