محمود جابر
إذا أردت أن تتعلم … فأول ما ستتعلمه هو أن المظاهر خادعة، وعليك أن تجاهل
افتراضاتك، لا تثق بأي شيء، مما تراه ومما تسمعه، وما يخبرك به الناس، وما تعتقد
أنك تتذكره فيما لُقِّن لك لما كانت ذاكرتك عذراء.
دع التجربة تغمرك، وأنت تبحث عن الحقيقة المخفية، تشرَّبها كالإسفنجة، لا
تتوقع شيئاً، عندئذ فقط ستكون مستعداً لأي شيئ.
عندما يكذب الجميع، من ساسة وكهنة ورؤوس الأموال والإعلام يؤازرهم، فإن قول
الحقيقة يُعد تمردا، بل عملا ثورياً، لذلك أحذر جيداً حين تقول الحقيقة … لأنها
سلاح فتاك لك وعليك.
إيجاد الحقيقة يتجاوز البحث عن البيانات والبيّنات، إنه تنقيب عن الذات،
ويجب أن يستمر مهما كان المكان الذي يأخذك إليه بحثك، لأن لاشيء يبقى خفيا ًإلى
الأبد. فكل من عرفوا الحقيقة فالأكثرية كفرتهم وقالت عنهم ملاحدة وزناديق، لذلك
حين يقول أحدهم أنك كافر أو ملحد أو زنديق فاعلم حينه أنك اقتربت من الحقيقة … وشرف
لك هو أنك لامستها او مسستها، أما الأكثرية أو الوعي المحلي المكتسب سيتم التضحية
به عاجلا أم آجلا … والتاريخ خير شاهد على ذلك.
زاد مؤاخرا الجدل والنقاش حول ابن تيميه، جدل يمكن وصفه بالبيزنطى احيانا، على المواقع وصفحات التواصل والجلسات الخاصة
التى ربما تتم احيانا فى هذه الظروف، ظروف كورونا وظروف عرض مسلسل الاختيار، وظروف
تجدد الإرهاب فى كل مكان فى مصر وخرجها.
الجدل، حول ابن تيمية، ليس جديدًا ، فقد ابتدأ منذ بداية الألفية مع توسع
الفضائيات والقنوات الإعلامية، توسّع لأسباب طائفية تعصبية من الطرفين، ولأسباب
تجارية أيضًا؛ إذ إنّ هذا الجدل يجذب المشاهدين بما يحويه عادة من سخونة ومن
عاطفية واستغلال للمشاعر الدينية؛ هناك من حاول مناقشة ابن تيمية من مشاهير النخبة
العربية موضوعيًا وعلميًا، لكن عددًا منهم ظلّ حبيس التفسيرات الطائفية لأزمات هذه
المنطقة؛ لذلك لن ندخل هنا في هذه التفاصيل والخلافات التي لن تؤدي إلى نتيجة، بل
سنحاول البقاء بما يتفق عليه من هم ضدّ أو مع، وضمن المنطق العقلاني الأساس في التحليل.
من البديهي أن محاكمة شخص، مات منذ مئات السنين، وفق معاييرنا وعلومنا
المعاصرة، أمرٌ خاطئ، والخطأ يأتي من بداهة غياب ما يكفي من معلومات موثوقة، بل إن
معظم المعلومات، يوم تأتي عن شخص مشهور، تكون منحازة حكمًا حسب رؤية من كتب؛ لذلك
ليس مهمًا لنا بوصفنا أشخاصًا عاديين غير أكاديميين، هل حقًا كان ابنُ تيمية شيخَ
الإسلام في عصره، ومثال العالم المؤمن المسلم، أم كان أكثرَ من حرَف الإسلام عن
مقاصده؟
وهل فعلًا كل ما نُقل عنه صحيح؟
بل ما يهمنا هو هل ما وصلنا عنه
يفيدنا كمجتمعات وبشر ومسلمين أم يضرنا؟
وهل تأثيره الفكري والعقائدي يساهم في البناء والتطور أو في الهدم والتخلف؟
ابن تيمية ليس هو الإنسان الشيخ الذي عاش في عصره وكتب، بل هو هذه الشخصية
الاعتبارية المتجسدة ضمن أفكار وكلمات كتبه وما نقل عنه.
