أ.د هشام مختار
ما يتم تداوله علي
صفحات التواصل الاجتماعي صار يمثل النبض الحقيقي الوحيد للشارع المصري بعدما انطوي
الإعلام تحت جناح السلطة التنفيذية ... علي ذات شاكلة سلطات وجهات أخري فضلت
الموالاة عن الاضطلاع بواجباتها الدستورية بحيادية ربما تقتضي موقفاً لا يروق
للسلطة التنفيذية، عملاً بالمثل الإنجليزي القائل بأنه إن لم يكن بوسعك هزيمتهم
فانضم إليهم ...
هذا الوضع لا يمكن أن
يصب أبداً في صالح هذا الوطن، مع تفهمي لدوافعه علي غير قناعة بها ... فهو يحرم
الوطن من "التدافع" الذي ينتهي للأفضل، والذي لولاه لفسدت الأرض كما
ينبؤنا رب العالمين ... فضلاً عن كونه يمثل إهداراً فادحاً لمبدأ توازن سلطات
الدولة واستقلالية بعض جهاتها ... حتي لو حافظنا علي الإطار الشكلي كواجهة، لأنه
بمثابة خرق للدستور المستفتي عليه من الشعب ويمثل الميثاق المنظم للعلاقة بين
المواطن ودولته ومختلف سلطاتها وأجنحتها، بما في ذلك المجتمع المدني بطبيعة الحال ...
بعد هذه المقدمة التي
كان لابد منها، فحينما نطالع ما يتردد علي صفحات التواصل بشأن أداء الدولة علي
صعيد وباء كورونا، فلابد أن نرصد توجهان متعارضان علي طول الخط ... أولهما يشيد
بأداء الدولة في الأزمة، بينما الآخر يرصد سلبيات فادحة في الأداء ... ليس في مجال
بعينه، إنما علي مختلف الأصعدة، من سياسة العزل وحتي بروتوكولات العلاج، ومن وقاية
الأطقم الطبية لتوافر العلاجات في الصيدليات، وأيضاً ما بين الهيمنة التامة للدولة
علي العملية برمتها، إلي مناشدتها بفتح المجال أمام الجميع في التحليل والعلاج
لتحقيق مجابهة أفضل للجائحة ...
منظور وآخر معاكس له
تماماً، وكلا الجانبان يدلل علي صحة رؤيته مستعيناً بالأرقام والإحصائيات ... في
هذه الواقعة تحديداً ليس بوسعي الاقتناع بأن تلك حملة ممنهجه علي الدولة يقودها
الإخوان أو غيرهم ... فالمعارضة هذه المرة تخرج من أهل العلم والدراية، ممن هم
أبعد ما يكونون عن الإخوان، بل أن بعضهم يكنون لهم ألد العداء، وأرشيف تاريخهم علي
صفحات التواصل مثبت ومدون علي امتداد السنوات الطويلة الماضية ...
لست مؤهلاً للحكم
علمياً فيما بين الطرفين، إلا علي صعيد المنطق ... فالدولة هي المكلفة بإدارة
المنظومة ولديها البيانات والإحصاءات، إنما من يدينون أدائها هم أكثر منها دراية
علي المستويين العلمي والعملي، حتي وإن استعانت بقلة قليلة منهم، فالمجتمع الطبي
وبين ثناياه نجوم ساطعة في مجالها، يرصد سلبيات هو أعلم بها وأكثر دراية ... لاسيما
وأن الأطباء يتداولون فيما بينهم ما يجري ويعرفون ما لا يتم تداوله في الإعلام،
وهم بلا أدني شك علي دراية بملابسات تجارب النجاح والفشل وأسبابها ...
إنما حيث أن في
الموضوع طرفين، دولة وأطباء، أتصور أن الرجاحة تقتضي إن خاطبنا أن نخاطب الطرف الأقوى،
فليس هذا أوان النظر للعدالة، بل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ... أما الحساب فيكون بعد
انتهاء الأزمة والخروج من عنق الزجاجة ... ليس لننصب لبعضنا البعض المشانق، إنما
لنعي دروس التجربة ونصبح أكثر نجاعة في معالجة الأزمات المستقبلية ... فأظن أن تلك
الجائحة سوف تتكرر، لأن ما حدث قد فتح علي البشرية أبواب جهنم لا أتصور أنه من
اليسير إعادة إقفالها ...
