عز الدين البغدادي
من المعلوم أنّ هناك
اتجاهين معروفين محددين في المذهب الاثني عشري، هما: الأصولية والإخبارية،
والأصولية تختلف في منهجها عن الإخبارية في أمور منها وظيفة علم الأصول ومكانته،
واعتبار السند في الحديث، بينما لا يأخذ الأخبارييون بعلم الأصول ولا يؤكدون كثيرا
على السند عملا بما يسمى مسلك "الوثوق" لكن دون طرحه تماما كما يعتقد
البعض (ربما أتحدث عنهم بشكل منفصل في منشور لاحق بإذن الله).
لكن ظهر رأي يمزج
بينهما وهو رأي يمكن أن أقول بأنّه لم يجمع أفضل ما عند الطرفين؛ بل للأسف جمع
أسوأ ما لديهما، حيث خلط بين الأخذ بتطرّف بعلم الأصول والتطرّف في قبول الرواية.
وهذا رأي غريب وخطير،
وربّما يكون من أهم من تبنّاه الأصولي الكبير الشيخ محمد حسين النائيني (ره)، كما
نقل عنه تلميذه المحقق الخوئي حيث قال: .... وسمعت شيخنا الأستاذ الشيخ محمد حسين
النائيني -قدس سره– في مجلس بحثه يقول: إنّ المناقشة في إسناد روايات الكافي
حِرفةُ العاجز.
وهذا القول الّذي نسب
للنائيني أقل ما يقال في ردّه إنّه دعوى بلا دليل، ومخالف للوجدان ولا يقبله ذو
لب، لا سيما مع وجود كثير من الشواهد التي تدحضه.
على إنّ هذا الطرح له
أساس ربّما خفي على كثير من الناس، وذلك أنّ النائيني كان علما في الأصول وصاحب
مدرسة فيها، ومن كانت هذه حاله لا يحب أن يدخل فيما يخص تفكير العوام ورأيهم ولا
يرغب أن يحتك بهم بما يثيره ضده، والروايات التي ترد غالبها يتعلّق بالإمامة أو ما
يتعلق منها في التاريخ. وهذا كثير عند أهل العلم، فهو يبحث ويدقّق ويحقّق ويناقش
أكثر المسائل بداهة ويشكّك فيها، فإذا دنا من شيء مما يتعلق بهذه المسائل جمجم
وأحجم.
كما إن الزعامة
الدينية التي تكون لبعض العلماء تجعلهم يخافون غضب العامة وانصرافها عنهم، ولا
أحسب أني بما قلت بحتُ بسر، بل هو أمر معروف. فهذا ليس مختصّاً بالشيخ (رحمه الله)
بل هو توجّه عامّ عند كثير من أهل العلم لاسيّما ممن تأخّر عنه، ولا ننسى تلك
الفتوى التي أصدرها في شأن كثير من الطقوس التي كانت تشيع بين العوام في شهر محرّم
فأفتى بإباحتها. فالشيخ ليس إخباريّا حتى يمكن أن ينظر في دعواه وفق مبناهم، ولا
تنسجم هذه الدعوى مع منهج الأصوليين وهو إمامهم، ولا مع الواقع.
لكن لا تحسبنّ بأنّ
هذا الموقف هو من النائيني فحسب، بل يمكن أن تجد له وجودا عنده غيره كما قلت لك. بل
سبق إلى ذلك، فقـــد كان أحمد بـــــن زين الدين الاحسائي له منهج عجيب في قبول
الروايات رغم أنه كان أصوليا وليس إخباريا كما يُعتقد بسبب ما هو معروف من طريقته
من الأخذ بالروايات دون نظر إلى سند أو متن، إلا أنّه ليس كذلك، فقد كتب في الأصول
على طريقة الأصوليين، لكنّه في الحديث لم يكن على طريقتهم ، بل كان يقبل من
الأخبار ما لا يقبلها أكثر الإخباريين حشوية. ومن الطريف أن نذكر ما رواه
التنكباني في كتابه الهام "قصص العلماء" من أنّ المحقّق النجفي أراد أن
يختبر الإحسائي، فكتب حديثا من عند نفسه على ورقة، وجعل الورقة في أماكن الدخان
والتراب حتى بدت عتيقة، ثم أخذها وقال للشيخ أحمد: وجدت هذا، فانظر هل هو حديث؟
فنظر فيه، فقال: هذا حديث، وهو كلام الإمام، ثم ذكر له توجيهات كثيرة، فأخذ الشيخ
الورقة ومزّقها.
وهذا المنهج شاع جدا
في هذا الزمن، حيث تجد من يجمع بين طريقتين: أما في الأصول والفقه فهو فقيه أصولي
يجادل فيما دقّ وكبر وفيما هو بيّن وغامض، فإذا بلغ مسائل تتعلّق بالعقائد أو بأهل
البيت رأيته عاميّا صرفا، بل هو دون الشيخيّة في المنهج، يستدل بكتب الغلاة من
قبيل "مدينة المعاجز" ونحوها، وهذا ما يمثّل انحرافا خطيراً عن نهج
العلم وفهم أهل البيت وما كان عليه السّلف، وهذا بالضبط ما كان عليه الرّجل لولا
أنّ زاد على ذلك في جعل حجيّة لأحلامه.
وممن سار على هذا
المنهج في هذا العصر الشيخ جواد التبريزي (رحمه الله) وبعض المعاصرين في النجف،
ولعل أبرزهم الشيخ البحراني محمد سند الذي أسفّ جدا في هذا الاتجاه.
والحقيقة أنك يمكن أن
تجد ذلك حتى عند المحقق الخوئي (ره) مع ما عرف من تحقيق وتدقيق ورفضٍ للمسلمات
التي تدّعى هنا وهناك في هذا العلم كما هو واضح وهو يناقش مسائل من قبيل مراسيل
ابن أبي عمير أو وثاقة مشايخ الإجازة وغيرها، إلا أنّك تتفاجأ بأمور لا يمكن أن
تنسجم مع منهج كتوثيق رواة "تفسير القمي"، بل وأعجب من ذلك وأعجب توثيق
رواة "كامل الزيارات" رغم أنّك إذا نظرت فيه سندا ومتنا، قطعت بخطأ هذه
الدعوى، فضلا عما تجده عنده في توثيق المفضل بن عمر رغم ضعفه الفاضح البين، وميله
لتوثيق محمد بن سنان وغيبرهم، حتى كأنه يأخذ بأسلوب المحدث النوري في التعامل مع
ما قيل فيهم وعنهم.
إنّ هذا يرجع إلى أمر
نفسيّ، ربّما يؤثر بالمرء دون أن يشعر به، فإنّ الرجل لما أسقط كثيرا من المسلمات
في هذا العلم أراد أن يبقي شيئا يُجامل به عقل الجمهور، فكان توثيق رواة هذين
الكتابين، ولولا ذلك لما أمكن أبدا أن يحكم بوثاقة رواتهما، بل لا ينسجم هذا مع
نظره أبدا.
0 تعليقات