من البديهي أيضًا أن ابن تيمية ليس نبيًا ولا قدّيسًا معصومًا، فهو نتاج عصره،
عصرٌ سادته المآسي والحروب والمظالم والخيبات الكبرى، فقد كان عصر انهيار الخلافة
الإسلامية العباسية برمزيتها وقوتها المعنوية، وبداية تهاوي الحضارة الإسلامية من
منارة علمية وفكرية، إلى عصر ممالك وسلطنات وطوائف ومذاهب وأعراق مُسيّرة ليقاتل
بعضها بعضًا، ضمن مستنقع حروب داخلية وخارجية دموية.
من البديهي عقلًا، والجوهري إسلاميًا، أن ابن تيمية أو أيّ عالم أو فقيه
دين لا يمثلون الإسلام بفكرهم وكتاباتهم، فمن الناحية الإسلامية والمنطقية من حق
المسلمين رمي كل ما أفتى به أو استنتجه رجال الدين المسلمين بكل طوائفهم، والإتيان
بفهم وتفسير مغاير؛ وأقول من حقهم ليس بمعنى الوجوب بل بمعنى الإمكان، لذلك من
يثور غاضبًا، من باب أن نقدَ أو الهجوم على ابن تيمية أو غيره، هو هجوم على
الإسلام أو السنة، عليه أن يعالج مشكلته بنفسه، فهو من يقزِّم الإسلام لمنتج بضعة
عشرات أو مئات من الشيوخ ورجال الدين.
إذًا، ليس السؤال: هل كان ابن تيمية أفضل أو أسوأ الناس، بل هل ما بين
أيدينا نقلًا عنه مفيد أو مضر لنا؟ وهذا يستدعي سؤالًا آخر هل لفكر ابن تيمية كل
هذا التأثير لنهتم بالإجابة؟
إذا لم يكن منتج ابن تيمية أهمّ ما يستند إليه الإسلام السياسي المعاصر،
والقراءة الإسلامية المتطرفة ، فهو أحد أهم الأسماء المؤثرة في تقوية هذا النهج
المتطرف لقراءة الإسلام وعكسه على الواقع؛ فنقد وتحليل منتجه ومنتج كثيرين غيره من
كل الطوائف، هو من أحد الواجبات الأساسية لمواجهة التطرف الإسلامي تحت كل الرايات
المذهبية والطائفية، سعيًا لإنقاذ المسلمين والإسلام ودولهم، من أن يبقى إسلامهم
أداة سهلة الاستخدام لصناع الحروب والصراعات.
من هو ابن تيمية
ابن تيمية كان منتجَ عصر متوتر جدًا، سياسيًا وعرقيًا ودينيًا وطائفيًا،
وبالتالي، لأنه ليس نبيًا معصومًا، فرؤيته وحكمه سيكونان أقرب إلى الخطأ منه إلى
الصواب، كطبيعة كل البشر، وهو لم يثبت أنه ذو قدرة على الحياد والحكم الموضوعي.
فيكفي أن نرى فتاواه حول الأقليات الطائفية المسلمة كالعلويين أو
الإسماعيلية أو الشيعة لنقرر أن الرجلَ لم يمتلك رجاحة العقل المحايد الموضوعي؛ إذ
إنه قفز مباشرة إلى التعميم على جموع بشرية كاملة، من دون اعتبار لأبسط مبادئ
المنطق والعدل وأهم أسس الإسلام. فيوم حكمَ بتحليل دماء وأموال جماعات بشرية
كاملة، فقط لأنهم وُلدوا على دين أو طائفة ما، هو مارس ظلمًا بيِّنًا، لا يمكن
تبريره، ولا يمكن معه الركون لأي حكم آخر أصدره.
