نصر القفاص
اعتبر "محمد على" أن الدعوة الوهابية بمؤسسها وكل أتباعها ومن
يدعمهم, من "الخوارج" على الدين الإسلامي..
واعتمد إستراتيجية القضاء على رؤوسها وجذورها دون تفاوض أو مهادنة..
عندما وصل إلى الأراضي الحجازية, وتدبر الأمر مع مساعديه وقادة قواته وابنه
"طوسون" قائد الحملة.. وبعد أن انتهى من أداء مناسك الحج, بدأ فى إعداد
قواته لمواجهة جماعات الوهابيين الذين يقاتلون على عدة جبهات.. أكتشف أن أهل "عسير"
يناصرون هؤلاء "الخوارج" كما أسماهم, فاتجه إلى معقلهم قرب ميناء "قنفذة"
وسيطر عليه.. أبقى فيه قوات تتجاوز الألف, وغادرهم لتصله بعدها أخبار عن محاصرة
قواته.. ترك القرار لقائد القوات, الذي اختار الانسحاب إلى "جدة" بعد أن
قدر صعوبة المواجهة.
وجد "محمد على" أن المعركة تحتاج إلى قوات أكثر ومزيد من الأموال,
فأرسل إلى نائبة – كتخدا – وهو "محمد لاظ أوغلى" ونحن ننطقها "لاظوغلى"..
أمره بتجهيز قوات لا تقل عن سبعة آلاف جندى, وإرسالهم إليه فى "جدة"
مع سبعة آلاف كيس من الأموال!!
كان السبيل الوحيد لجمع المال هو فرض مزيد من الضرائب, ومن يتقاعس يتم
مصادرة أراضيه وأمواله خاصة "الملتزمين" وهم ملاك الأراضي الكبار.. لكن
جموع الناس الذين تململوا من دفع الضرائب, اتجهوا إلى "شيوخ الأزهر" أملا
فى تدخلهم.. أدهشهم أنهم طلبوا منهم دفع الضرائب, وعدم قدرتهم على التوسط.. هنا
أدرك الناس أن خوفهم على ما يملكون, جعلهم يرفضون أى تدخل حتى لا يتعرضون لمصادرة ما
يملكون!!
وصل المدد والدعم من مصر.. وبينما "محمد على" يجهز خططه لمواجهة
حاسمة مع جيش الأمير "سعود بن عبد العزيز" وصلته أخبار وفاته فى إبريل
عام 1814.. تولى القيادة بعده نجله "عبد الله بن سعود" وكان مختلفا عن
أبيه فى قدراته القتالية.. لا يميل للحرب والقتال, ويتصف بتردده الشديد عند اتخاذ
القرار.. هذه الأخبار اعتبرها "محمد على" هدية من السماء..
لكن المعارك عندما دارت وجدت القوات المصرية, إصرارا من "الوهابيين"
أكثر على القتال وبضراوة تتجاوز ما كانت عليه وقت قيادة "سعود" لدرجة
أنهم حاصروا قوات ابنه "طوسون" فى "الطائف" فقرر أن يذهب "محمد
على" بنفسه لاستطلاع ميدان القتال.. أمسك رجاله بواحد من "الوهابيين"
أسيرا, فأحضروه له..
طلب منه أن يذهب برسالة إلى ابنه "طوسون" مقابل أن يطلق سراحه.. شدد
عليه ألا تصل الرسالة إلى قومه, وحصل على وعد بذلك وكان يعلم أن مثله لا وعد له..
حدث فعلا أن قام الأسير بتسليم
الرسالة إلى قيادة "الوهابيين" وكان مكتوبا فيها: "قادم إليكم
فالحق بنا فوق الجبل"!!
وبعد اطلاع "الوهابيين" على الرسالة فهموا أن "الباشا"
قادم على رأس جيش لا يقدرون على مواجهته.. وأنهم سيقعون بين جيشين ويتعرضون لهزيمة
نكراء..
قرروا الانسحاب وفك الحصار عن "الطائف" فكسب جيش "محمد على"
معركة دون قتال, لمجرد اللجوء إلى الحيلة!!
وعاد إلى "مكة" ومنها
إلى "جدة" ليقف بنفسه على تدريب القوات القادمة من مصر..
