رياض محمد
ينقسم العراقيون اليوم كما انقسموا بالأمس حول تعريف حدث 14 تموز إن كان ثورة تستحق الاحتفال بها أم انقلابا دمويا يستحق الشجب والتنديد.
هذا الانقسام تكرر قبل أسبوعين في ذكرى ثورة العشرين (هل كانت ثورة وطنية أم تمرد عشائري رجعي؟).
كما يتكرر الانقسام كل عام أيضا في 9 نيسان حيث يعرف البعض الحدث بالتحرير ويسميه آخرون بالاحتلال.
كما يتكرر أيضا كل عام انقسام العراقيين حول موعد بدء الحرب العراقية الإيرانية (هل كان 4 أيلول أم 22 أيلول وهل بدأتها إيران أم العراق؟).
مشكلة العراقيين مع الأحداث التاريخية (خصوصا عندما لم يعاصر الكثيرون الحدث ولا يكلفوا أنفسهم عناء البحث العلمي فيه أو الاستماع لمن عاصره) هي ان الكثير منهم ينظرون لأحداث التاريخ وفق قناعات إيديولوجية أو عاطفية أو مذهبية كما أن الكثير منهم يستخدم الإسقاط الزمني من الحاضر الى الماضي وهو أمر غير علمي ولا يؤدي أبدا الى فهم الحدث التاريخي.
بالعودة الى 14 تموز 1958. الحدث بالتأكيد انقلاب عسكري نفذه مجموعة من ضباط الجيش.
وهنا يجدر بنا التفريق بين نوعين من الانقلابات العسكرية أو ربما ثلاثة أنواع:
الأول انقلاب من اجل السلطة فقط دون أي اثر يذكر على مجمل الحياة السياسية ولاجتماعية والاقتصادية للبلد. وهذا شأن اغلب انقلابات أمريكا اللاتينية وإفريقيا.
وانقلاب يؤدي إلى تغيير كبير ايجابي في مناحي الحياة في البلاد (هذا لايعني انه بلا سلبيات) وهذا حال بعض الانقلابات مثل 23 يوليو 1952 في مصر مثلا.
وانقلاب يؤدي إلى تغيير كبير لكنه سلبي في حياة المجتمع مثل انقلاب بينوشيه على حكومة سيلفادور الليندي في تشيلي عام 1973.
ما ينطبق أكثر على 14 تموز هو النوع الثاني.
هنا قد يعترض البعض قائلا: وماذا عن مجزرة العائلة المالكة؟ أثبتت كل الأبحاث في هذا الشأن أن مقتل العائلة المالكة لم يكن أمر مدبرا أو متفقا عليه بين قادة الانقلاب. وان قتلهم كان تصرفا فرديا انفعاليا من عبد الستار العبوسي الذي انتحر فيما بعد.
أما ما حدث من عمليات همجية وبربرية بالاعتداء على جثث عبد الإله ونوري السعيد فلم يكن أيضا من فعل أي من المنفذين للانقلاب.
وهناك أيضا من يعيب على 14 تموز تجربة محكمة المهداوي. وينقسم العراقيون بشأنها أيضا فالبعض يراها محكمة (ديمقراطية) حيث سمحت ببث جلساتها على الهواء وسمحت للمتهمين بالإدلاء بما يريدون وهذا ما غاب عن العراق بعد 8 شباط 1963.
ورغم ان هذا الرأي غير بعيد عن الحقيقة لكنه مظلل. فالحقيقة ان محكمة المهداوي مثلت تراجعا في قيم القضاء في العراق. فقد كان رئيسها غير مؤهل لمهنة القضاء وكان معروفا بشتمه المتهمين على الهواء وهو ما يتناقض مع حيادية وهيبة القضاء.
من جهة أخرى يميل بعض العراقيين إلى تناسي ان عبد الكريم قاسم حقق الكثير من الانجازات الاجتماعية لطبقة واسعة من الناس ونهض بأحوال الكثير من الفقراء من العراقيين مما أهلهم فيما بعد وأولادهم وأحفادهم من الانخراط في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية العراقية بعد ان كانوا مجرد هامش مهمل.
هذا لايعني أبدا إغفال الجوانب السلبية لقاسم وهو في النهاية ديكتاتور – وان كان ربما ارحم ديكتاتور عرفه العراق – وساهمت فرديته في التعجيل بسقوطه.
أمر مهم يجب ذكره وهو مقاربة (وهل الذين جاؤا بعده أفضل منه؟) التي يصر عليها الكثير من العراقيين في تناولهم للحدث التاريخي.
الحدث التاريخي يدرس بظروفه الموضوعية في وقت الحدث والعوامل الشخصية لصانع الحدث في وقت الحدث. لا يدرس احد التاريخ فيقول أن الدستور الأمريكي مثلا الذي كتب قبل 230 سنة كان فاشلا لأننا اليوم نرى رئيسا مهرجا مثل ترامب.
الدستور الأمريكي يدرس في حيثياته الموضوعية في وقت صدوره. وعندما يدرس بهذه الطريقة تجده دستورا متقدما عن كل ما سبقه أو عاصره.
أمر مهم آخر يجب ذكره هو موضوع الحياة البرلمانية. وفي هذا الأمر نرى ازدواجية تفكير الكثير من العراقيين. فبينما يعيب البعض على 14 تموز إنهائها للتجربة البرلمانية العراقية ( وهي تجربة ذات عيوب كثيرة ) نرى بعضهم ينادون ويتمنون مجيء (سيسي) عراقي يقبر التجربة البرلمانية العراقية الحالية التي أنتجت سلطة الفساد والقتل التي تحكم العراق اليوم.
لاحظ هنا ان الكثير من (رواد) التجربة البرلمانية العراقية اليوم ليسوا سوى أبناء (رواد) التجربة البرلمانية التي أنهتها 14 تموز. والأمثلة كثيرة مثل إياد علاوي وعادل عبد المهدي واحمد الجلبي وعلي عبد الامير علاوي وغيرهم.
هل يسأل البعض نفسه: لماذا كان إنهاء النظام البرلماني في عام 1958 عملا شريرا وإنهائه الآن على يد (السيسي العراقي المتخيل) عملا صالحا؟
الجواب هو أن أحداث التاريخ لن تفهم أبدا وفق منطق الخير والشر أو عبر اسقطا الحاضر على الماضي.
0 تعليقات