نصر القفاص
علم "محمد عبده"
تلاميذه أن يرفضوا من يقول "أنا عبد المأمور"!!
وكان يؤكد أن العبيد
لا يملكون حق تبوء المناصب أو إبداء الرأي!!
لذلك كانت حياته محطات تتغير بما يتعلمه أكثر
ويفهمه بشكل أعمق.. فهو مؤمن بالمنهج الإصلاحي, ولحظة أن وجد بلاده فى خطر تحول
إلى ثوري أكثر شراسة فى ثوريته من "أحمد عرابي" ونصحه باغتيال "الخديوى
توفيق" و"عمر لطفى" حاكم الإسكندرية, باعتبار أن هذا سيخلط أوراق "الأتراك"
و"الانجليز" القادمين لاحتلال مصر..
وبعد أن قضى شهورا فى
السجن وتم نفيه, راجع نفسه وعاد إلى منهجه الإصلاحي.. وكان ذلك سببا فى اختلافه الجذري
مع أستاذه "جمال الدين الأفغاني" الذى عاش فى "فرنسا" وغادرها
ليعيش أيامه الأخيرة فى "الآستانة" لقناعته بدولة الخلافة..
بينما "محمد عبده" كان قد كون عقيدة
ترتكز على علم, بأنه لا خلافة فى الإسلام.. وأنها مجرد لافتة لممارسة الصراع السياسي..
وتعاظمت قناعة "محمد عبده" بأن "مصر
للمصريين" فراح يعبر عن رفضه للدولة العثمانية والاحتلال الانجليزي.. لكنه
كان يناور ويهادن بين الحين والآخر.
غادر "محمد عبده"
منهج "الأفغاني" وترك "باريس" عائدا إلى "بيروت" عن
طريق "تونس" واستقر بين أهل "لبنان" ينشر الفكر الإسلامي
والثقافة والمعرفة, إلتف حوله الناس وذاع صيته.. كانت المساجد التى يلقى فيها
دروسه تضيق بالحضور, ويتجمع حولها المئات.. وأحيانا الآلاف.. والمدهش أنه كان
بينهم مسيحيون يحبون سماع دروسه, ولأنهم كانوا ممنوعين من دخول المساجد.. راحوا
يشكون له ذلك, فأذن لهم بدخول المسجد شريطة الوقوف فى نهاية الصفوف!!
وأسس منهج التفكير العلمى فى تحقيق التراث وكتبه,
وهو المنهج الذى اتبعه "طه حسين" حين أقدم على إعداد كتابه "فى
الشعر الجاهلى"..
وأسس "محمد عبده" فى "بيروت"
جمعية سرية للتقريب بين الأديان, ضمت كبار علماء الإسلام والمسيحية واليهودية.. لكنه
طوال الوقت كان دائم الاشتياق للعودة إلى مصر, ولم يترك بابا دون أن يطرقه أملا فى
الحصول على موافقة بالعودة.. نجحت محاولته عبر صديقه "سعد زغلول" الذى
كان يتردد على صالون الأميرة "نازلى فاضل" ويحضره كبار رجال السياسة
والأدب والفكر.. وأصبح "محمد عبده" بعد عودته لمصر أحد نجومه.
تدخلت الأميرة "نازلى"
بعد أن فاتحها "سعد زغلول" وعرضت الأمر على اللورد "كرومر" الذى
أقنع "الخديوى توفيق" بالموافقة على عودة "محمد عبده" بشرط
عدم الاشتغال بالسياسة.. وافق "محمد عبده" وعاد عام 1889 واستأجر سكنا
فى شارع "الشيخ ريحان" قرب سراى عابدين.. ولما سأله أحد أصدقائه عن سر
اختياره هذا المكان, أجاب ضاحكا: "حتى نناطح عابدين مناطحة"!!
وفى كتابه الرائع "الإمام
محمد عبده" يقدم الأستاذ "السيد يوسف" الكثير من سيرة رائد
الاجتهاد والتجديد فى العصر الحديث.. فيذكر أن "الخديوى توفيق" رفض
عودته للتدريس وعينه قاضيا بمحكمة "بنها" ومنها انتقل إلى محكمة "الزقازيق"
ثم جاء إلى محكمة "عابدين" وأصبح مستشارا فى محكمة الاستئناف عام 1891
وبعدها بعام تولى "الخديوى عباس" السلطة.. اقترب منه "محمد عبده"
وقدم له دراسة لإصلاح التعليم والأزهر والمحاكم الشرعية.. لم يؤثر قربه من الحاكم
على مواقفه وقناعاته, حتى بعد أن أصبح عضوا بمجلس إدارة الأزهر عام 1895 فى إطار
رؤية إصلاح شهدت إعداد قانون ولائحة جديدتين للأزهر..
ويوم أن اجتمع "الخديوى عباس" بمجلس
الإدارة الجديد, طلب الشيخ "محمد عبده" الكلمة ليقول: "إن مجلس
إدارة الأزهر لا يعرف لسموكم أمرا عليه, إلا بالقانون واللائحة دون التفات لأية
أوامر شفوية يتم نقلها لنا.. لأننا لا نثق بما ينقل ومن ينقل ونرفض مخالفة قانونكم
الذى أصدرتموه"!!
