آخر الأخبار

الأزهر.. أصل الحكاية!! (13)






 

نصر القفاص

 

 

كانت سنوات "رفاعة الطهطاوي" فى السودان مؤلمة على نفسه, لأنه عاشها مبعدا.. منفيا.. لكنه حولها إلى طاقة إبداع وإنجاز بأن قام بتعريب كتاب "مواقع الأفلاك فى أخبار تليماك" – تليماك قبلة علماء الفلك – وفى مقدمته كشف عن حجم الأسى والألم فى نفسه..

 

 

 وتضاعف تأثره عندما توفى زميله "محمد بك بيومى" الذى رافقه فى المنفى.. ورغم ذلك قاتل اليأس بالإبداع فى إدارة المدرسة الابتدائية التى تولاها وهو هذا العالم الكبير والعظيم الشأن.. وقدم من خلالها عددا من الشباب الذين تولوا مسيرة التنوير فى السودان, خاصة وأن "الخديوى إسماعيل" توسع فى فتح المدارس بالسودان.. وامتدح "رفاعة الطهطاوى" السودانيين وأخلاقهم فكتب عنهم أنهم: "يقبلون على التمدين لدقة أذهانهم.. ولهم مآثر عظيمة فى حسن التعلم وتحصيل العلم.. ورأيتهم يقبلون علينا بأعداد غفيرة, وكان الأهالي يسهمون فى رعاية هؤلاء الطلاب بتقديم ما يستطيعون لمساعدتهم على التحصيل".

 

 

 

رحل "عباس الأول" عام 1854, وتولى "سعيد باشا" الحكم, فقرر إعادته وأسند إليه وكالة المدرسة الحربية فى "الحوض المرصود" وكان يتولى إدارتها "سليمان باشا الفرنساوى" رئيس رجال الجهادية – قائد الجيش – ثم تولى إدارة المدرسة الحربية الجديدة التى تم إنشاؤها فى "القلعة" وجمع بين هذا المنصب ورئاسة "قلم الترجمة" وكذلك إدارة مدرسة "المحاسبة والهندسة والعمارة"..

 

 

 

 وفى عام 1860 تم إلغاء كل هذه المدارس فقضى ثلاث سنوات بلا منصب.. حتى تولى "الخديوى إسماعيل" عام 1863 فنصبه عضو فى "قومسيون المدارس" وهو أشبه بالمجلس الأعلى للجامعات حاليا..

 

 

 وخلال فترة توقفه الثانية أنهى كتابه "المرشد الأمين" الذى كان قد شرع فى كتابته فى السودان..

 

 

وفيه ذكر بالنص: "ينبغى صرف الهمة فى تعليم البنات والصبيان معا لحسن معاشرة الأزواج.. فيجب أن تتعلم البنات القراءة والكتابة والحساب.. لأن هذا يزيدهن أدبا وعقلا ويجعلهن بالمعارف أهلا.. ويصلحن به لمشاركة الرجال فى الكلام والرأي, فيعظمن فى قلوبهم ويعظم مقامهن لزوال ما فيهن من سخافة العقل والطيش, مما ينتج عن معاشرة المرأة الجاهلة لمرأة مثلها.. وليمكن المرأة عند اقتضاء الحال – الحاجة – من أن تتعاطى مع الأشغال – أى تخرج للعمل – ما يتعاطاه الرجال على قدر قوتها وطاقتها.. فكل ما تطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن – أى كل ما تقدر عليه تفعله – وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة.. فإن فراغ أيديهن عن العمل, يشغل ألسنتهن بالأباطيل, وقلوبهن بالأهواء وافتعال الأقاويل.. فالعمل يصون المرأة عما لا يليق ويقربها من الفضيلة.. وإذا كانت البطالة مذمومة فى حق الرجال, فهى مذمة عظيمة فى حق النساء"!!

 

 

 

رأيت أن أقتطف سطورا من كتاب "المرشد الأمين" للشيخ "رفاعة الطهطاوي" قبل ما يقرب من قرنين من الزمان, لندرك حجم وخطورة ما فعله فينا شيوخا آخرين.. فإذا كان هو قد ملأ الدنيا علما ونورا, فقد عشنا – ومازلنا – نرى الذين يأخذوننا للجهل والتخلف باسم الدين..

