آخر الأخبار

قاعدة الرشد في خلافهم (الحلقة الثالثة)

 

 







قاعدة الرشد في خلافهم 

 

نظرة في المساحة ودائرة الاحتجاج

دراسة نقدية

(الحلقة الثالثة)

 

 

 

بقلم/ علي جميل الموزاني

 

 

 

أهم المؤاخذات على هذه القاعدة:

 

 

 

فإننا هنا نسلم بصحة هذه المقولة ولكننا نُعلق عليها فنقول:

 

 

إن تطبيق هذه المقولة إنما يكون في باب الترجيح بين الروايات بعد التسليم بصحتها وعدم حمل أحداهما على التخصيص أو التقييد, فحينئذٍ نلجأ الى خيارات الترجيح بحسب التسلسل المتبع لدى الفقهاء(1), وهو أن يكون أولاً بالشهرة، فان تساويا بالشهرة ذهبنا الى الترجيح بالأعدلية والأوثقية، فان تساويا ذهبنا الى الترجيح بمخالفة العامة، ثم بمخالفة ميل الحكام وهكذا كما ورد في لسان الروايات.

 

 

 

ولا يمكننا ان نجعل من هذه المقولة ميزاناً عاماً نُحاكم فيه كل النصوص الروائية فربما كان الحديث موافقاً للعامة وهو الصحيح وما خالفهم يكون هو الباطل, ولا يمكننا ان نجعله مستنداً لاستنباط الأحكام الشرعية كما يراه صاحب الحدائق يحث يقول (ثم الترجيح بالعرض على مذهب القوم والأخذ بخلافهم، لاستفاضة الأخبار بالأخذ بخلافهم وإن لم يكن في مقام التعارض أيضا كما تدل عليه جملة من الأخبار. منها رواية علي بن أسباط المروية في التهذيب وعيون الأخبار ، وفيها ما يدل على " أنهم متى أفتوا بشيء فالحق في خلافه " وفي صحيحة محمد بن إسماعيل ابن بزيع عن الرضا (عليه السلام): " إذا رأيت الناس يقبلون على شيء فاجتنبه " وفي صحيحة أبي بصير المروية في رسالة الراوندي المتقدم ذكرها عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ما أنتم والله على شيء ولا هم على شيء مما أنتم فيه، فخالفوهم فما هم من الحنيفية على شيء" وفي بعض الأخبار: " والله لم يبق في أيديهم إلا استقبال القبلة " وحينئذٍ ففي مقام التعارض بطريق أولى)(2).

 

 

 

وفي بعض استدلالاته الفقهية يقول أيضاً (قد تكاثرت الأخبار بعرض الخبر على مذهب العامة والأخذ بخلافه وإن كان لا معارض له, حتى ورد أنه إذا احتاج إلى معرفة حكم من الأحكام وليس في البلد من يستفتيه من علماء الإمامية يُسأل فقهاء العامة ويُأخذ بخلافهم)(3), الى هذه الدرجة جعلوا من هذه القاعدة التي تختص ببعض مراحل التعارض باباً فقهياً عاماً يلجأ إليه الفقيه في استنباط الأحكام الشرعية.

 

وقد رفض هذا القول غير واحد من الأعلام مؤكدين بان تطبيق هذه المقولة إنما هو في حالة التعارض فقط كما اوضحناه وليس دائماً ومطلقاً وبذلك يقول الشيخ الأنصاري في بيان التعليل الوارد (لتقديم الخبر المخالف للعامة بأن الحق والرشد في خلافهم وأن ما وافقهم فيه التقية، فإن هذه كلها قضايا غالبية لا دائميه)(4), وما يؤكده السيد الحكيم بقوله ان (هذه القضايا غالبية لا دائمة لاتفاقنا معهم في بعض الأحكام)(5), ويقول صاحب الفوائد أيضاً (فإنه لا يصح أن يقال خذ بكل ما خالف العامة لما عرفت من أنه كثير من الأحكام الحقة توافق قول العامة، فلا يمكن أن يرد قوله عليه السلام فان الرشد في خلافهم دستوراً كُلياً للمكلفين بحيث يكون بمنزلة الكبرى الكلية)(6), فما ذهب اليه صاحب الحدائق ليس في محله.

 

 

وقد حاول السيد الخوئي التقليل من أهمية هذه المقولة بقوله (أن مجرد كون إحدى الروايتين مخالفة للعامة لا يوجب القطع بأن الخبر الموافق لهم لم يصدر أو صدر عن تقية، لان الأحكام المتفق عليها بين الفريقين كثيرة في نفسها، فيحتمل كون الخبر الموافق لهم صادراً عن المعصوم لبيان الحكم الواقعي وكون الخبر المخالف لهم غير صادر أو صدر عن غير جد)(7).

