نصر القفاص
إستمرت الأزمة بين "محمد
على" وصديقه "عمر مكرم" أسابيع..
تحرك خلالها "شيوخ الأزهر" بالوساطة
التى قام بها بعضهم..
وآثر البعض الآخر
تجنب الانخراط فى الموضوع بدعاوى "المرض" أو الانشغال بأمور خاصة..
وانتظروا النتيجة..
بينما الشعب أسعده تراجع "الباشا" عن
فرض الضرائب أو تخفيفها..
وبقى "محمد على"
يواصل محاولاته لترويض "الثائر" وتكسرت كلها على صخرة إصرار "عمر
مكرم" على موقفه..
وكانت قد بقيت ورقة
عرض المغانم والمال, فأرسل وكيلا عنه يعرض عليه كيسا فيه خمسمائة قرش كل يوم, على
أن يحصل على ثلثمائة كيس مقدما..
فجاءه الرفض القاطع
والحاسم..
وهنا يذكر "محمد
فريد أبو حديد" فى كتابه "زعيم مصر الأول" أن "عمر مكرم"
قال: "مصلحة البلاد تقتضى وضع مبدأ ثابت وحد فاصل, بين ما يجب للدولة من حقوق
وما عليها من حدود.. ودون ذلك لا تفاوض ولا مساومة" ويؤكد ذلك "عبد
الرحمن الرافعى" فيقول: "كان عمر مكرم على أخلاق كريمة, أخصها النزاهة
والعفة.. لا يؤثر فيه وعد ولا وعيد.. ولا ترغيب أو ترهيب".
خلال الجولة الأخيرة
من جولات الوساطة.. كان "محمد على" مجتمعا مع الشيوخ: "الشرقاوى",
"السادات", "المهدى" و"الدواخلى".. فإذا به يوجه
كلامه للشيخ "الشرقاوى" ويقول له أنه وصله عنه قوله أن سياسات "الباشا"
المالية تتصف بالظلم والجور.. لم ينكر الشيخ "الشرقاوى" هذا القول.. هنا
تحدث "محمد على" ووجه كلامه للشيوخ الجالسين أمامه قائلا: "إذا كنت
أظلم الناس, فأنتم أظلم منى.. لأنني رفعت عن أراضيكم الضرائب إكراما لكم.. لكنكم
حصلتوها من الفلاحين لأنفسكم"!!
فلم يرد أى منهم.. فعاد إلى موضوع "عمر
مكرم" ليسمع منهم الهجوم عليه والطعن فيه, وتأكد بذلك أنهم فى طريق.. و"عمر
مكرم" فى طريق آخر تماما.
كان "محمد على"
يعلم عنهم كل التفاصيل وتاريخهم.. يرصد سباقهم على المال والوجاهة, وعلاقة ذلك
بجذور كل منهم..
فالشيخ "الشرقاوى"
يحب أن يكون صاحب وجاهة, وله مكانة عند الحكام فى كل العصور.. ويكره من ينافسه على
ذلك.. ويرفض التفريط فيما حققه من ثروة وأموال..
أما من راهن عليهما
لإحداث الانقسام, وتشويه صورة "عمر مكرم" فكانا كل من "المهدى"
و"الدواخلى".. ويعرف "الباشا" عن "المهدى" أنه أسلم
ببلوغه سن 13 سنة والتحق بالأزهر, وتتلمذ على يد الشيخ "الحفناوى" والشيح
"الدردير" حتى تأهل للتدريس بالأزهر وأصبح من العلماء..
كان يحب جمع المال
والانشغال بالتجارة, وجنى ثروة طائلة خلال سنوات الحملة الفرنسية.. وتمكن من
التقرب من الحكام الأتراك بعد ذلك.. وكان معروفا ببخله الشديد..
