آخر الأخبار

الأزهر.. أصل الحكاية!! (14)











نصر القفاص


رحل "محمد على" وتم نفى "رفاعة الطهطاوى" إلى السودان.. وكانت قرية "محلة نصر" بمركز "شبراخيت" فى محافظة "البحيرة" تشهد ولادة "محمد عبده حسن خير الله" عام 1849, ليطل على الدنيا رجلا أضاف نورا إلى نور العلم والاجتهاد الإسلامي.. وكان مشوار "محمد عبده" لا يختلف كثيرا عن أقرانه من الذين قدمهم الريف المصري للوطن.. فالتعليم يبدأ من البيت, ثم ينتقل إلى أحد "الكتاتيب" وهو ما حدث مع "محمد عبده" الذى واصل تعليمه ودراسته فى رحاب "الجامع الأحمدي" – السيد البدوي – وانتسب إليه عام 1862, وقضى ما بين عام ونصف وعامين.. ثم تمرد على أسلوب التدريس الذى كان يلزمه بالحفظ فقط, ويحرم عليه السؤال والتفكير.. رفض الاستمرار فى هذه الدراسة, وعاد إلى قريته عام 1865 وقرر أن يعمل بالزراعة وتزوج.. لكن والده استعان بخاله "درويش خضر" لإقناعه بالعودة إلى "الجامع الأحمدي".


كتب الإمام "محمد عبده" فى مذكراته أنه كان قد وصل إلى حد كراهية القراءة.. وكان يقرأ فقط لخاله لضعف بصره.. وكان يميل إلى الهرب من هذا الواجب, لكى يلهو ويلعب مع الشبان.. "خالي كان يطلب منى قراءة كتب بعينها فى الصوفية, وهو يستمع ويشرح لى.. وبعد أيام قليلة كنت أواصل القراءة وحدي, وأرفض اللعب مع زملائي".. والسبب أنه سأل خاله عن سلوك بعض المسلمين.. فأجابه قائلا: "لو كانوا مسلمين لما راحوا يتنازعون على أمور تافهة, ولا سمعتهم يحلفون بالله كذبا" وأضاف: "ولما اندهشت.. راح يحدثني عن تأديب وتهذيب النفس وقيمة العقل.. اقتنعت بالعودة للجامع الأحمدي فى فبراير عام 1868.. ثم انتقلت للأزهر بالقاهرة, واخترت دراسة التصوف.. وضعت نفسى فى عزلة وتفرغت للعلم والقراءة, لدرجة أننى كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصا لغير ضرورة"!!


يحكى الشيخ "محمد عبده" فيقول أنه خرج من عزلته عام 1871 عندما شاهد ثورة الأزهر ضد "جمال الدين الأفغاني" الذى جاء ليدرس فى الأزهر.. "اتصلت به لأسمع منه وأتأكد إذا ما كان يقدم علما يزعزع العقيدة كما قال الأزاهرة!! وجدته يتكلم فى العلوم الرياضية والفلسفة والمنطق.. يتحدث عن الاستبداد السياسى والزحف الاستعماري والتخلف.. أعجبني علمه وكلامه فاقتربت منه كثيرا.. هنا خسرت أستاذي محمد عليش شيخ الأزهر الذي يعتبرني من نوابغ تلاميذه.. طردنى من المسجد الحسيني!! أخبرت الشيخ حسن الطويل وكان يدرس لنا الفلسفة والمنطق فى الأزهر فضحك وقرر أن يصحبنى إلى الشيخ الأفغاني فى منزله.. وكان بيته هو مدرسته التى لم أنقطع عن الحضور فيها".



فى أول سبتمبر عام 1876 نشرت جريدة "الأهرام" بعد شهر من صدورها, مقالا وصفت كاتبه بأنه "العالم العلامة الأديب الشيخ محمد عبده" وذكرت الجريدة أن مقالاته هدفها: "بث الأفكار بين الناس لتكون سببا لتنوير البصيرة وتطهير السريرة وتحرك فيهم روح الغيرة"!!


قبل قرن ونصف عندما صدرت "الأهرام" قدمت شابا على أنه العالم العلامة.. وأكدت على أن هدفها التنوير.. وقت أن كان من يقرأون لا يتجاوز عددهم بضع مئات من الآلاف أو أقل.. وفى زمننا هذا يقود سفينة "الأهرام" ويكتب على صفحاته كثيرون من الذين يحملون شهادات جامعية بلا علم ولا ثقافة!! وإشارتي فيها دعوة لفهم أسباب عودة المجتمع للخلف!!