وخلال هذه الفترة شبت اضطرابات بين قبائل البدو, لأن حاكم "المدينة
المنورة" قتل شيخ إحدى القبائل.. وقبل أن تتفاقم الأمور.. أرسل "محمد
على" ابنه "طوسون" ليجتمع مع شيوخ القبائل, ليؤكد لهم أن "الباشا"
سيحقق القصاص العادل.. وأغدق عليهم هدايا وأموال, ليعود الهدوء وبعدها بأيام تلقى
خبر وفاة حاكم "المدينة المنورة" فأذاع "طوسون" أن أباه اقتص منه
عقابا له!!
تجمع شيوخ القبائل حول "الباشا" وساعدوه فى تأمين طريق الحج
وتقرر إعادة المناسك, ودعوة المسلمين لأداء الفريضة..
وقام "محمد على" بآداء فريضة الحج للمرة الثانية.. وفى يناير عام
1815 واجه جيش "الوهابيين" فى موقعة "بسل" وهى أكبر المعارك
التى قادها وخاضها جيش "محمد على" وانتهت بنصر ساحق.. تحرك بعده وأعاد
السيطرة على ميناء "قنفذة" وعاد رافعا رايات النصر إلى "مكة".
استقر "طوسون" بقواته فى "المدينة المنورة" لتصله
رسالة من الأمير "عبد الله بن سعود" يعرض فيها الصلح والطاعة..
كانت الرسالة مفاجأة, لاعتقاده بأن جيوش "الوهابيين مازالت قوية ولم
تصل إلى هذا الضعف..
أجاب "طوسون" بمهلة لمدة 20 يوما لمراجعة والده.. وافق الأمير
وأعلن الهدنة.. فوجىء "طوسون" بعودة والده فجأة إلى مصر, فأرسل له رسولا..
وفى الوقت نفسه وصلته رسالة من والده بأن يستعد للزحف على "الدرعية" – الرياض
– فقرر استطلاع رأى القادة حوله فى الأمر, فاتفقوا على استمرار الهدنة وقبول الصلح
بشروط..
وكان أولها أن يدخل "الدرعية" ويسيطر عليها, وأن يرد "الوهابيين"
ما نهبوه من الحجرة النبوية..
وأن يضع الأمير نفسه رهن أوامر "طوسون" وفى حالة قبوله لهذه
الشروط, لا يتم تنفيذ الصلح حتى يوافق "محمد على"!!
وافق الأمير "عبد الله بن سعود" وأرسل وفدا إلى القاهرة, للقاء "الباشا"
وعرض الصلح..
لكن "محمد على" تشدد كثيرا واعتبر فى شروط "طوسون" تساهلا,
باعتبارها ستبقى على قوة "الخوارج" – الوهابيين – وفى رأيه أن إظهار هذا
الولاء ليس أكثر من خضوع مؤقت..
واشترط أن يحضر الأمير إلى "القاهرة" ومنها إلى "الآستانة"
ليضع نفسه رهنا لأوامر السلطان!!
لكن الأمير عندما بلغه تشدد "محمد على" إلى هذا الحد, تراجع عن
طلب الصلح وتأهب لاستئناف القتال..
هنا قرر "محمد على" إرسال ابنه "إبراهيم" ليقود الحملة
وسحب "طوسون" الذى وصل للقاهرة يوم 8 نوفمبر عام 1815, واستقبله الناس
فى احتفال ضخم..
وتحرك "إبراهيم باشا" قبل وصول أخيه إلى الجزيرة العربية, ووصل
إلى "ينبع" عن طريق "القصير"..
وبعد أن جهز جنوده وقواته اتجه إلى حيث يتحصن "عبد الله بن سعود"
وحوله جيشه من "الوهابيين"..
حاصرهم "إبراهيم باشا" لثلاثة أشهر, ودارت عدة معارك فقد خلالها 2400
جندي مصري فى حين لم يسقط من جيش "الوهابيين" سوى 160 مقاتلا..
فدخل فى تفاوض مع الأمير "عبد الله" وفض حصاره, وفى طريق عودته اتجه
إلى "عنيزة" فسيطر عليها وكانت معقل "الوهابيين"..
واستمرت المعارك لشهور طويلة.. حتى
كان سقوط "الشقراء" التى اتخذها الأمير و"الوهابيين" كنقطة
دفاع متقدمة عن "الدرعية" التى اتجه إليها للسيطرة عليها بقوة السلاح
تنفيذا لأوامر والده!!