 

 

وهؤلاء هم أحفاد "الوهابيين" الذين حاربهم "محمد على" بالسلاح, ونسفهم الشيخ "رفاعة" بالعلم والفكر ومفاهيم الدين الصحيحة.. لذلك أبدعوا فى تجهيل الأمة بدوره وفكره وعلمه, وحين حاولوا تذكيرنا به قدموا لنا عبر "الأزهر" أحد أحفاده وهو السفير "محمد رفاعة الطهطاوي" فى عباءة "جماعة الإخوان" ثم جعلوه رئيسا لديوان رئاسة الجمهورية, خلال السنة التي تولاها "محمد مرسى".. فهذا الحفيد لابد وأنه لم يقرأ كتب جده.. لم يتعرف على إبداع جده وإنجازه.. رغم أن جده سافر لمرة واحدة إلى "فرنسا" وعاش فيها خمس سنوات, أما سعادة السفير فقد سافر العديد من الدول وعاش فى مجتمعات قطعت أشواطا أطول وأبعد من التقدم والتطور.. لكنه أغلق عقله واغتاله فكره, ومضى سنوات مختبئا داخل وزارة الخارجية.. حتى أطل علينا مستشارا لشيخ الأزهر, ثم كشف وجهه وحقيقته عندما عندما تمكن "أحفاد الوهابيين" من رقبة مصر!!

 

 

أعود إلى الشيخ "رفاعة" لأضيف أنه لم يكتف بتأليف كتاب "المرشد الأمين" بل سعى إلى ترجمة أفكاره إلى حقيقة.. فهو كان قد حاول مع "محمد على" إقناعه بتعليم البنات, لكن "الباشا" لم تقنعه هذه الأفكار.. وذلك ذكره "يعقوب آرتين باشا" فى كتابه "التعليم العام فى مصر" المنشور باللغة الفرنسية.. لكن الشيخ "رفاعة" عاد وحاول ونجح عام 1873, حين أقنع "جشم آفت هانم" إحدى زوجات "الخديوى إسماعيل" بإنشاء أول مدرسة لتعليم البنات.

 

 

يحدثنا "صالح بك مجدي" عن أستاذه "رفاعة الطهطاوي" فيقول عنه: "كان قصير القامة.. عظيم الهامة.. أسمر اللون.. كان فيه دهاء وحزم.. وجرأة وثبات عزم.. إقدام ورياسة, ووقوف تام على كل الأحوال.. وكان حميد السيرة وحسن السريرة" . ويضيف بأنه كان يتمتع بشهامة وعشق لوطنه. لكن ولاة الأمر كانوا لا يميلون إلى إسناد المناصب الرفيعة له كالوزارة.. وهذا لم يهمه.. فقد كان يهمه أن يعلم ويتعلم, وكان يهمه تنوير الناس.. ويتصف بالجود والكرم.. كما كان شديد التواضع كلما تولى مسئولية.. وكان قليل النوم كثير الانهماك فى التأليف والتعريب, لدرجة الانصراف عن الاعتناء بهندامه!!

 

 

 

رحل "الشيخ رفاعة" عام 1873 عن عمر 75 عاما.. ونشرت "الوقائع المصرية" نعيه.. كذلك مجلة "روضة المدارس" وكتبه ابنه "على بك" وبقى علمه وفكره فى دائرة الضوء..

 

وكان "الأزهر" ورجاله يفخرون ويفاخرون به, حتى سقطت مصر مرة أخرى فى قبضة الاستعمار عام 1882 وهذه المرة كانت بمؤامرة مكتوبة بين "الدولة العثمانية" و"الإمبراطورية البريطانية" اسمها تاريخيا "ميثاق النزاهة" وتصدى لهم تلاميذ "رفاعة الطهطاوي" ويتقدمهم الإمام "محمد عبده" والأستاذ "عبد الله النديم" ولم تتلاشى سيرة رائد التنوير فى العصر الحديث إلا لسنوات قليلة, حتى كانت ثورة 1919 التى لعب خلالها "الأزهر" دورا رائعا وعظيما.. ثم عادت الانتكاسة بما حدث مع كتاب الشيخ "على عبد الرازق" الذى نسف فكرة الخلافة – الإسلام وأصول الحكم – ثم بعدها كتاب عميد الأدب العربي الدكتور "طه حسين" – فى الشعر الجاهلي – وكليهما حاربه "الأزهر".. وعاملهما كما عامل "رفاعة الطهطاوي" و"محمد عبده" والوقائع والتفاصيل فيهما المعرفة لعلنا نقدر على التشخيص الدقيق للأزمة, أملا فى أن نصل إلى العلاج.. ومازالت هناك صفحات أخرى تستحق أن نقلبها..

 

 الأزهر.. أصل الحكاية!! (12)


 يتبع

 


إرسال تعليق

0 تعليقات