د. عبد الوهاب
مطاوع
مع صباح أول أيام عيد
الفطر المبارك، وصلتني رسالة من أحد الأصدقاء على المحمول، ملخصها أن القس
الأمريكي چيسى چاكسون – عضو الكونجرس الأمريكي الأسبق، ومرشح الرئاسة الأمريكية فى
نهاية الثمانينات من القرن العشرين – أرسل بخطاب يوم ٢١ من مايو ٢٠٢٠ الجاري، إلى
لجنة الكونجرس من السود الأمريكيين يطلب منهم إصدار قرار من الكونجرس ضد مذكرة
التفاهم المصرية إلى مجلس الأمن الدولي حول سد النهضة الإثيوبي العظيم.
حتى أنت يا
چاكسون؟
تأملت رسالة چيسي
چاكسون متعجباً فوجدت عنوانها عجيباً يقول:
“المحاولة المصرية للركوب على أكتاف حكومتنا الأمريكية والبنك الدولي” وأضاف إليهما
فيما بعد مجلس الأمن.
جاكسون ومقاله
بعد قراءة العنوان
وقبل قراءة مضمون الرسالة تذكرت قول آبائنا: “يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم،
صبحنا وصبح الملك لله”، ولا أدري لماذا تذكرت على الفور مسرحية يوليوس قيصر للكاتب
الإنجليزي الكبير وليام شكسبير، خاصة مشهد الاغتيال الرهيب ليوليوس قيصر، وبالأخص
عندما تقدم (صديقه) المقرب بروتس ليضيف بخنجره طعنة أخيرة في جسده المليء
بالطعنات، فقال قيصر قولته الشهيرة: حتى أنت يا بروتس؟ ووجدتني أردد: حتى أنت يا
چاكسون؟
وتحرك قلمي يرد على
هذه الرسالة العجيبة القادمة إلينا مع رياح الاطلنطى، والمرسلة من القس الشهير
چيسى چاكسون للكونجرس الأمريكي، يحرض فيها كتلة السود في الكونجرس ضد مصر.
وعلى الرغم من قناعتي
بأن ما جاء بمذكرة القس الأمريكي تحصيل حاصل، لأنها في معظمها إعادة ترديد
للمغالطات الأثيوبية حول النيل والمياه والتاريخ وحصة إثيوبيا وحصة مصر، ودور مصر
في عرقلة المفاوضات، إلا أنها تحمل جديداً، وما تحمله من جديد خطير ويحتاج الرد
والتفنيد.
عتاب البدايات:
سيدى القس الأمريكي
چيسى چاكسون، أود في البداية أن أعبر لكم عن حبي واعتزازي و تقديري الكامل لشخصكم
الكريم، لتبنيكم لقضايا جميع المواطنين الأمريكيين، وليس للسود منهم فقط، وذلك
عندما كنت مرشحاً للرئاسة الأمريكية فى نهاية الثمانينات من القرن العشرين، وكنت
أنا طالب علم بكلية الهندسة بجامعة ولاية كولورادو الأمريكية، وكنت ساعتها من
المخدوعين ببرنامجكم السياسي.
وبكل الصدق عندما
قرأت خطابكم (العنصري) الموجه للجنة الكونجرس الأمريكي من السود الأمريكيين، تطلب
منهم فيه الضغط من أجل إصدار قرار من الكونجرس ضد خطاب مصر لمجلس الأمن حول سد
النهضة، اكتشفت بعد أكثر من ثلاثين عامًا لماذا أخفقت أنت آنذاك فى انتخابات
الرئاسة الأمريكية؟.
إن عتاب البدايات هنا
هدفه تنبيهكم منذ البداية أن ملف مياه النيل، وملف سد النهضة، وملف العلاقات بين
دول حوض النيل، ملفات ليس بها بيض وسود، فهي ملفات مصالح مشتركة، وتنمية ومصير
مشترك بين أبناء قارة واحدة هي قارة أفريقيا، فلا تخلط الأوراق يا سيد چاكسون، ولا
تزج بالملفات العنصرية، وقضايا السود والبيض، في قارتنا السوداء، لأنك بذلك تلعب
بالنار.
