آخر الأخبار

الأزهر.. أصل الحكاية!! (12)





 

 

 

نصر القفاص

 

 

 

ترك الشيخ "رفاعة الطهطاوى" كنوزا من العلم والفكر والمعرفة, وأعطى لمصر مئات من العلماء والمبدعين الذين درسوا على يديه.. وترك للمكتبة العربية عشرات الكتب ومئات القصائد والمقالات.. واستحق أن يدرسه عشرات فى دراسات علمية داخل مصر وخارجها, وينالوا درجات "الماجستير" و"الدكتوراه" فى اسمه وعلمه ودوره الوطني..

 

 

وبقى "الأزهر" حريصا على تجاهل كل ذلك, وللأسف سقط من ذاكرة الثقافة المصرية عندما أصبحت "الثقافة" مجرد كلمة بلا معنى ووظيفة يتكسب بها الصغار فتاتا!!

 

 

قدم سيرة الرجل تلميذه "صالح مجدى بك" فى كتابه "حلية الزمن بمناقب خادم الوطن" وفيه شرح دور "الشيخ رفاعة" فى التبشير بأهمية "الدستور" وأهميته فى حياة الأمم, حتى أنه يستحق أن نقول عنه أول من طرق باب البحث فى الفقه الدستوري.. لأنه درس نظام الحكم فى فرنسا وقدم رؤيته له فى "تخليص الإبريز" والذى ذكر فيه: "ملك فرنسا ليس مطلق التصرف, والسياسة الفرنساوية هى قانون مقيد بحيث أن الحاكم هو الملك بشرط أن يعمل بما هو مذكور فى القوانين التى يرضى بها أهل الدواوين – البرلمان – والقانون عندهم هو باب العدل".

 

 

تناول "الشيخ رفاعة" المساواة بين الناس فى دفع الضرائب, وذكر أنه شاهد التزام المجتمع بدفع الضرائب بما لو حدث فى بلاد الإسلام لطابت النفس..

 

 

واستدرك موضحا الفرق بين الضرائب كحد للمجتمع وقاعدة بناء دولة, والزكاة عندنا فى الإسلام..

 

 

وأكد على أن الزكاة لا يمكن أن تكون بديلا للضرائب.. والمؤسف أن الشرح بالأسباب والتأصيل تحمله الكتب فى هذا الزمان, فإذا بالقائمين على الأزهر يخفون هذه الكتب ويتجاهلون صحابها.. ثم يفرضوا على المجتمع أشكالا من التسول باسم الزكاة, وراح الأزهر ودار الإفتاء وغيرها يتنافسون على جمع الأموال كزكاة.. دون اهتمام أو تركيز بتوضيح قيمة الضرائب فى صناعة مستقبل الأمم.. وتلك هى القضايا التى يجب أن نسأل الأزهر فيها وعنها..

 

 

وسبق أن رصدها أحد رجال الأزهر, كما فعل "الشيخ رفاعة" والذى تناول – أيضا – فى "تخليص الإبريز" قضية حرية الرأي والنشر بتوقفه أمام المادة التى تعلى هذه القيمة فى الدستور الفرنسي..

 

 

 فيقول: "المادة الثامنة فى الدستور تقوى كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله بما لا يضر غيره.. فيعلم الناس ما فى نفس صاحب الرأي" .

 

 

وامتدح الصحافة عندهم وأظهر قيمتها بقوله: "الورقات اليومية المسماة بالجرنالات والكازيكات.. يعرف منها الإنسان سائر الأخبار المتجددة.. داخليا وخارجيا.. أي داخل المملكة – فرنسا – أو خارجها..

 

 

وإن كان يوجد فيها من الكذب ما لا يحصى!!

 

 

إلا أنها تتضمن أخبارا تتشوق نفس الإنسان إلى العلم بها.. على أنها ربما تضمنت مسائل علمية جديدة أو تنبيهات مفيدة أو نصائح نافعة سواء كانت صادرة من الجليل أو الحقير.. لأنه لا يخطر ببال الحقير ما يخطر ببال العظيم.. ومن فوائدها – أي الصحف – أن الإنسان إذا فعل فعلا عظيما أو رديئا, وكان من الأمور المهمة كتبه أهل الجرنال ليكون معلوما للخاص والعام.. وذلك يرغب صاحب العمل الطيب, ويردع صاحب الفعلة الخبيثة..

 

 

كذلك إذا كان الإنسان مظلوما من إنسان كتب مظلمته فى هذه الورقات, فيطلع عليها الخاص والعام فيعرف المجتمع الظالم من المظلوم.. ويفصل محل الحكم – المحكمة – فيما يتم نشره حسب القوانين المقررة, لينال من يتجاوز جزاءه ويكون عبرة لمن يعتبر".

 

 

 

كان "الشيخ رفاعة" مشغولا بالتطور حوله, لم يبع للمجتمع قصصا قديمة وحكايات عن أزمنة انتهت..