لاشك لدي في أن
الدولة قد تعاملت بمنتهي الحماقة مع الأطباء (وغيرهم) خلال السنوات الماضية، مما
دفع بالكثير منهم نحو الهجرة أو الاستقالة والعزوف عن التقدم للنيابات ... وقد
صاروا يفضلون العمل في دول تقدر علمهم وجهودهم دون أن تتكلف عناء إعدادهم، بمنطق "ربي
يا خايبة للغايبة" ... فصلف الدولة تجاه الأطباء وتجاهلها لمطالب إنصافهم
المتكررة، في مقابل انحيازها الواضح لفئات أخري تغدق عليها، قد تسبب في مرارة فاضت
من حلوق الأطباء ...
محاولة الدولة
المتأخرة الاستجابة لبعض من تلك المطالب والحقوق، حرمت مصر بالفعل من مئات الأطباء
الذين هجروها للغرب والشرق الذي صار اليوم يستعين بهم لمواجهة أزمته ... وإذا كانت
الأزمة الحالية قد أجبرت الدولة علي الالتفات لهم بعدما تجاهلتهم طويلاً، فعليها
أن تعي دروس التجربة وتبدأ في الإصغاء لهم ... لاسيما حينما تصدر الانتقادات
والمناشدات عن أطباء عظام مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والحرص علي الصالح العام ...
علي الدولة أن تتخلي
عن النظرة الفوقية التي لا مبرر لها تجاه من هم خارج دولابها ... لاسيما حينما
يتعلق الأمر بصفوة مجتمعها علي مختلف الأصعدة، علمياً وثقافياً واجتماعياً ... حتي
إن كان بعضهم قد انزلق اقتصادياً بسبب الأوضاع المقلوبة التي صارت سائدة للأسف
الشديد داخل جنبات مجتمعنا، بما يجافي منطق العدالة ... فهؤلاء الذين أفنوا
أعمارهم في العلم والبحث وفي رحاب مهنتهم ليسوا أقل إخلاصاً لمصالح الوطن من سواهم
لمجرد أنهم ليسوا في دائرة صنع القرار، بل هم فعلياً الأكثر تمكناً علمياً ومهنياً
...
في وقت الأزمات يجب
أن نستمع بعضنا البعض أكثر من أي وقت آخر ... والقول بأن ذلك أوان الاصطفاف هو
قولة حق تعكس باطل ... فالاصطفاف يجب أن يكون خلف المصلحة العامة وليس وراء متخذ
القرار، بغض النظر عن مدي رجاحة هذا القرار ... ما خاب من استشار لاسيما حينما
تكون الاستشارة صادرة عمن هو أهل لها ... فالنصح بما يصب في المصلحة العامة هو فرض
عين علي من هو مؤهل له، وكاتم شهادته في علمه وتخصصه هو شيطان أخرس ...
وإذا كانت الأزمة
الحالية قد دفعتني للكتابة عن تباين الرؤي ما بين الدولة وبعض من كبار الأطباء،
فما ينطبق علي هذه الحالة ينزلق أيضاً علي مختلف فئات المجتمع ومجالاته ... وقد آن
للدولة أن تبدأ الانصات لمن هم خارج مركز إتخاذ القرار، لاسيما وقد استقرت أحوال
الوطن ولم يعد شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" مبرراً للانفراد
بالرأي ... فتعدد الآراء وتبادلها في مناخ من الحرية هو ما يضمن لمصر إتخاذ القرار
الأفضل والأكثر رجاحة ...
لم نعد في حرب، بعدما
صار ما يحدث من الإخوان وأذنابهم مجرد مناوشات علي الدولة أن تتعايش معها كما
تطالب الشعب بالتعايش مع كورونا ... لا يجوز التلكؤ في استعادة الأحوال الطبيعية
والمد في أجل المرحلة الانتقالية بعدما تجاوزنا مقنضياتها، لأن لذلك انعكاسات
شديدة السلبية علي الوطن سياسياً واقتصادياً ... فما جري لا يصح أن يتخذ ذريعة
لحرمان مصر من نتاج فكر وخبرة أفضل عقولها ... في وقت هي في أمس الحاجة لكل جهد من
أجل مجابهة التحديات التي فرضت عليها من قبل كورونا ووصولاً إليها ... فهل من
مستجيب؟
0 تعليقات