الإمبراطور منيلك
الثاني:
أما بعد، فقد تركز
خطابكم يا سيد چاكسون للجنة فى عدة نقاط، كان أولها ادعاءكم بأن القوانين المنظمة
لمياه حوض نهر النيل بين دوله – و التي تصر عليها مصر، في علاقتها بدول منابع حوض
النيل العشرة، و ليس الإحدى عشر كما جاء بخطابكم والواقعة جنوب الصحراء – هى
قوانين استعمارية وذكرت منها اتفاقية عام ١٩٢٩.
ولا أدري لم نسيت أو
تناسيت في المذكرة التى تم إعدادها لسيادتك، أحد القوانين الدولية في عام ١٩٠٢،
الموقعة بين دولة إثيوبيا عندما كانت بإرادتها الحرة المستقلة، ووقعها آنذاك
الإمبراطور الأثيوبي ملك الملوك منيلك الثاني، ومصر عندها كانت محتلة من بريطانيا،
وتحت وصاية الدولة العثمانية، والتي تقضي بعدم إقامة إثيوبيا مشروعات مائية قد
تؤثر على المياه الواردة إلى مصر.
ودونما الدخول في
تفاصيل تلك القوانين الدولية، مع إسهابكم في توصيفها بالاستعمارية، أود أن ألفت
نظركم، وأطمئنكم بأن تلك الاتفاقيات ذات طبيعة دولية، وليس لك أو لغيرك الشروع في
تغييرها دونما اتفاق أطرافها، وهذا لم يحدث ولن يحدث.
وكل ما سقته فى
مذكرتكم في هذا الشأن عن تقارير لمعهد بروكينج في إبريل ٢٠١٥، والمعهد الألماني
للشئون المؤسسية والأمن بدون تاريخ، إنما هي اراء لهم و لكم ولمن أعدوا تلك
المذكرة – التى كان دورك فيها التوقيع عليها وفقط – ومثل تلك الآراء ليس لها صفة
القانون الدولي.
الضرب فى الميت
حرام:
سيدى القس، عندما
تحدثت عن سد النهضة الأثيوبي العظيم، وضرورة البدء فى ملئه دونما اتفاق أطرافه من
الدول الموقعة على إعلان المبادئ ( مصر و السودان و إثيوبيا) في مارس ٢٠١٥، نسيت
أن تعود لحكاية الاتفاقيات الاستعمارية، فاتفاقية إعلان المبادئ كانت عام ٢٠١٥،
بين ثلاث دول مستقلة، والعودة لهذه الحكاية ليس في صالحك، وقد تجاهلت أن العقد
شريعة المتعاقدين، والجديد في الموضوع أنه تتولد لدي ولدى كثير من المراقبين،
قناعة بأن هذا السد مليء بالمشاكل المحلية والهندسية والمالية منذ الإعلان عن
إنشائه و حتى يومنا هذا، و أن ما يحدث الآن هي مجموعة من (التلاكيك) لإيهام الشعب
الأثيوبي المغلوب على أمره من الصقور الإثيوبيين، و كذا من غير العالمين ببواطن
الأمور، والادعاء أن السبب الرئيسي هو أن مصر رافضة عملية الملء التجريبي، في حين
أن الحقيقة الدامغة هي أن مصر وافقت على ذلك الملء التجريبي ضمن اتفاق واشنطن دي
سي – الذي غابت عنه إثيوبيا – شرط أن يكون الملء التجريبي جزء من الاتفاق، و الذي
أعتقد أنه لن يتم الآن،.
و ليكن فى علم
فخامتكم أن وثيقة واشنطن التي ذكرت أن إثيوبيا لم توافق عليها، قد أعدها خبراء
وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي، ليس انحيازاً لمصر ضد إثيوبيا، بل تطبيقاً
لمبادئ القانون الدولي حول المياه والأنهار الدولية، التي يتشارك فيها عدة دول
وليست دولة واحدة، وخبرة التعامل مع المشاكل بين الدول في مثل هذه الأنهار، وخبرات
إقامة المشاريع والسدود في مثل هذه الأنهار، والتي يحكمها مبدأ التشاور ومبدأ عدم
الإضرار، أو تقليل الضرر، وهي خبرات ومبادئ وقوانين واتفاقيات تتم فيها مراعاة
أمور كثيرة جغرافية وديموغرافية وهيدرولوكية وجيلوجية وبيئية ومناخية وفنية، وليس
من بينها الأمور العنصرية أو العبث بحكاية البيض والسود ونقلها للقارة السوداء،
ومثل هذه الأمور الفنية ما هي إلا تمرين من التمارين التى يعدها طلبة الدراسات
العليا في أي جامعة من الجامعات الأمريكية أو جامعات العالم و ليست كما تخيلت أو
تصورت – أو صورت لك – أنها عقد إذعان.