 

 

لذلك سنجده توقف مطولا عند ثورة الشعب الفرنسى عام 1830 وتعاطف مع تداعياتها وكشف أسباب ذلك.. فكتب راويا: "لما كانت سنة 1830.. إذا بالملك أظهر – أصدر – عدة أوامر, منها النهى عن أن يظهر الإنسان رأيه وأن يكتبه أو يطبعه بشروط خصوصا للكازيكات – الجرائد – اليومية.. لأنه أصبح لابد من أن يطلع عليها أحد من طرف الدولة قبل طبعها" وهنا سنجد أن الرجل توقف طويلا أمام حرية الرأي وعلاقة بالحاكم بها.. واختار الانحياز لحق المجتمع حين قال: "جعل الملك قائد العسكر أميرا, وهو مشهور عند الفرنساوية بعدائه لمذهب الحرية.. مع أن هذا خلاف الكياسة والسياسة والرياسة.. ولو كان الملك يتمتع بهم, لجمع حوله العقلاء وأحبابا للرعية.. فلو أنعم بإعطاء الحرية لأمته, لما وقع فى هذه الحيرة ونزل عن كرسيه فى المحنة الأخيرة"!!

 

 

هذا ما كتبه "الشيخ رفاعة" وتم طبعه ونشره بأوامر "محمد على" وفيه تبشير بقيمة الديمقراطية فى حياة شعوب تعودت على ممارستها وفهمها ودفعت ثمنها.. هكذا أكد فى كتابه.. بل أنه أشاد بالجنرال "لافييت" كأحد أهم رجال هذه الثورة.. وقال عنه: "هذا الرجل شهير بأنه يحب الحرية, ويحامى عنها فاستحق التعظيم كما الملوك" وترسخت هذه القيم داخل نفس "الشيخ رفاعة" حتى تمكن من إقناع "الخديوى إسماعيل" بإنشاء مجلس شورى عام 1866.. واعتبر أن ذلك عملا رائعا سيخلد اسمه ويعلى قيمته فى التاريخ..

 

 

وهذا ما حدث فعلا, وأصبحنا لا نذكر إنشاء أول برلمان فى تاريخ مصر دون تذكر "الخديوى إسماعيل"..

 

 

 

وشارك فى إصلاح النظام القضائي بتعريب القوانين الفرنسية, وضبطها لتنسجم مع أحكام الشريعة الإسلامية.. تولى "الشيخ رفاعة" فريقا يقوم على المهمة فى عصر إسماعيل, ومعه "عبد الله بك السيد", و"عبد السلام أفندي أحمد", و"أحمد أفندي حلمى"..

 

وهؤلاء أنجزوا تعريب القانون المدني..

 

 

 

أما قانون المرافعات فتولاه معه "عبد الله أبو السعود أفندي", و"حسن أفندي فهمي".. وعرب "محمد قدري باشا" قانون العقوبات..

 

 

وتولى "صالح بك مجدى" تعريب قانون الجنايات.. وكلهم تلاميذه الذين قدمهم ليسهموا فى صناعة مستقبل الوطن..

 

 

وقبل الإطاحة بـ" الخديوى إسماعيل" كانت قد صدرت مجلة "روضة المدارس" ليتولى "الشيخ رفاعة" رئاسة تحريرها..

 

ومن خلالها قدم أقلاما لأساتذة كبار أمثال "عبد الله بك فكرى", و"إسماعيل بك الفلكى", و"محمود باشا الفلكى", والشيخ "عبد الهادى الإبيارى", و"أحمد بك ندا" عالم النباتات الشهير, والشيخ "حسونة النواوى", والشيخ "حمزة فتح الله" أحد أهم شيوخ وعلماء الإسكندرية – آنذاك – وأسهمت المجلة فى نشر العلم والمعرفة, ومنها ظهرت مدرسة الشعر الحديث..

 

 

 ونشر على صفحاتها عددا كبيرا من القصائد الوطنية التى تغنى فيها باسم مصر وتاريخها.. ونشر بعضا منها "عبد الرحمن الرافعى" فى كتابه "عصر محمد على" وضمن فصائده واحدة يتحدث فيها عن عظمة الجيش المصرى, الذى اعتبره قاعدة بناء الوطنية وحماة الوطن..

 

 

وحمل اللواء من بعده "محمود باشا سامى البارودى", و"إسماعيل صبرى", ثم "أحمد شوقى", و"حافظ إبراهيم" أى أن كل هؤلاء خرجوا من عباءة هذا الشيخ العظيم – رفاعة الطهطاوى – المفترى عليه بحرمان أجيال متعاقبة من التعرف عليه, ودراسة ما قدمه لبلاده كواحد من أبناء "الأزهر" الذين رفضوا التجارة فى الجهل واستثمار التخلف!!

 

 

كان كتاب "تخليص الإبريز" هو الأول الذى تم نشره بعد عودته من فرنسا, وكان كتابه الثانى الذى ألفه هناك ونشره بعده هو كتاب "قلائد المفاخر" وقام بتعريب أمهات الكتب فى الجغرافيا وطبعتها مطبعة بولاق عام 1838..

 

وكان كتابه "نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز" هو آخر مؤلفاته, وقال "صالح بك مجدى" أنه ترك كتبا لم تطبع منها: "مجموع المذاهب الأربعة" وكذلك "شرح لأمية العرب" وكتابا عن "مونتسكيو" بعنوان "مناهج الألباب المصرية" وكل هذا التراث والإبداع تجاهله الأزهر, وسقط من ذاكرة الثقافة المصرية..

 

 لذلك لا تعرف الأجيال أن كتابه "المرشد الأمين للبنات والبنين" كان أول دعوة لتحرير وتعليم المرأة, وفيها كشف قيمة العمل بالنسبة للمرأة وانعكاس ذلك على المجتمع وأجياله وهو يستحق وقفة فيها بعض التفاصيل..

 

 الأزهر.. أصل الحكاية!! (11)




يتبع

 


إرسال تعليق

0 تعليقات