تعلم "محمد عبده" من أستاذه "جمال الدين الأفغانى" درسا مهما ملخصه "المجددون الأوائل والسابقين كانوا رجالا ونحن رجال.. هم اجتهدوا لعصورهم ونحن أجدر بأن نجتهد لعصورنا" وفى ضوء هذا الدرس ارتبط بأستاذه جدا.. واختلف معه كثيرا, لدرجة أن كل منهما أخذ طريقا يختلف عن الآخر.. لدرجة أن "محمد عبده" لم يرثه عند وفاته!! فقد ذهب "محمد عبده" إلى تعلم اللغة الفرنسية وقرأ لكبار المفكرين فى زمنه بداية من "ديكارت" و"ماكس نوردو" و"ويستر مارك" وغيرهم من أساتذة علم الاجتماع, درس فلسفة "ابن سيناء" ومنطق "أرسطو" وهذا اتجاه جعل "شيوخ الأزهر" يتواصون بعدم منحه شهادة العالمية التى تقدم لنيلها عام 1877.. لكن شيخا للأزهر جديد وهو الشيخ "محمد المهدى العباسى" رفض هذا التربص.. ترأس بنفسه لجنة الامتحان, فحصل "محمد عبده" على الشهادة.


فى عام 1878 عينه "رياض باشا" وكان رئيسا للوزراء مدرسا فى مدرستي الألسن والإدارة.. أصبح "محمد عبده" امتدادا للراحل "رفاعة الطهطاوي" وامتد نشاطه لتدريس التاريخ فى "دار العلوم" ليعلم تلامذته مقدمة ابن خلدون وكتب التاريخ والبلاغة, ويحدثهم عن الحرية والإخاء والمساواة وكلها مفاهيم مرفوضة من جانب أقرانه فى "الأزهر" كذلك كانت حركته وعلاقته بالمجتمع مختلفة.. فهو قريب من الساسة ورجال الدولة.. يناقشهم.. يتفق ويختلف معهم.. وأصبح جزءا من الحركة الوطنية فى أواخر أيام حكم "الخديوى إسماعيل" ثم أصبح واحدا من رموز "الثورة العرابية" التى واجهت الاستعمار الانجليزي حين جاء بأساطيله لاحتلال مصر عام 1882, وكان وقتها رئيسا لتحرير "الوقائع المصرية" وقدم لها كتابا متميزين بينهم "إبراهيم الهلباوى" و"سعد زغلول" وتولى مسئولية الرقابة على المطبوعات, وأصبح عضوا فى المجلس الأعلى للمعارف العمومية فى مارس عام 1881.. ولم تمنعه مواقعه الرسمية من إعلان مواقفه, حتى احتل الانجليز مصر فى سبتمبر عام 1882.. تم القبض عليه ليقضى فى السجن ثلاثة أشهر, ثم صدر عليه حكما بالنفي لثلاث سنوات واقترن الحكم بعدم عودته دون إذن "الخديوى توفيق".. سافر يوم 23 ديسمبر إلى "بيروت" وفيها قضى عاما, ومنها سافر إلى "باريس" ليلحق بأستاذه وشيخه "جمال الدين الأفغاني" وأصبح نائبه فى مجلة "العروة الوثقى" وهى فى حقيقة الأمر كانت تنظيما سريا يدعو لإصلاح العالم الإسلامي.. لكنه اكتشف أن "الأفغاني" منهجه يقوم على "الثورة" بينما هو يميل إلى دعوات "الإصلاح والتنوير" كسبيل لتطوير الأمة.


قام "محمد عبده" بزيارة إلى "بريطانيا" وقضى أسبوعين, وصفهما "بلنت" فى كتابه "جوردون فى الخرطوم" فقال: "وصل محمد عبده من باريس يوم 21 يوليو عام 1884.. تغيرت آراؤه عما رأيته آخر مرة.. فالشعور السائد عنده هو كراهيته للانجليز إضافة إلى كراهية الشراكسة – الأتراك – ويرى أن عرابي دوره انتهى كشخصية سياسية فى مصر" وأضاف "بلنت" وهو مستشرق انجليزي عاش معظم سنوات عمره فى مصر, قائلا: "صحبت الشيخ محمد عبده فى زيارة لمجلس العموم البريطاني.. وخلال زيارة لبيت سير وليفر ولوسن عضو البرلمان.. شهد اللقاء مناقشة شدد خلالها الشيخ على ضرورة مغادرة قوات الاحتلال لمصر.. وخلال لقاء آخر مع لابوشير أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني تحدث بأنه يشك فى أن يترك الانجليز مصر, لأن جلادستون رئيس الوزراء البريطاني تكشف تصريحاته بأنه ذهب ليبقى فى مصر والسودان"!!


ويذكر "بلنت" عن "محمد عبده" أنه قال: "إن تعاطف الانجليز مع المصريين الذى تتحدثون عنه.. أشبه بتعاطف الذئب مع الحمل قبل التهامه"!!

 كان الشيخ "محمد عبده" يملك هذه الجرأة وقوة المنطق والعلم والمعرفة, ويوضح ذلك أن "الأفغاني" كان يقول له: "قل لى بالله.. أى أبناء الملوك أنت"!!


وقال عنه "الخديوى عباس" ذات مرة: "يدخل على كأنه فرعون"!!


سيرة الإمام "محمد عبده" تستحق أن نتوقف أمامها كثيرا, لحاجتنا إلى علمه ومعرفته وآرائه التى يتم حجبها مع سبق الإصرار والترصد!! وذلك يحدث مع كل الذين اجتهدوا لتنوير المجتمع وتجديد أفكاره..



الأزهر.. أصل الحكاية!! (13)


يتبع

إرسال تعليق

0 تعليقات