بقلم د. مصطفى
يوسف اللداوي
شكلت بعض الأعمال
الدرامية التي بثتها شبكة ألـــــ mbc وغيرها من المحطات العربية، صدمةً شديدةً
لدى الرأي العام العربي، الذي اعتبر لسنواتٍ طويلة قناة ألــــ mbc
قناة الأسرة العربية المحافظة على العادات والتقاليد، والثوابت والأصول، والتراث
والحضارة، كونها المحطة العربية الأولى التي تجاوزت الحدود وكسرت حواجز الجغرافيا،
ودخلت قبل غيرها بيوتنا العربية فضائياً، فاستطاعت أن تحتل المكانة الأولى عربياً
بامتياز، وذلك من خلال برامجها الأسرية المحافظة الهادفة، والرصينة الملتزمة، التي
ما انفكت تحافظ على قيمنا العربية والإسلامية، وتتمسك بثوابتنا الوطنية والقومية،
وفي المقدمة منها القضية الفلسطينية، التي حظيت فيها بمكانةٍ كبيرةٍ وحضورٍ مميز،
ليس أقله التغريبة الفلسطينية، التي صورت النكبة الفلسطينية، وعرضت لمأساة الشعب
الفلسطيني، ومعاناته من سياسات الاحتلال الإسرائيلي الغاصب لحقوقهم والمحتل لأرضهم.
لكنها فجأة ارتكست
وسقطت في حمأة الوبيئة، وتغيرت وتبدلت، وارتدت على أعقابها وانكفأت، وتنكبت للقيم
العربية، وانقلبت على الثوابت القومية، وفرطت في الحقوق والمقدسات، وغدت للعدو
بوقاً وله صديقاً، تدافع عنه وتبرر له، وتطبع معه وتأمن له، وتمد له حبال الود
وأواصر المحبة، وتجمل صورته، وتحسن سياسته، وتصدق روايته، وتطمئن إلى براءته
ووداعته، وتدعو لحسن العلاقة معه والإحسان إليه، وجميل التعاون معه وكريم الدفاع
عنه، ووجوب حفظ أمنه وسلامة شعبه وطمأنينة أهله، وكأنه ما احتل فلسطين ولا طرد
أهلها، ولا اغتصب حقوقهم ولا قتل أبناءهم، أو كأنه يعيش مع الفلسطينيين جنباً إلى
جنبٍ بسلامٍ ومودةٍ وأمانٍ، ولا يعتدي عليهم ولا يحاصرهم، ولا يضيق عليهم ويقتلهم،
ولا يعتقل رجالهم ويعذب أبناءهم.
غريبٌ ما تقوم به هذه
المحطات الفضائية ومستنكرٌ، وفاضحٌ ما أقدمت عليه ومستقبحٌ، فقد ارتكبت كبيرةً لا
تغتفر، وسقطت بما قدمت من مسلسلاتٍ وأعمالٍ دراميةٍ في مستنقعٍ قذرٍ لا طهر منه
ولا خير فيه، ووقعت في بئرٍ من العمالة الوضيعة لا قعر له، وقد ظن القائمون عليها
أنهم يحسنون بما فعلوا صنعاً، ويعبرون عن الأمة صدقاً، ويترجمون مشاعرها بأمانةٍ،
وينطقون باسمها أصالةً، وما علموا أنهم يرتكبون في حق أمتهم خيانةً كبيرة، وأن
شعوبهم قبل أمتهم لا يرضون عنهم، ولا يوافقون على فعلتهم، بل إنهم يبرأون إلى الله
عز وجل من سوء ما فعلوا وفحش ما ارتكبوا، ويرفضون الإفك الذي جاؤوا به، والتزوير
الذي قاموا به، ومحاولات التزيين التي يقومون بها، فهم بإنتاجهم المشبوه وعملهم
الموبوء يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون الوقائع وينكرون الشواهد، ويزورون
التاريخ ويكذبون الحقائق.