 

 

بل وذهب الى ابعد من ذلك حيث جعل التعليل الوارد عنهم عليهم السلام انما هو لترجيح الخبر فيما اذا كان فيه الرشد غالباً حيث يقول (أن كل خبرين يكون في أحدهما الرشد غالباً يجب الأخذ به، فإنه ليس الآخذ بمخالف العامة بحيث يكون فيه الرشد دائماً لكثرة الأحكام المتفق عليها الفريقان في نفسها)(8).

 

 

ثم ان معظم ان لم نقل كل الروايات التي ورد في مضمونها التصريح بمخالفة العامة جاءت عن الإمام الصادق عليه السلام ومن المعلوم أن في زمنه لم تَعتمد الخلافة آنذاك مذهباً معيناً من مذاهب الإسلام المعمول بها اليوم, ففي حالة التطبيق لابد ان يُنظر الى زمن صدور النص ودراسة بعده التاريخي ومع أي الأقوال الفقهية التي يختلف أو يتفق معها وهل (حقّاً يوجد معطى تاريخي يؤكّد أنّ المخاطر كانت تطال حتى هذه التفاصيل الجزئيّة التي وقعت خلافات كبيرة وتفصيلية بين أهل السنّة أنفسهم فيها، لاسيما والجميع يعرف أنّ الدولة العباسية لم تشهد إعلان مذهبٍ فقهي على أنّه المذهب الرسمي إلى ما بعد "على الأقل" الإمام الكاظم (ع)، فإسقاطك فكرة المذهب الرسمي على تلك الأزمنة هو أيضاً يحتاج لدراسة معمّقة)(9).

 

 

وما تنقله لنا كتب التاريخ والسير في مناظرات الإمام الصادق عليه السلام وأصحابه مع الدهرية والجهمية والقدرية ومع أبي حنيفة خير دليل وشاهد على ان هنالك فسحة من الحوار الفكري والتناظر الفقهي وبيان الأبعاد الاستدلالية في الاعتماد على الأحكام الشرعية, وقد نقل الذهبي في سيّره مناظرة الإمام الصداق عليه السلام مع أبي حنيفة وما كان يتمتع به عليه السلام من القوة والهيبة التي تخرس الفطن ما نصه (عن حسن بن زياد قال: سمعت أبا حنيفة، وسئل: من أفقه من رأيت؟ قال: ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد، لما أقدمه المنصور الحيرة، بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من مسائلك الصعاب. فهيأت له أربعين مسألة. ثم أتيتُ أبا جعفر، وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما، دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لأبي جعفر، فسلمت وأذن لي، فجلست. ثم التفت إلى جعفر، فقال: يا أبا عبد الله، تعرف هذا؟ قال: نعم. هذا أبو حنيفة. ثم أتبعها: قد أتانا. ثم قال: يا أبا حنيفة، هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله فابتدأت أسأله. فكان يقول في المسألة: أنتم تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا، فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيتُ على أربعين مسألة ما أخرم منها مسألة. ثم قال أبو حنيفة أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس)(10), وغيرها من الروايات التي ذُكرت في كتب التاريخ والسير(11).

 

 

 قاعدة الرشد في خلافهم ((الحلقة الثانية)


 

[يتبع]

هوامش:_____

(1) فرائد الأصول, الشيخ الأنصاري, ج٤, ص٧٣.

(2) الحدائق الناضرة, المحقق البحراني, ج١, ص١١٠.

(3) الحدائق الناضرة, المحقق البحراني, ج٣, ص٤٤٧.

(4) فرائد الأصول, الشيخ الأنصاري, ج٤, ص٧٧-78.

(5) منتقى الأصول, تقرير بحث الروحاني, للحكيم, ج٧, ص419.

(6) فوائد الأصول, الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني, ج4, ص٧٧٧.

(7) مصباح الأصول, تقرير بحث الخوئي، للبهسودي, ج٣, ص٤١٩.

(8) مصباح الأصول, تقرير بحث الخوئي، للبهسودي, ج٣, ص٤٢٠-421.

(9) إضاءات في الفكر والدين والاجتماع, حيدر حب الله, ج4, ص78.

(10) سير أعلام النبلاء - الذهبي - ج ٦ - الصفحة ٢٥٧- ٢٥٨.

(11) راجع ذلك في بحار الأنوار, المجلسي, ج۱۰, ص۲۲۰-۲۲۱، الاحتجاج, الطبرسي, ص360- ص362-


إرسال تعليق

0 تعليقات