ووصلها يوم 16 إبريل عام 1818.. فوجد دفاعا مستميتا عنها ليستمر القتال
شهرين.. وكاد جيش "إبراهيم باشا" أن ينكسر.. لكنه صمم على النصر أو
الموت كما قال لجنوده, وهاجم "الدرعية" التى لم تتحمل ضرباته..
فأرسل له الأمير "عبد الله بن سعود" طالبا الصلح وإيقاف القتال
يوم 9 سبتمبر عام 1818..
وافق "إبراهيم باشا" واستعد للقاء الأمير "عبد الله" الذى
حضر بنفسه, فاستقبله بحفاوة شديدة واحترام وتقدير واضحين.. واتفقا على أن يتسلم "إبراهيم
باشا" الدرعية وأن يعفو عن الذين قاتلوه, فى مقابل أن يسلم نفسه للسلطان فى "الآستانة"
وتلقى "محمد على" أخبار هذا الانتصار يوم 28 أكتوبر, فأمر بإطلاق
المدافع وإعلان النصر الحاسم.
انكسرت شوكة "الوهابيين" ونبذهم البدو والقبائل.. ودفعت مصر ثمنا
فادحا فى هذه المعارك القاسية التى استمرت لسنوات..
وعاشت القاهرة احتفالات غير مسبوقة
استمرت سبعة أيام, وصفها "الجبرتى" بتفاصيل وقال أن "محمد على"
شارك فيها بنفسه بالأزبكية والقلعة وبولاق.. واستقبل "محمد على" الأمير "عبد
الله بن سعود" فى القاهرة واستضافه فى قصر شبرا – كلية الزراعة حاليا – وجهز
رحلته إلى "الآستانة".. وبالفعل وصل إليها وهناك أمر السلطان العثمانى
بقتله.. وقتل بالفعل!!..
وهو أمر أغضب "محمد على"
جدا.. وعاد "إبراهيم باشا" إلى مصر يوم 9 ديسمبر عام 1819 وتم استقباله
باحتفالات جددت تلك التى عاشتها القاهرة بإعلان الانتصار.
يكشف المؤرخون أن عودة "محمد على" المفاجئة من "مكة" إلى
مصر, كانت بسبب تلقيه أخبار مؤامرة عليه يقودها "لطيف باشا" الذى كان من
المقربين إليه ويتولى أمور الخزانة – وزارة المالية – بعد عودته من "الآستانة"
التى كان "محمد على" قد أرسله إليها برسالة توضح موقف الحرب فى الجزيرة
العربية.. هناك استقبله السلطان وأنعم عليه برتبة "الباشا" التى لا
يحملها غير "محمد على" وأولاده وأغدق عليه أموال, وألمح إليه بأنه يمكن
أن يخلف "محمد على" فى حكم مصر.. وظهر ذلك بعد عودته إلى مصر, حين راح
يقرب إليه أتباعا استعدادا للوقت المناسب..
كل هذا أخطر به مساعدو "الباشا"
عبر رسول وصله فى "مكة" فقرر العودة السريعة.. وقبل وصوله كان "إسماعيل
باشا" قد قرر دعوة "لطيف باشا" لاستيضاح الأمور, فلما رفض الحضور
إلى "القلعة" أرسل إليه قوة حاصرته واقتحمت منزله.. حاول "لطيف
باشا" الهرب بعد مقاومة, لكنه سقط مقبوضا عليه وصدر الحكم بإعدامه!!
كانت "الآستانة" دائما عاصمة المؤامرات وتدبير الانقلابات ضد
الأصدقاء والأعداء.. والفرق هو الانقلاب على الأصدقاء إذا قويت شوكتهم, وعلى
الأعداء بتوظيف الأقوياء لمواجهتهم قبل الانقلاب عليهم..
هكذا سنجد أن التاريخ يحفظ فى ذاكرته حقيقة وجذور صراعات بدأت منذ مئات
السنين, وبقيت تتفاعل وتجدد نفسها بين الحين والآخر.. لنصل فى العصر الحديث إلى أن
تركيا – الدولة العثمانية – التى خلصها حاكم مصر من "الوهابية", تستخدم
حاليا أحفادهم من "جماعة الإخوان" للثأر من "محمد على" الذى
أذاقهم كئوس الهزائم واحدا بعد الآخر فيما بعد..
يتبع
0 تعليقات