التلاعب بالحقائق:
سيدي القس الجليل ،
لقد حاولت في نهاية رسالتك ان توهم أعضاء الكونجرس الأمريكي من السود أن إثيوبيا
دولة ضعيفة وفاقدة للارادة، أمام طغيان وجبروت مصر التاريخي، ونحن لا نشكك في قولك
فقط، بل نقول لك أنك تقدم لأصحابك من السود الأمريكان معلومات خاطئة، ولا نقول
أكاذيب، فأنت تعيد ترديد أقوال إثيوبية خادعة ومخادعة، خاصة عندما تعيد ترديد أن
مصر تحصل على نصيب الأسد من مياه النيل، وأن دول المنابع لا تحصل على شيء، فبالله
عليك كيف كانت تعيش دول المنابع ولازالت تعيش دون مياه؟ وكيف أمكنك تجاهل أن إثيوبيا
الواقعة شمال خط الاستواء، كانت غارقة في مياه الأمطار والفيضانات العام الماضي؟ و
كيف يمكنك تجاهل أن دول هضبة البحيرات الاستوائية التي يمر بها خط الاستواء، غارقة
في مياه أمطار وفيضانات العام الحالي؟ وكيف لك ألا تعلم؟ أنت ومن كتبوا لك رسالتك،
أن مصر، وهي دولة الصحراء التي يقطعها مدار السرطان، ما هي إلا المصرف الطبيعى
لهذه المياه، بعد أن تشق طريقها في مجرى النهر، فكيف لك أن تدعي أنها تحصل على
نصيب الأسد؟
التلاعب بالأرقام:
ولكي يؤكد السيد
چاكسون أن الاتفاقات استعمارية، وظالمة، وأن مصر تأخذ نصيب الأسد، يتصور أنه يمكنه
أن يخدع الكتلة السوداء في الكونجرس الأمريكي، وأن يخدع الكتلة البيضاء، والمؤسسات
الأمريكية والدولية بالأرقام والنسب التالية لمساهمة دول المنابع في مياه نهر
النيل مقارنة بمصر (اقرأ وابتسم ؟!).
يقول السيد چاكسون في
رسالته: أن إسهام إثيوبيا فى مياه النيل ٨٥٪ ، وإسهام باقى دول المنابع
الاستوائية العشرة جنوب الصحراء ( صحة العدد تسعة) ١٥٪ ، وأن إسهام مصر صفر.
وعلى الرغم من ذلك – كما
يضيف السيد چاكسون في مذكرته – فإن تقسيم الإيراد السنوي من مياه النيل، ومقداره ٨٤
مليار م٣ بين مصر والسودان طبقاً لاتفاقية ١٩٥٩، تحصل مصر على ٦٦٪ منه و السودان
على ٢٢٪ منه، وتضيع نسبة ١٢٪ منه فى التسرب والبخر من بحيرة ناصر، و بناء عليه
تحصل الدول العشرة الباقية التى تتدفق من أراضيها نسبة ١٠٠٪ من نافورة المياه،
على نصيب أو حصة مقدارها صفر.