طبعًا من يصدق أنه من أهل الفرقة
الناجية الوحيدة، لأنه وُلد من دون اختياره ضمن هذه الفرقة، فلن يجد في هذه
الفتاوى ظلمًا، بل سيشهر التبريرات والتفاسير، وهنا سيعجز العقل السليم عن الرد.
منتج ابن تيمية الفكري والديني كان ردةَ فعل عاطفية على سوء أحوال الدولة
الإسلامية بعصره، وهروب إلى التعلق بماضٍ يستحيل استعادته، وبهذا يشبهه الكثير من
الإسلامية السياسية المعاصرة التي بدأت مع الإخوان المسلمين، فقد أتى ابن تيمية
بعد السقوط الزلزالي للخلافة العباسية قبل ولادته بسنين قليلة، وفي زمن حروب
التتار المسلمين للمالك الشامية الإسلامية، اى حرب إسلامية إسلامية، وعودة غزوات
الفرنجة للمنطقة، وفي عصر امتزاج فوضوي بين أعراق المسلمين أنفسهم، وامتزاج
المسلمين مع ديانات أخرى، وظهور مذاهب جديدة، وحالة بائسة من الفقر والظلم والعنف
وأيضًا من الجهل؛ فهو كان رجلًا ثوريًا في زمنه، يبحث عن السبب والحل، لكنه لم
يستطع التخلص من منظوره الديني والمذهبي الضيق كرجل دين، فامتزج منتجه الفكري ما
بين الدين والسياسة بطريقة فوضوية، أدت إلى انحيازه في البحث عن التشخيص والدواء
داخل الدين. إنه لم يسعَ، كابن رشد أو ابن خلدون، لتأسيس منهج علمي في قراءة العقل
والإنسان والدول، ولا وصل بنقده إلى عمق الغزالي، بل استكان إلى فكرة مستحيلة أن
الماضي يمكن أن يعود؛ فذهب مثل كثير من رجال الدين وحتى بعض الفلاسفة لتحميل اللوم
والذنب على الناس، وبالنسبة إلى ابن تيمية حمّل المسؤولية للمسلمين عمومًا،
لابتعادهم عن منهج السلف، ولكل المذاهب والطوائف خارج مدرسة إمامه ابن حنبل، لكنه
أيضًا أضاف مسؤولية الحاكم الظالم، هو وتلميذه ابن القيم، فهو لم يستطيع في زمانه
ومعارفه امتلاك القدرة على سبر أغوار المشكلة، وذهب إلى حل بسيط سهل هو “اعتزلوا
أو عاقبوا أو اقتلوا كل مخالفينا”، فانهمرت فتاواه في التكفير والتفسيق والزندقة
وأحكامه القاسية في التعزير.
اصطدام ابن تيمية مع بعض الطبقة السياسية، وكثير من طبقة رجال الدين
الإسلامي في عصره، أدى طبيعيًا إلى تشدده وعناده في أفكاره، كما حصل مع أستاذه ابن
حنبل؛ فكان معروفًا عنه التوسع في باب ما يسميه فقهاء المسلمين “عقوبة التعزير”،
وهي بدعة وضعوها في أزمنة ماضية تمكنهم من امتلاك سلطة على الناس، من باب أنهم، أي
طبقة رجال الدين، يملكون حق تقرير ما هو ضار للمسلمين والإسلام على المدى القصير
والطويل وبالتالي معاقبة من يخالفهم، حتى من دون وجود حكم واضح بالتحريم.
بالمحصلة، ابن تيمية كان رجلًا حاد الذكاء والبديهة، وشخصية ذات مهارة في
التأثير على الناس، وفي الوقت نفسه كان نتاج مكانه وزمانه، صاحب موقف منحاز أساسًا
إلى عقيدته الإسلامية كما يراها هو وأهل مذهبه، رأها أنها الإسلام الصحيح وما عداه
إما بدع ضالة، أو فسق وزندقة، أو كفر ومؤامرة على الإسلام متصلة بطمع التتار
والفرنجة في الدولة الإسلامية.
وللحديث بقيه
0 تعليقات