كان "محمد عبده"
لا يهمه فى الحق لومة لائم, لذلك توترت علاقته بـ" الخديوى عباس" عندما
حاول اغتصاب أراضى الأوقاف.. رغم أنه كان قد أصبح مفتى الديار المصرية اعتبارا من 3
يونيو عام 1899, واعتبارا من هذا الوقت عاد لإلقاء دروسه فى "الأزهر" وقدم
تفسيرا متكاملا للقرآن الكريم بقى مهجورا رغم حاجتنا إليه فى هذا الزمن أكثر من أى
وقت مضى.. وقبل وفاته بشهور تقدم باستقالته من عضوية مجلس إدارة الأزهر – فى شهر
مارس – احتجاجا على إعاقة خطط إصلاح الأزهر!!
وتوفى الإمام يوم 11
يوليو عام 1905 بالإسكندرية, وللمصادفة أنه كان اليوم نفسه الذى ضرب فيه الانجليز
الإسكندرية لاحتلال مصر.. وتفردت جنازته بأنها أقيمت مرتين.. الأولى فى الإسكندرية
والثانية فى القاهرة, التى وصلها جثمانه بالقطار.. وكان يوم وداعه مشهودا فى
العاصميتن.. ودعه الآلاف بالمدينتين.. وترك سيرة عطرة وعلما نافعا وثلاث بنات هن
أولاده..
وفى كتابه "التاريخ السري للاحتلال الانجليزي
لمصر" وصفه "بلنت بأنه: "الفيلسوف والوطني الكبير الذى كان رحيله
ضربة قاصمة لى ولبلاده.. فقد كان حكيما ورجل دين كبير وزعيم إصلاحي عظيم الشأن.. أسس
نفوذا لنفسه برجاحة العقل والعلم".
عاش "محمد عبده"
مؤمنا ومعلما للأمة بضرورة تحرير الفكر من قيود التقليد, وفهم الدين وأصوله بشكل
صحيح.. طالب بإصلاح أساليب تعليم اللغة العربية.. شرح حق الحكومة فى أن يطيعها
الشعب, مقابل العدالة الاجتماعية كواجب على الحكومة.. ونضجت رسالته وأصبحت واضحة
المعالم, وكان صعبا أن يحاججه أقرانه من العلماء لتمتعه بحصيلة علمية ورؤية نقدية
لكل ما يدرسه.. شرح أهمية وقيمة الحرية السياسية والتنظيمات الحزبية مؤكدا أن غياب
الحرية وضعف هذه التنظيمات لا يكون بديله غير أن يملأ الجيش هذا الفراغ لخدمة
الشعب والأماني الوطنية!! وكان يرى أن نواب الشعب الذين يمثلونه فى مجالس الشورى, إذا
افتقدوا العلم والنزاهة تحولوا إلى خطر على الأمة لأنهم سيبحثون عن مصالحهم والجاه
على حساب الطبقات الدنيا فى المجتمع!! وتحفظ جريدة "الوقائع" مقالا كتبه
فى عددها الصادر يوم 10 نوفمبر عام 1881 وفيه كان يخاطب المواطن بقوله: "أنت
أيها الوطنى فى أول درجة من مرقاه – طريق – السياسة, وفى أول مرحلة من طريق الحرية..
لن تبلغ الدرجة العليا إلا إذا صعدت سائر الدرج.. لن تدرك الغاية القصوى ما لم
تقطع سائر المراحل, وإن حاولت غير ذلك.. لن تأمن الهبوط من الدرجة التى بلغتها, والرجوع
من المرحلة التى وصلت.. بل ربما صرت على مسافة أعوام مما كنت ترجوا إدراكه فى أيام"!!
حين تقرأ هذا الكلام
بعد ما يقرب من قرن ونصف, ستكتشف أن الإمام "محمد عبده" كتب التشخيص
والعلاج, لكننا لا نقرأ ونتمسك بالدوران فى الفراغ.. أو ما أسميه بالبقاء داخل "الدائرة
المغلقة" لأن أمراض بداية الطريق الديمقراطي, مازالت متوطنة بيننا لذلك
تحايلنا بممارسة "الديمقراطية المزيفة"!!
وهذه الأفكار والرؤى تجد بارعين فى طمسها والحجر
عليها, لأن الذين يقومون بذلك هم المستفيدين من أن نستمر فى تيه سياسى وديمقراطى
لعشرات السنوات.. ولا تستغرب إذا علمت أن "محمد عبده" كان يرى ضرورة أن
تذهب مصر إلى النظام الجمهورى, وتحدث عن ذلك "محمود سامى البارودى" فقال:
"كنا نرمى فى بداية حركتنا إلى قلب مصر إلى جمهورية مثل سويسرا, على أن تنضم
إلينا سوريا ثم الحجاز.. لكننا وجدنا أن العلماء – شيوخ الأزهر – غير مستعدين لذلك"
وأضاف "محمد عبده قائلا: "وقف ضد هذه الأفكار الجهل الذى لم يمكننا من
الترقى" وعاد "محمد عبده بعد احتلال مصر ليقول عام 1884 لجريدة "بال
مال جازيت" الانجليزية: "أطالب باختيار حاكم جديد لا يكون مكروها عند
الشعب, ويوافق عليه السلطان لمدة سبع أو عشر سنوات.. ثم يسمح بعدها للشعب بانتخاب
حكامه.. فإذا أثبت من يحكم فى نهاية المدة – الفترة الانتقالية – أنه رجل أمين, فقد
يحتفظ بمنصبه"!! وكل هذا ثابت تاريخيا وعاش فى الكتب الغائبة عن أيادى شبابنا..
ثم نستغرب من المشى "محلك سر" لرفضنا إعادة الجسور بين الشعب وتاريخه..
يتبع
0 تعليقات