عز الدين البغدادى
نموذج من الخلافة العثمانية
العثمانيون كغيرهم من الملوك كانوا على استعداد دوما لارتكاب أي جريمة يرون
هناك حاجة لارتكابها حتى لو لم تصل حد الضرورة، فالاحتمال بل وحتى اقل من الاحتمال
كاف للقيام بها. لا سيما وأن هناك دائما فقهاء يقدمون تبريرات جاهزة لذلك. فمثلا
حدثت كثير من جرائم القتل التي قام بها السلاطين لأبنائهم وإخوانهم وأولادهم حتى
لا يمثلوا اي خطر عليهم في المستقبل ولو احتمالا. فمثلا: قتل محمد الفاتح شقيقه
الرضيع الأمير "أحمد"، من زوجة أبيه خديجة خاتون"، عندما كان عمره 6
أشهر، وذلك بعد أن نصحه بذلك بعض الوزراء والباشوات خوفاً من مما زعم أنه محاولات
من البيزنطيّين بخطف الأمير الرضيع لتنصيبه سلطاناً بعد أن يتخلّصوا من "الفاتح".
وبعد ذلك، أقدم على سنّ قانون قتل الإخوة والأبناء تحت اسم "البغي"،
حفاظاً على دولة الإسلام وحماية لها من الأعداء.
فهذا القانون يعطي الحقّ للحاكم بأن يقتل شقيقه أو ابنه أو حفيده للحفاظ
على الحكم من أي تهديد، وحفاظاً على تماسك الدولة، وكان حكم الإعدام يصدر بفتوى من
شيخ الإسلام بأمرٍ من السلطان الجديد. وكانت البداية مع السلطان مراد الأول، جدّ
السلطان محمد الفاتح، وذلك عندما وشى له من حوله بأنّ شقيقه محمود يريد الانقلاب
عليه وأخذ كرسي العرش منه، فطلب فتوى من شيخ الإسلام بقتله، وهو ما تمّ بالفعل،
عندما أدخل عليه الجلّادين ليلاً خلال نومه، و قاموا بخنقه بخيط من الحرير الرفيع،
ثمّ أخرج ابنه “ساوجي” على رأس حملةٍ لمواجهة البيزنطيّين. و قامت بعض الجواري
بالترويج لأكاذيب بأنّ ابنه الأمير قرّر التحالف مع الأعداء للفوز بالكرسي، الأمر
الذي جعل “مراد” يقوم بنصب فخ لإبنه ليتمّ القبض عليه، مصدراً فتوى بإعدامه. وقد
تفشّى استخدام هذا القانون سعياً للحصول على الكرسي، لدرجة أنّ هناك مواقف واجهتها
الدولة العثمانيّة تتعلّق بعدم وجود أمراء يتسلّمون السلطة، و هدّدت بانقراض
العائلة العثمانيّة أكثر من مرة.
كما قام السلطان سليمان القانوني بقتل ولده وولي عهده الأمير مصطفى خنقا،
ثم قتل ابن مصطفى أي حفيد السلطان خشية أن يقوم محبّو الأمير "مصطفى" بتنصيب
حفيده الرضيع سلطانا، وذلك من خلال فتوى أصدرها شيخ الإسلام بإخماد الفتنة.
كما قام سليم الثاني قبل أن يلي السلطنة بقتل شقيقه مع أبنائه الصغار
بالخنق عبر حرّاسه، وذلك خلال العودة إلى إسطنبول، خاصة بعد أن علم أنّ والده على
مشارف الموت.
ومن أعجب الأمور وأكثرها إجراما وإيغالا في الدماء ما فعله السلطان محمد
الثالث بن مراد الثالث عندما تولى السلطة، فقبل ان يدفن والده السطان أمر بحفر
عشرين قبرا، ثم قام بقتل أخوته وهم تسعة عشرا، وقام بدفنهم مع أبيه.
قد يقال بأن "الملك عقيم" وأن الملوك يقتلون بغير وجه حق، فليس
غريبا ان تصل القسوة الى هذا الحد، لكن المشكلة بل الكارثة أن كل ذلك كان يحصل
بفتاوى شرعية!! ويمكن أن نضرب مثلا ربما لفقيه دافع عن جرائم السلاطين العثمانيين،
وهو الفقيه الحنبلي مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي ( ت 1033 هـ) وهو يتحدث عن قتل
السلاطين العثمانيين أبناءهم واخوتهم، ويعدّه من فضائلهم، فيقول في كتابه " قلائد
العقيان في فضائل آل عثمان": ومن فضائل سلاطين بني عثمان قتْلُ أولادهم
الذكور خوفاً من إثارة الفتن وفساد الملك واختلاف الكلمة وشق العصا بين المسلمين،
وهذا الأمر لم يسبقهم إليه أحد فيما أعلم؛ وهو إن كان أمرا ينفر منه الطبع السليم
بحسب الظاهر، لكنه في نفس الأمر خير كبيرٌ ونفع كثير، ومع ذلك لم يظهر لي ج واز
ذلك على سبيل الإطلاق؛ لأنهم أطفال لا ذنب لهم أصلا، وكون يحصل منهم بغي وإثارة
فتن فيما بعد فهو أمر غير محقّق، وترك القتل في مثل ذلك أليق.
ثم قال: ولعل من أفتى من العلماء بالجواز واستحل قتلهم وأجازه مُحتجّاً
بجواز قتل الثلث لإصلاح الثلثين نزّل الظن منزلة اليقين على ما فيه من البعد بلا
ميْن، ويحتمل أن يُقال يجوز قتلهم سياسة لا شريعة وباب السياسة أوسع من باب الشرع،
فقد قال العلماء المحققون للسلطان سلوك سبيل السياسة ولا تتوقف السياسة على كل ما
نطق به الشرع قال العلامة ابن عقيل وهو الحزم عندنا ... إذا علمت هذا فينبغي القول
بجواز القتل إذا صار الغلام مراهقا مع القرائن الدالة على الفتنة لأنه حينئذ يصير
مظنة الفساد والفتن، وأمّا قبل ذلك فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وعند الخوف فربما
يجوز القتل من هذه الحيثية عملاً بالقرائن وشواهد الأحوال؛ قبل أن يتسع الخرق
ويعظم الخطب ويشتد الندم والكرب؛ هذا السلطان سليمان في أول توليته شرع في قتل
أولاده خوف الفتن والخروج عليه فأرسل أمراً بإحضار ولده مصطفى بعد توجيهه إلى
تبريز لأخذ العجم فأمر بخنقه… انتهى
وأعتقد أنّ الفقيه للأسف بسبب النزعة التبريرية التي غلبت على الفقه الإسلامي،
وأيضا بسبب سهوله انخداعه لأسباب كثيرة، كان يقع دائما تحت سلطة السلطان، ولا يختص
الأمر فقط بالسلطان العثماني السني، بل هو موجود ايضا عند السلطان الصفوي الشيعي
وهو ما ستقرأه عنه بإذنه تعالى في الحلقة اللاحقة.
لقد بيّن النبيُّ (ص) أنّ من أهمَّ الآفاتِ التي يمكنُ أن يقع فيها أهل
العلم هي مجاراة السلطان، فقال (ص): الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا،
قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا ؟ قال: إتباع السلطان، فإن فعلوا ذلك
فاحذروهم على أنفسكم .
0 تعليقات