آخر الأخبار

عقدة موسى (واحلل عقدة من لساني). بحث مقارن.(1)





 

 

 

مصطفى الهادي.

 

 

في تفسير هذه الآية من سورة طه ، لم أجد في التفاسير تفسيرا علميا منطقيا بل وجدت أن اغلب من فسرها اعتمد على راوية لا ادري مدى صحتها ولكني أجزم أنها من الإسرائيليات التي تسربت إلى الرواية الإسلامية. وقد وجدت إجماع السنة والشيعة على تداولها.حتى الطباطبائي في الميزان أشار إلى رواية موسى (التمرة والجمرة) التي كانت السبب وراء لثغة موسى في الكلام. (2) وحسب علمي لم أجد أصل لهذه الرواية في الكتاب المقدس ولا في ملحقاته ولا في سيرة موسى في التلمود.

 

إذن كان موسى يُعاني حسب ظاهر الآيات ونصوص التوراة من لثغة في الكلام أو إعاقة ومن هنا انطلق المفسرون في تبرير سؤال موسى من ربه أن (يحلل عقدة لسانه) فأثبتوا له هذه العاهة التي تتنافى والكمال الذي يُشترط في شخص النبي . ومع ذلك فإن الاحتكام إلى نصوص الكتاب المقدس حاجة ضرورية لتسليط الضوء على ذلك ولكي نرى من خلال تلكم النصوص رأي المفسر المسيحي وماذا يقول عن عقدة موسى التي ذكرها القرآن.

 

حول هذه القصة، ورد في التوراة أشياء عجيبة غريبة فقد تبين أن دعوة موسى وآياته التسع كلها تنصب في إجبار فرعون على إطلاق سراح بني إسرائيل ، فحسب التوراة فإن انقلاب عصى موسى ثعبانا مبينا ونور يده، والجراد والقمل والضفادع والدم كلها تصب في هذا الاتجاه وليس في اتجاه دعوة موسى ورسالة ربه. فقد طلب الله من موسى أن يذهب إلى فرعون لا لكي ينشر دعوته أو يردعه عن كفرهِ ويُبلّغه كلام الله ، بل ليطلق سراح بني إسرائيل كما نقرأ : (ثم كلم الرب موسى قائلا : ادخل قل لفرعون أن يطلق بني إسرائيل من أرضه). (3)إذن هذا هو السبب الذي أرسل الله فيه موسى لفرعون ولم نجد سببا آخر.

 

 

فماذا كان جواب موسى لربه ؟ (فتكلم موسى أمام الرب قائلا : هوذا بنو إسرائيل لم يسمعوا لي ، فكيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين؟).(4) وكما ذكر القرآن من أن موسى طلب أن يكون هارون أخوه وزيرا له يتكلم معه أمام فرعون : (وأخي هارونُ هو أفصحُ مني لسانا فأرسله معي ردءا يُصدقني إني أخافُ أن يُكذبون).(5) وهذا نجده أيضا في التوراة التي تقول : ( أنا الرب. كلِم فرعون ملك مصر بكل ما أنا أكلمك به. فقال موسى، أنا ثقيل الفم واللسان.أغلف الشفتين فكيف يسمع لي فرعون؟ فقال الرب : أنت تتكلم بكل ما آمرك، وهارون أخوك يُكلم فرعون).(6)

 

الآن نأتي على تناول مفردات هذه الآيات المتعلقة بعقدة موسى اللسانية. ففي القرآن طلب موسى أن يحل الله (عقدة لسانه، وأن أخاهُ هارون أفصح لسانا منه). وفي التوراة أيضا بيّن موسى أن لديه عقدة (ثقيل الفم واللسان أو أغلف الشفتين) وطلب أيضا أن يعضده الله بهارون أخاه وزيرا أو متكلما. فماذا نفهم من ذلك ؟

 

هناك عدة أراء حول عقد لسان موسى فحسب التفاسير والروايات الإسلامية هي بسبب أنه تناول الجمرة بدلا من التمرة كما نفهم من الرواية المذكورة في الهامش والتي لم نجد لها أصلا حتى في الكتاب المقدس أو تفاسيره.فإذا كانت بهذه الأهمية لماذا عزب عنها الكتاب المقدس وملحقاته ولم يذكروها؟

 

وبعضهم قال : أن موسى كان يُعاني من عسر لغوي بسبب طول إقامته في مديان عند شعيب فاختلط لسانه بلسانهم ولم يكن فصيحا في الكلام مثل أخيه هارون الذي بقى في مصر. وهذا رأي لم يرد في الروايات وعلى ما يبدو أنه رأي شخصي.

 

وبعضهم قال أنه كان (غليظ الشفتين) ، انطلاقا من قول التوراة بذلك ويعزون غلظ شفتي موسى إلى أنهما متورمتان بسبب لسعة الجمرة. فكل التفاسير تُقدّم قصة موسى مع التمرة والجمرة وتعتبرها الأساس الذي تنطلق منه في تفسير عقدة لسان موسى.