أما الشيخ "الدواخلى"
فتعلم على يد الشيخ "الشرقاوى" ولازمه وكان الأكثر قربا منه, فعينه فى "الديوان"
الذى ساعد الحملة الفرنسية على حكم البلاد.. كون ثروة طائلة وأضاف إليها ثروة "عديله"
البطل "مصطفى البشتيلى" الذى قاوم وقاتل الفرنسيين رغم ثرائه ومكانته
الاجتماعية.. وكان أهل بولاق يعتبرونه زعيمهم.. ولما قتلوه حرقا.. استولى "الدواخلى"
على ثروته.. وحتى يتمكن من تبييض صفحته تقرب من "أحمد المحروقى" بأن
يرسل له أخبار الفرنسيين خلال شهور الحملة الأخيرة.. وقت أن كان "المحروقى"
مع "عمر مكرم" يقاتلان ويناضلان ضدهم!!
كل هذه المعلومات
وغيرها.. قام من ينوب عن "الباشا" بذكرها لهم, وكان لذلك أثره..
إلى جانب كراهيتهم
لالتفاف الناس حول "عمر مكرم" وتقدير "الباشا" له حين كان
يناديه خلال لقائه به "أهلا بالوالد الكبير".. وذلك جعله يكرر محاولاته
معه.. حتى وصلته رسالة من "عمر مكرم" بأنه يقبل أن يلتقى به فى دار
الشيخ "السادات" وهنا اشتعل "الباشا" غضبا, لأنه يرفض الذهاب
إليه ويحاول أن يفرض نزوله من القلعة إلى دار أحد الشيوخ..
فنزل فعلا.. لكنه ذهب إلى دار ابنه "إبراهيم"
فى "الأزبكية" وجمع الشيوخ والقاضى.. وأرسل إلى "عمر مكرم" لكى
يحضر ويقبل حكم الشيوخ والقاضى بينهما.. فاعتذر بمرضه ورفض الحضور..
فأمر "محمد على" بعزله من نقابة
الأشراف.. وخلع المنصب على الشيخ "السادات" وأضاف لذلك أمرا بإبعاده عن
العاصمة فورا إلى "دمياط" ولم يقبل شفاعة الشيوخ بأن يذهب إلى بلده "أسيوط"..
ولما طلب "عمر مكرم" أن يكون نفيه إلى
"الطور" فى "سيناء" أو "درنة" فى ليبيا.. رفض "محمد
على" وأمهله ثلاثة أيام يغادر بعدها..
وكان مشهد وداعه حزينا من أهالى القاهرة.. وسار
إلى "بولاق" ومنها ركب النيل رفقة عدد من أتباعه.. ووكل "أحمد
المحروقى" فى مراعاة أسرته وإدارة أملاكه..
وقال: "أما منصب نقيب الأشراف فإنني زاهد
فيه, فليس فيه غير التعب.. والنفى هو غاية مطلوبى"!!
فى اليوم التالى لسفر
"عمر مكرم" ذهب الشيخ "المهدي" إلى "الباشا" فأنعم
عليه بنظر أوقاف الإمام الشافعي ووقف سنان باشا فى "بولاق"..
وأمر "الباشا"
بمنحه خمسة وعشرين كيسا من خزانة الحكومة..
فنزل ليجتمع مع عدد
من الشيوخ, وكتبوا عريضة للآستانة يبررون فيها عزله..
فزعموا أنه أدخل فى
دفتر الأشراف أسماء من أسلموا من اليهود والأقباط.. وأنه قبض من "محمد بك
الألفى" مبلغا ليمكنه من حكم مصر وقت الثورة على "خورشيد باشا" وأنه
أراد إحداث فتنة بين الناس لخلع الباشا والتمرد على سلطة الخلافة!!
لكن الشيخ "أحمد
الطحطاوى" المفتى آنذاك وكان معروفا بنزاهته رفض هذا الكلام, ووصف العريضة
بأنها كلها افتراءات..
ولما هددوه بالعزل قال: "مرحبا بالعزل ولا
أقول زورا" فتم عزله وتنصيب الشيخ "حسين المنصورى" الذى أصبح
المفتى بقرار من "الباشا".
يقول "عبد
الرحمن الرافعى" فى ذلك: "سقطت الزعامة الشعبية التى كانت لها المكانة
العظمى والقول الفصل فى تطور الأحداث طوال عشر سنوات..
وزالت عن شيوخ الأزهر
هيبتهم التى أضاعوها بتحاسدهم وتخاذلهم.. ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك"..
