تحت عنوان ثورات المصريين: كشف الغطاء، نقدم رؤية
سياسية، اجتماعية، ثقافية، للتعرف على ما كشفت عنه هذه الثورات من حقائق، ومن
خبرات ودروس، في هذا المقال، نقدم الحلقة الرابعة من هذه الرؤية.
محمد فرج
إن الثورة المصرية في موجاتها الراهنة لم تكشف
الحقائق حول وجود التيارات الفكرية والسياسية والثقافية الرافضة للتقدم والحداثة
والدولة الوطنية فقط، الرافضة لمبدأ حرية الفكر والاعتقاد فقط، الرافضة لدولة
ومجتمع المساواة والمواطنة فقط، الرافضة لسيادة الثقافة المدنية الديمقراطية فقط،
فضلاً عن رفضها لقيم الحرية والعدل الاجتماعي والمساواة بين البشر، بل كشفت أيضاً
عن حقيقة أوضاع الكثير من القوى الاجتماعية.
الضعف البنيوي للفئات والطبقات :
إن ثورات المصريين بكشفها عن وجود حقيقة مثل هذه
الصراعات والأفكار، كشفت في الوقت نفسه عن نقاط ضعف كبيرة بين أفراد وجماعات وفئات
وطبقات المجتمع المصري، وهي نقاط ضعف يتصورها البعض موجودة عند النخبة فقط وهي
ليست كذلك، هي للمفارقة متفاقمة عند أفراد النخبة، لكنها عميقة وثقيلة بين أفراد
الفئات الاجتماعية المتنوعة في أعماق المجتمع المصري.
ومن أهم هذه النقاط، ضعف انتشار الثقافة
الديمقراطية التعددية بين فئات وطبقات المجتمع، ويظهر هذا الضعف في صور متعددة، من
بينها ضعف ثقافة احترام التنوع والاختلاف، وضعف القدرة على الحوار المنطقي
والتفكير العلمي والخيال والإبداع، وضعف ثقافة التنسيق والتحالف والقدرة على كسب
الأصدقاء والحلفاء، وتقلص مساحات التفكير النسبي وقيمه التعددية ومنطقه الدافع
لاحترام الخلافات واحترام إمكانيات الخطأ، بل وحق الخطأ، والتواضع وثقافته
الديمقراطية، وتضخم مساحات ثقافة امتلاك الحقيقة المطلقة ومنطقها وقيمها.
ويعكس هذا الضعف نفسه على كافة المستويات
الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في المجتمع المصري، مظهراً سلبياته
وحدود تطوره الاجتماعي والسياسي، كمجتمع يعيش على سطح العلاقات الرأسمالية للمجتمع
الرأسمالي الحديث، ويعيش ويستهلك منتجاته من السلع الحديثة، لكنه مازال يحمل معه
ثقافات مجتمعات ما قبل الرأسمالية وما قبل الحداثة، ثقافات المجتمعات القبلية
والعشائرية والإقطاعية، ومازال مسكوناً بأفكار وعلاقات وجماعات القرون الوسطى،
ومشدوداً للخلف من دعاة الدولة الدينية أو شبه الدينية أو الدولة الطائفية،
ومحاصراً في علاقات وثقافات مجتمعات ما قبل الدولة الوطنية.
ضرورة التعرف على المجتمع كما هو :
وتطرح هذه المسألة على كل القوى الوطنية، من قوى
اليسار والليبرالية، وتطرح على كل القوى الاجتماعية النقابية والشعبية، ضرورة التعرف
على المجتمع المصري على حقيقته، كمجتمع تطوره الاقتصادي والاجتماعي والثقافي
والسياسي محجوز ومقيد، مجتمع لم تقم طبقته الوسطى البرجوازية بثورة ناجزة في
مجالات التصنيع والإنتاح المادي والفكري والثقافي، ولم تأخذ قواه الاشتراكية من
الثورة سوى تحريض القوى الشعبية على التظاهر والانتفاض، ولم تأخذ من نظرية الثورة
سوى نظرية حرق المراحل المشكوك في علميتها، مجتمع لم تكن نخبته البرجوازية بقادرة
على إنجاز أي قدر ولو يسير من التنوير العقلي والمدني، بل مقاومة ومحاصرة أي كاتب
أو مفكر أو مثقف، مدني أو أزهري، يسعي نحو التنوير الفكري، أو التحرير العقلي، أو
التفكير العلمي، أو الاجتهاد، فهي نخبة برجوازية في حالة تزاوج واندماج مع طبقة
كبار ملاك الأرض وقيمها وأفكارها وبنائها الثقافي، ودولتها في حالة تزاوج واندماج
تاريخي مع الكهنة ورجال الدين والجماعات السلفية الدينية، وكيانها الاجتماعي مسكون
بأفكار وقيم وثقافات القرون الوسطى.
تتطور مجتمعاتنا من أعلى فتظهر قشرتها العليا
وكأنها ترسْملت وأنجزت تطورها الرأسمالي، وكأنها تنوَّرت وأنجزت تنوُّرَها
وحداثتها، ويظل عمقها في الريف وفي الأحياء الشعبية وطبقاتها الجديدة غارقة في
علاقات وثقافات مجتمعات ما قبل الرأسمالية، وقواها الاشتراكية تتصور أنها
بالشعارات الثورية وحدها يمكنها تطوير المجتمع، أو القفز على هذا الواقع، وفي كل
موجة ثورية من موجات الشعب المصري الثورية منذ ما قبل ثورة عرابي، تتصاعد أسئلة
الواقع بقوة وبحدّة، ومن بينها الرسملة، وسؤال الدين وسؤال الجيش، لكن الملاحظة
التاريخية أن القوى الثورية – والقوى الاشتراكية بصفة خاصة – تجيد عمليات القفز
على أسئلة الواقع وصراعاته الحقيقية، وتجيد عمليات طرح الأسئلة الخطأ، كما تجيد
القوى الثورية والشعبية تقديم الشهداء والتضحيات الكبرى، لكنها لا تجيد طرح أسئلة
الوقت، أسئلة الواقع الثوري، وأسئلة الصراع الفعلي، وأسئلة الخنادق، إما بالنقوص
نحو الماضي، أو بالهروب والقفز إلى الأمام .
ولذلك تظل هذه القوى أضعف من أن تقطف ثمار
الانتفاضات الشعبية، بسبب ضعفها في التعامل مع التراكمات الكمية، أو التحولات
الثورية، وأضعف من أن تؤثر في مسارها الفعلي، وعلاقات القوى الفعلية، ليس بسبب
تفتتها وحده، وصراعها الداخلي وحده، بل أساساً للعزلة الفكرية والسياسية والثقافية
والنضالية عن الواقع وأسئلته الفعلية، والعزلة عن الواقع الاجتماعي وصراعاته
الفعلية، والعزلة عن الجماهير الشعبية وحاجاتها الأساسية، وقدراتها وإمكانياتها
النضالية، وهي ما نختصره كثيراً بالقول بالعزلة الناتجة بسبب غياب عنصر الوعي
وغياب عنصر التنظيم.
مشروعان للمجتمع والدولة..(٣ – ٥)
وإلى الحلقة الخامسة من ثورات المصريين، لنركز على
زاوية جديدة.
0 تعليقات