و سؤالنا للقس
الجليل هو:
هل تصدق هذا التلاعب
بالحقائق والتلاعب بالأرقام؟ ألا تلاحظ فيما ذكرته أنك تردد مغالطات تتسم
بالمجافاة للحقيقة ولقوانين الطبيعة؟ وكيف تسنى لك المساواة بين دول المنابع ودول
المصبات في الأنهار في المساهمة في موارد النهر من المياه؟ وماذا تتصور حدوثه لو
أن مصر كدولة مصب ساهمت في النهر بما يسقط عليها من أمطار؟ هل تجري هذه الأمطار من
دولة المصب عائدة إلى أثيوبيا؟ وكيف تسنى لك أن تتجاهل في أرقامك حساب ما يسقط على
دول المنابع من أمطار؟ وكيف تمكنت من القول أن دول المنابع نصيبها من مياه النيل
يساوي صفر؟ وهي تملك ما تملكه من أمطار؟ وهي المصدر الرئيسى لكل مصادر المياه بكل
دول حوض النيل؟.
يحاول القس الجليل أن
يقنع سود أمريكا ويوهمنا بأن دول المنابع بها صفر مياه، وأن سكانها من الزومبي في
مسلسلات الأطفال، أو من الكائنات الفضائية التي تحيا بدون مياه.
وربما لا يعلم أن
سكان دول المنابع الاستوائية، وعلى سبيل المثال دولة أوغندا التي يقطعها خط
الاستواء، نصف أيام العام فيها تسقط الأمطار، أي بمعدل يوم به أمطار واليوم الثاني
بدون أمطار، وبها بحيرة فيكتوريا، أكبر بحيرة للمياه العذبة فى أفريقيا، وثاني
أكبر بحيرة عذبة بالعالم، فهل يحاول أن يقنع أعضاء الكونجرس بظلم مصر التي تحصل
على نصيب الأسد من المياه، بالوهم أن سكان دول المنابع – وأوغندا على سبيل المثال –
لا يستحمون ولا يشربون مياه؟ ولا يعرفون للسمك سبيلاً ؟ في حين أن معظم دخلهم
القومي وفي صدارته تصدير ڤيليه الأسماك.
وكيف يمكن للقس
الجليل أن يقنع العالم أن البن و الشاي الإثيوبي و الأوغندي و الكيني الشهير و سكر
القصب بهذه الدول ينمو بدون المياه؟.
وهل الثروة الحيوانية
وحيوانات الغابة الشهيرة و بالأدغال هي دمى مصنوعة من البلاستيك و الفيبر جلاس؟
ولا علاقة بينها و بين المراعي الخضر و الأعلاف، أليس نصيبهم من المياه صفر كما
يقول في رسالته؟.
لقد كانت مصر دائماً
و أبداً هى المصرف الطبيعي للمياه الزائدة، والمتبقية من استهلاك دول حوض النيل
للمياه، وربما كانت هذه الدول ستغرق، لولا أن وهبها الله أرض مصر، فأرض مصر هي هبة
الله في أرضه، وهي هبة النيل لإثيوبيا ودول منابع النيل.
القس وعبد الناصر:
أما الهمسة الأخيرة
في أذن القس الجليل، فهي:
لقد ذكرت بمذكرتك
رؤساء مصر، و قلت أنهم جميعاً من السادات ومبارك، ومرسي الذي جعلته زعيماً قومياً(؟)،
ثم السيسي، قاموا بالتهديد بضرب السدود الإثيوبية، وهذا قول تنقصه الدقة، لكنك
نسيت أو أنسيت أو تناسيت أن تذكر جمال عبد الناصر، الذي دعم جميع حركات التحرر
الوطني الأفريقية، كحركات تحرر وطني ضد الاستعمار، وليس كصراع سود وبيض، وكنا
كمصريين نستضيفهم وندعمهم ونعتبرهم في نفس مرتبة قادتنا وزعمائنا، ومنهم المناضل
نيلسون مانديلا ولومومبا وكثيرين من القادة العظام، في حين أن خطابك للجنة
الكونجرس الأمريكي يدعم الكراهية ضد مصر والشعب المصري، ويثير خطاب الكراهية بين
الشعب الإثيوبي والشعوب الإفريقية والشعب المصري، ويعبث بملفات المياه وسد النهضة
ومصير دول حوض النيل، ويدخل إلى هذه الملفات ملف العنصرية والصراع بين السود
والبيض، وهو ملف لا وجود له في مسألة مياه النيل وسد النهضة، فلا تعبث بملفاتك
الخاصة في قارتنا السوداء.
*بقلم د. عبد الفتاح
مطاوع خبير المياه
0 تعليقات