آخر الأخبار

هل كان الشعر يُكتب كله ارتجالاً




 

 

 

بقلم/ علي جميل الموزاني

 

يتصور بعضهم أنَّ شُعراء العصور الماضيّة كالجاهليّة والإسلامية والأموية والعباسيّة كانوا يُلقون الشعر ارتجالاً من دون كتابة أو تحضير مُسبق أو إعادة وترتيب لأبيات القصيدة التي سوف تُلقى على الملوك والأُمراء, ويصورون الشعر كأنّه كلام ارتجالي كما يتكلّم به الناس في المحافل أو المجالس والأسواق.

 

 

وهذا التصوّر مرفوض, وغير منطقي, فالشعر يحتاج إلى موهبة وتمرين وممارسة ودراية في أوزانه وصوره وانتقاء مفرداته, وكان الشاعر يسهر الليالي والأيام من أجل ان يكتب قصيدة عصماء يُلقيها أمام أحد الأمراء,(ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة تمكث عنده حولا ً كريتاً(1)، وزمنا طويلاً، يردد فيها نظره، ويجيل فيها عقله، ويقلب فيها رأيه، إتّهاماً لعقله، وتتبعاً على نفسه، فيجعل عقله، زماماً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره، إشفاقاً على أدبه، وإحرازا لما خوله الله تعالى من نعمته. وكانوا يسمون تلك القصائد: الحوليات، والمقلّدات، والمنقّحات، والمحكّمات، ليصير قائلها فحلاً خنذيذاً(2)، وشاعراً مفلقاً)(3).

 

 

 

وذلك (لأن الشاعر إذا مدح اليد وأشاد بالصنيعة لم يكن له بد من التكلف والاستكراه، إذ يعلم أنه لا يُقبل منه عفو الكلام, ولأنَّ ذلك المقام لا تجدي فيه غير المبالغة التي تكون من استعراض الصفات وتخير المعاني والتغلغل والإغراق وأشباهها، فكان من ذلك القيام على الشعر ومعاودة النظر فيه وتتبع الشاعر على نفسه حتى يخرج شعره مستويًا في الجودة؛ لأن الطبع في مثل تلك المعاني يندفع ويتبلد، ويضعف ويتجلد، فإذا لم تجتذب الألفاظ ولم تجتلب المعاني جاء الشعر جديدًا مرقعًا أو لبيسًا ممزقًا، فلا يصلح أن تكون حلة الفخر التي لا تُبلى على الدهر)(4).

 

 

ويشهد لذلك (قول أبو تمام في مدح المعتصم في قصيدة طويلة جاء فيها:

 

تَغايرَ الشِّعرُ فيه إذ سهرتُ له * حتَّى ظَننتُ قَوافيهِ سَتقتَتلُ

 

 

حتى انتهى إلى آخرها، فقلنا له: لمن هذا الشعر؟ فقال: لمن أنشدكموه، قلنا: ومن تكون؟ قال: أنا أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، فقال له أبو الشيص: تزعم أن هذا الشعر لك، وتقول:

 

تغاير الشعر فيه إذ سهرت له * حتى ظننت قوافيه ستقتتل؟

 

قال: نعم! لأني سهرت في مدح ملك، ولم أسهر في مدح سوقة، فعرفناه حتى صار معنا في موضعنا)(5).

 

 

وهذا الموقف يدل على كون الشعر كان يُسهر له الليالي والأيّام من اجل كتابته وليس كما يُقال بان الشعر في العصور المتقدمة كان يُلقى ارتجالاً.

 

ولا يغرنك قولهم ارتجل قائلاً أو قال مُرتجلاً فإنَّ المقصود من ذلك سرعة الرد على الطرف المقابل في الموقف نفسه وباختيار الكلام او الشعر المناسب ولا يعني أنَّه لم يكن يحفظ هذا الشعر أو لم يقُله من قبل.

 

فالتاريخ ينقل لنا أنَّ هنالك من كان راوية للشعر ومن كان يحفظ أشعار العرب (قال الأصمعيّ: ما بلغتُ الحلُم حتى رويتُ اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب. وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده)(6). فهم كانوا يروون الشعر أي يحفظون أشعار الشعراء وأبياتهم وينشدونها للناس.

