تحت عنوان ثورات المصريين: كشف الغطاء، نقدم رؤية
سياسية، اجتماعية، ثقافية، للتعرف على ما كشفت عنه هذه الثورات من حقائق، ومن
خبرات ودروس، في هذا المقال، نقدم الحلقة الثالثة من هذه الرؤية.
محمد فرج
إن الثورة المصرية في حلقاتها وموجاتها – وثورات
الربيع العربي كذلك – كشفت عبر هذا الانقسام السياسي / الثقافي عن وجود مشروعين
للمجتمع والدولة:
مشروعان:
أما المشروع الأول فهو مشروع مستقبلي حداثي، يقوم
بناؤه على مبدأ حرية الفكر والاعتقاد، وحرية الرأي والتفكير والتعبير والإبداع،
ويقوم على قواعد التنمية والعدل والحرية والمساواة، وعدم التمييز بين المواطنين
على أساس الأصل الاجتماعي أو العرقي، ولا على أساس الانتماء الديني أو المذهبي أو
اللون أو الجنس، واتخذ هذا المشروع عنواناً له يتمثل في العمل من أجل بناء الدولة
المدنية الديمقراطية الحديثة، دولة القانون والمواطنة.
وأما المشروع الثاني فقد قام في مواجهة هذا
المشروع المستقبلي الحداثي، وهو مشروع ماضوي يبحث عن أمجاد الماضي في النصوص
وأقوال السلف الصالح ودول الخلافة، ويسعى نحو تثبيت وإعادة إحياء العادات
والتقاليد الاجتماعية القديمة، والعلاقات القبلية والعشائرية ومجتمعاتها التجارية
وعلاقاتها الأبوية ودولتها الوراثية، ولم يفصح هذا المشروع الماضوي صراحة عن عنوان
مشروعة في إقامة دولة سلفية إخوانية طائفية دينية، ترفض الآخر الاجتماعي، والآخر
الثقافي، والآخر الديني وتكفره، واكتفى برفضه لأي حديث أو إشارة إلى مدنية الدولة
أو مدنية التشريع، وأخفاها البعض منهم خلف شعار دولة مدنية بمرجعية إسلامية، لكن
الحشود السلفية ومليونيات تطبيق الشريعة عبرت عن مشروعها في الدولة الطائفية تحت
شعار إقامة الدولة الإسلامية، ودولة الخلافة، وتطبيق الشريعة، ورفضها للدولة الوطنية،
كدولة للمواطنة.
المناورات نجحت ولم تنجح:
وبينما سعت جماعة الإخوان إلى إخفاء مشروعها في
إقامة دولة إخوانية طائفية دينية، وقامت بمناورات جمع الأصوات وجمع الحلفاء من
القوى المختلفة والمثقفين والكتاب والأفراد من شتى التيارات الفكرية والثقافية
والسياسية، جاء عام واحد من حكم مكتب الإرشاد، وحكم التنظيم الدولي للإخوان
وممثلهم في قصر الرئاسة، ليكشف عن مخطط التمكين والأخونة، وليضع أمام القوى
الوطنية والشعبية مشروع الدولة الإخوانية الطائفية في التطبيق، وكشف هذا العام من
حكم الإخوان عن البنية الفكرية والثقافية لتفكير مجتمع الأهل والعشيرة القبلية،
وهي بنية ثقافية تنتمي لمجتمعات القرون الوسطى، مجتمعات العبودية والإقطاع وسلطتها
الأبوية، مجتمعات ما قبل الرأسمالية وما قبل الصناعة وما قبل الدولة الحديثة
والتعددية وما قبل الفصل بين السلطات.
وسعت الجماعة إلى نقل مجتمع السمع والطاعة الأبوي
للإمام أو المرشد أو الخليفة أو الحاكم الفرد إلى الدولة، في تفاعل مع مخطط
التمكين والأخونة الذي أنتج عداء وعدوان قصر الرئاسة ضد كل سلطات ومؤسسات وأجهزة
الدولة، القضائية والإعلامية والثقافية والدينية والدفاعية والأمنية والإدارية
والمحلية.
وكشفت أوضاع وصراعات ما بعد ثورة 30 يونيو 2013 –
(أو الموجة الثانية من الثورة الشعبية المصرية الراهنة) – كشفت عن عمق الثقافة
العشائرية لجماعة الإخوان، التي لا ترى إلا نفسها، ولا ينتمي أفرادها إلا للجماعة
والأهل والعشيرة على حساب أي انتماء آخر وطني أو قومي، كما كشفت هذه الموجة عن
تغلغل الثقافة الفاشية والإرهابية والقمعية في عقل ووجدان أفراد جماعة الإخوان
ومكتب إرشادها وتنظيمها الدولي، وكشفت عن استمرار وجود جهازها الخاص الذي تمدد
ليملأ المجال كله ومكتب الإرشاد كله، وكشفت عن تحول الجماعة إلى تنظيم مسلح وفرق وميليشيات
مسلحة ذات أبعاد إقليمية ودولية، بعد أن كانت قد أخفت هذه الحقائق خلف أحاديث
التحول السياسي والتغير السياسي والاعتدال الديني ورفض العنف والإرهاب.
وكانت الجماعة لعدة عقود، قد صدَّرت خطاباً
إعلامياً أظهرت فيه نفسها جماعة مضطهدة، ومحظورة النشاط، ومحاصرة من أجهزة الدولة
القمعية، وساعدتها عدة قوى سياسية، حكومية ومعارضة، في الترويج لهذا الخطاب
الإعلامي الزائف، أو الذي تأكد زيفه بعد ذلك.
..وإلى الحلقة الرابعة من ثورات المصريين، لنركز
على زاوية أخرى.
ثورات المصريين: مجتمع مسكون بثقافات القرون الوسطى .. (٢ – ٥)
0 تعليقات