لا أعتقد أن عربياً
حراً، أو مسلماً صادقاً، أو أحداً من مواطني بلدانهم التي أنتجت هذه الأعمال
ومولتها، أو سهلت عرضها وشجعت عليها، يصغي السمع إلى هذه الترهات التي جاؤوا بها،
أو يصدق الروايات التي حرصوا على تسويقها، أو يقبل بالسكوت على البهتان الذي
حاولوا فرضه، فلا أحد من شعوبنا يقدم العدو الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، ولا
أحد من أمتنا يقبل به شريكاً لنا أو جاراً معنا، ولا يوجد في أمتنا أحدٌ يقدم كلام
مارقٍ مندسٍ على كلام الله عز وجل، أو يصدق تلافيق كاذبٍ دَعيِّ على كتاب الله
ووعده الخالد، فهؤلاء هم أشد الناس عداوةً لنا، وأكثر لنا كرها وحقداً علينا، وهذه
الأعمال الخبيثة في ظاهرها وباطنها، وشكلها وجوهرها، تتناقض مع ديننا، وتتعارض مع
قيمنا، وتستهدف أخلاقنا العربية الأصيلة والإسلامية النبيلة، التي ترفض الضيم ولا
تقبل بالذل، ولا تقيم على الهوان.
قد لا أجد ما أبريءُ
به الأنظمة الرسمية للبلدان الحاضنة لهذه الفضائيات، الراعية والممولة لها، فهي قد
أقدمت بعلمٍ وعن قصدٍ على هذه الأفعال المنكرة، وقد يكون قد طُلب منها أن تقوم
بمحاولة تطويع العقل العربي، وكي وعيه وغزو فكره، وغسيل دماغه وحشو قلبه، تمهيداً
لصفقة القرن وجزءً منها، ليقبل بالكيان الصهيوني شريكاً وجاراً، قديماً وحديثاً،
له نفس حقوق مواطني هذه البلاد وامتيازاتهم، في الهوية والجنسية والحقوق المادية،
وله الحق أن تحفظ حياته وتصان مصالحه، وأن يأمن جيرانه ويطمئن إليهم وألا يعتدوا
عليه، كما من حقه أن يعود إلى موطنه الأصلي ويسكن بيته، ويستعيد جنسيته ويحمل
هويته، كما ذكر إيدي كوهين وطلب من الأنظمة العربية، أن تعترف بحقوق المواطنين
اليهود في بلادهم التي هجروا منها قسراً، وانتزعوا منها انتزاعاً.
لكنني لا أجد مسوغاً
لتبرئة الفنانين والفنانات، والممثلين والممثلات، الذين عرفناهم وأحببناهم،
وشاهدنا أعمالهم واستمتعنا بأدوارهم، وحفظنا أسماءهم وقلدنا مشاهدهم، لحسهم القومي
وصدقهم الوطني، ولمشاعرهم الصادقة تجاه الشعب الفلسطيني، وقناعتهم المطلقة بشرور
العدو الصهيوني وعدوانيته، فما كان لهؤلاء المبدعين العرب أن يقبلوا بهذه الأدوار
المشبوهة التي رسمت لهم، ولا أن يوافقوا على الاشتراك في هذه الأعمال المقصود بها
تشويه صورة النضال العربي، وتمزيق وحدة الصف، وموالاة العدو ومجافاة الأخ والشقيق،
وقد كان حرياً بهم أن يرفضوا هذه العروض التي تسيئ إليهم، وتشوه صورتهم، وتفقدهم
رصيدهم، وتضيع جنى عمرهم وحصاد حياتهم، وتفض الجمهور المحب لهم والمعجب بهم من
حولهم.
وجد العدو الإسرائيلي
ضالته في هذه الأعمال الدرامية، فطفق يدافع عنها ويروج لها، ويشكر القائمين عليها
ويمجد المشاركين فيها، وعيونه تتطلع إلى أكثر من اعتراف العرب به والتطبيع معه، أو
الاعتراف بمأساته والإقرار بمعاناته، بل إنه يطمح في استعادة حقوق اليهود القديمة،
وعودتهم إلى المناطق التي كانوا فيها، ولعلهم يتطلعون إلى حصن خيبر وأطراف المدينة
المنورة، ومضارب بني قريظة والنضير وقينقاع، وأرض الجزيرة العربية، وأخشى ما أخشاه
أن يكون هناك من وعدهم أو مهد إليهم، أو رحب بهم وأبدى سعادته بعودتهم، وتعهد
بمشاركتهم وتعويضهم، والاعتذار إليهم وتكريمهم.
0 تعليقات