ويذكر "محمد
فريد أبو حديد" أن "عمر مكرم" غادر بولاق إلى منفاه يوم 13 أغسطس
عام 1809.
ويضيف: "تم
إبعاد المعارض الذى كان يريد أن يجعل للشعب حقا فى مناقشة السلطة.. وقبض الحاكم
على الخزانة والسيف.. وصار السيد المطلق فى حكم البلاد والمتصرف فى شئونها وقت
السلم والحرب"!!
ومن جانبه قال "محمد على" بعد أن أصدر
أمره وقراره: "ما كنت أتمنى أن أنفى الصديق.. لكنني أردت إبعاد الثائر"!!..
ولما استأذنه "المحروقى" فى أن يقوم برعاية
أسره "عمر مكرم" فرد عليه قائلا: "هو آمن من كل شىء.. مازلت أراعى
خاطره وأحترمه" وأرسل مستدعيا حفيده وغمره بالعطف والتكريم.
عاش "عمر مكرم"
فى منفاه بدمياط حتى ربيع عام 1812 ثم نقل إلى مدينة طنطا فى شهر إبريل.. وعاش
يخفف من ألمه وضجره بخلق عمل يشغله.. فأدمن الذهاب للصيد ومناجاة البحر.. وبنى خان
– فندق صغير – لنزول التجار والبحارة الذين يقصدون دمياط..
وعندما انتصرت حملة "إبراهيم باشا" على
الحركة الوهابية ودخل جنوده إلى "الدرعية" – الرياض حاليا – فرأى "عمر
مكرم" أن هذا مجد وانتصار رائع.. فبعث برسالة مع حفيده إلى "محمد على"
يعبر فيها عن سعادته بالانتصار وما تشهده البلاد من إصلاح وتطور, وذكر أنه لا يخفى
فرحته بما تحقق لمصر من مجد..
وكانت الرسالة أجمل
هدية تلقاها "الباشا" واهتز طربا لها.. وسأل الحفيد عن جده وأحواله, وألح
عليه إذا كانت له أية طلبات.. فأكد حفيد "عمر مكرم" أن جده ليست له
طلبات ولا رجاء, فأمر "الباشا" أحد أتباعه أن ينفرد بالحفيد لاستنطاقه
فى أى طلب..
وبعد تردد قال الحفيد
أن جده كانت له أمنية قديمة بأن يؤدى فريضة الحج, لكنه لم يطلب منى التحدث بشأنها..
فأصدر "محمد على"
أمرا على الفور بعودة "عمر مكرم" إلى القاهرة حتى يحين موعد الحج, وقال:
"لن أتركه فى الغربة.. فهذا رجل أبى.. ليس بينى وبينه غير كل المحبة والتقدير"
.
وكتب له رسالة مؤثرة
تحفظها ذاكرة التاريخ..
جاء فيها: "إلى
سلالة بيت المجد الأكرم.. والدنا السيد عمر مكرم دام شأنه.. أما بعد.. فقد ورد
خطابكم اللطيف من الجناب الشريف, تهنئة بما أنعم الله علينا.. وفرحا بمواهب تأييده
إلينا.. فكان ذلك مزيدا فى السرور, ومستديما لحمد الشكور ومجلبه لثنائكم وإعلان
لنيل مناكم.. جزيتم حسن الثناء مع كمال الوقار ونيل المنى.. وقد بلغنا طلبكم الإذن
فى الحج إلى البيت الحرام, وزيارة روضته عليه الصلاة والسلام.. وقد أذناكم فى هذا
المرام, تقربا لذى الجلال والإكرام.. ورجاء لدعواتكم بتلك المشاعر العظام.. فلا
تدعوا الابتهال, ولا الدعاء لنا بالمقال والحال, كما هو الظن فى الطاهرين.. والمأمول
من الأصفياء المقبولين, والواصل لكم جواب منا يحمله فى خطاب كتخدانا – مساعدنا – ولكم
الجلال والاحترام مع جزيل الثناء والسلام".
كل هذا التقدير
والاحترام من جانب "محمد على" للسيد "عمر مكرم" لم يمنع أن
يعيد نفيه من القاهرة مرة أخرى!! وتلك حكاية أخرى..
يتبع
0 تعليقات