 

ومنهم من كان يضيف على قصائد غيره أبيات من الشعر ويخلطها مع قوله, ومنهم من يعرضون ما يكتبونه من أبيات تخص الأمراء على أهل الشعر والأدب لتقييمه وفحصه قبل أن ينشدوه على الأمراء والملوك (قال مَروان بن أبي حَفْصة: لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولهُ:

 

طرقْتكَ زائرةً فحيِّ خَيالَهَا * بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها

 

 

أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة فدخلتُ المسجد الجامع فتصفَحت الحَلَق فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي فجلستُ إليه فقلتُ له: إني مدحتُ المهديَّ بشعر وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل. فقال: يا بن أخي إنّ هاهنا خَلفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضر فإذا حَضر فأسمعه. فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر. فلمّا جلس جلستُ إليه ثم قلت له ما قلتُ ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره. فقال لي: أنتَ والله كأعشى بكر بل أنت أشعرُ منه حيث يقول: {رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا* غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا} وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن وينَحله الشعراء. ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً وهو: {إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع* لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ} لخلَف الأحمر وإنه نَحله إياه. وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية يَخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر. قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى فقال: {وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ * من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا})(7).

 

نعم تنقل لنا كتب التاريخ بان إمكانية الارتجال الشعري عند البعض موجودة وممكنة ولكن في ابيات قصيرة أو مواقف محددة ولا يمكن تصوّر ذلك في قصائد تتجاوز الأربعين بيتاً من الشعر, فهذا يحتاج إلى معجزة وإلهام إلهي وبذلك يقول الرافعي: (ثم ضعف شأن الارتجال إلا في بعض الماتنات، وفي الأبيات القليلة من غيرها تخرج على الطبع وتنبعث بها المادة؛ واستحال الارتجال إلى البديهة وهي الإطراق القليل التفكير غير الطويل، وما قصر عنها فهو الروية. وامتاز بالبديهة شعراء الدولة الأموية، وقليل من شعراء العباسيين، وأشهر هؤلاء في ذلك أبو نواس، فقد كان قوي البديهة والارتجال، لا ينقطع ولا يروي إلا فلتة، وقالوا إنه بهما غلب على مسلم بن الوليد. غير أن ذلك لم يكن منه إلا في الأبيات المعدودة، أما الطوال كقصائد السماطين وغيرها فلم "تكن" ارتجالاً)(8).

 

وروى الصوليّ (ان منشداً أنشد إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضّياع:

 

ربَّما تكرهُ النفوسُ من الأمــــــــ * ــرِ له فَرْجَةٌ كحلِّ العقالِ

 

قال: فنكتَ بقلمه ساعة ثم قال:

 

 

ولربّ نازلةٍ يَضيقُ بها الفتى * ذَرعاً وعندَ الله منها مخرجُ

 

كملت فلما استحكمت حلقاتُها * فُرجتْ وكانَ يظنهُّا لا تُفرجُ

 

فعجب من جودة بديهته)(9).

 

وأما في الخطب والمواعظ وقوة البيان فللعرب قصب السبق في ذلك يقول الجاحظ في بيان تمايز العرب عن الهند واليونان والفرس في الخطابة والبيان (وكلّ شيء للعرب فإنما هو بديهة وإرتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، وإلى رجز بوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة أو المناقلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب، وإلى العمود الذي إليه يقصد، فتأتيه المعاني إرسالاً، وتنثال الألفاظ انثيالاً، ثم لا يقيّده على نفسه، ولا يدرسه أحداً من ولده. وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر، وله أقهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم للكلام أوجد، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، ويحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم، والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم، من غير تكلّف ولا قصد، ولا تحفظ ولا طلب. وإن شيئاً هذا الذي في أيدينا جزء منه لبالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب وعدد التراب، وهو الله الذي يحيط بما كان، والعالم بما سيكون)(10).

 

هامش: ــــــــــــــــــــــ

1)) أي سنة كاملة, وكريت تام العدد.

2)) شاعراً مُجيداً مُنقّح.

3)) البيان والتبيين- الجاحظ:ج2, ص8.

4)) تاريخ آداب العرب- مصطفى صادق الرافعي:ج3, ص33.

5)) تاريخ بغداد- الخطيب البغدادي:ج8, ص244.

6)) العقد الفريد- ابن عبد ربه الأندلسي:ج6, ص156.

7)) العقد الفريد- ابن عبد ربه الأندلسي:ج6, ص157.

8)) تاريخ آداب العرب- مصطفى صادق الرافعي:ج3,ص34.

9)) الآمالي- السيد المرتضى:ج1, ص486.

10)) البيان والتبيين- الجاحظ:ج3, ص20.


إرسال تعليق

0 تعليقات