 

أما أهل الشأن فيقولون في كتابهم المقدس بأن موسى كان يُعاني من عوق أو عيب في شفتيه ولسانه انطلاقا من قول موسى : (أنا ثقيل الفم واللسان.أغلف الشفتين فكيف يسمع لي فرعون). ولكن بالرجوع إلى تفسير كلمة (أغلف) ماذا تعني في نفس الكتاب المقدس وجدنا أنها تعني أشياء كثيرة لا علاقة لها بالإعاقة الجسدية وقد أيد القرآن هذا الاتجاه كما سوف نرى.

 

أما في القرآن، فقد قال تعالى حاكيا عن بني إسرائيل: (وقالوا قلوبنا غلف).(7) والغلف :جمع أغلف. وهو الذي يحيط به غلاف من العناد يمنع من وصول شيء إليه من الخارج. يريدون بقولهم ذلك : أن قلوبنا غُلف مقفلة دون قولك؛ ومغلقة أن يصل إليها شيء من دعوتك.

 

 

وأما في الكتاب المقدس فقد تحدث كثيرا عن (الاغلف والغلف) وأيد ما جاء في القرآن، ومن ذلك ما ورد في لاويين عن بني إسرائيل : (أن تخضع حينئذ قلوبهم الغلف).(8) أو كما يصفهم إرميا : ( كل بيت إسرائيل غلف القلوب).(9) وهذا نفسه نراه يتكرر في القرآن على لسانهم عندما قالوا : (قلوبنا غلف). ولم يصفهم الله تعالى فقط بأن قلوبهم غلف بل أضاف لهم الكتاب المقدس ميزة أخرى أنهم (غلف الأذان) كما نقرأ في إرميا : (ها إن أذنهم غلفاء فلا يقدرون أن يصغوا، صارت لهم كلمة الرب عارا فلا يسرون بها).(10)

 

من ذلك نفهم أن (عقدة لسان موسى) ليست عيبا خلقيا يمنعه من الكلام فلا شفتيه غليظتان ولا عقدة مرضية أو علة لسانية وعلى قول المثل : ( أن سيبويه ، كان أغلف اللسان عييا عن البيان).(11) مع ما اشتهر عنه من بلاغة وفصاحة.

 

هناك عدة آراء منها: أن موسى كان يشعر بالرهبة الشديدة كلما نطق باسم الذات الإلهية فتثقل شفتاه وينعقد لسانه وترتعد فرائصه . وبما أنه كان يُريد أن يُكلم فرعون عن أمر الله تعالى فكان يخشى أن ينعقد لسانه إثناء الكلام أمام فرعون وملأه ولذلك طلب من الله أن يعضده بأخيه لأنه أفصح لسانا أي سلس النطق بأسماء الله تعالى فهو أكبر منه سنّا وأثبت جنانا . وهذه العقدة حصلت عند موسى عندما كلمه الله في الطريق من خلف العليقة (الشجرة) عندما رأى من عظمة ربه ما رأى . وكذلك عندما خر موسى صعقا . وهروبه عندما رأى آيات ربه الكبرى (فلما رأى عصاه تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يُعقب)

 

فقد تركت هذه المواقف في نفسه رهبة من خشية الله لما رأى من عظمته في نتقه للجبل وموت كل من جاء معه من بني إسرائيل عندما تجلى للجبل الذي جعله دكا.هذه العقدة في اللسان ليست لثغة . وكما نعلم أن الإنسان عندما يُصاب بأمر ما سوف يُعاني من شيء يُقال له: (عقدة نفسية) وهي في واقعها ليست عقدة عضوية آو جسدية بل هكذا يُقال لها اصطلاحا وهناك الكثير مما يُطلق عليه عقد نفسية وهي المبعث على تصرفات لا واعية تصدر عن الشخص، أو هي اتجاه انفعالي لا شعوري لا يبرح يؤثر في التفكير والسلوك فيحبس الكلام ولربما يشل الإرادة.وقد كان موسى من النوع الانفعالي جد كما اجمع على ذلك الكتاب المقدس والقرآن. حيث أنه كسر ألواح التوراة واخذ برأس أخيه ولحيته يجره منهما ، وقتل رئيس العمّال بضربة واحدة.وعلى وصف التوراة : كان موسى يُعاند حتى الله.

 

وفي رأي آخر : الخشية من أن ما ينطق به موسى قد يتسبب بردود أفعال غير حميدة لدى الناس ولذلك نرى نبينا صلوات الله عليه يوم غدير خم تردد بأن ينطق بولاية علي ثلاث أيام حسب الرواية حتى طمأنه الله بأنه سوف (يعصمه من الناس). فقد احتبست الكلمات في فمه الشريف لما يراه من تقلب القوم ونفاقهم فانزل الله تعالى قوله : (يا أيها النبي بلغ ما انزل إليك من ربك، وإن لم تفعل ــ خشية من ردود أفعال الناس ــ فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس).(12) وقوله تعالى : والله يعصمك من الناس ، لا تُشير إلى خوف من النبي على نفسه وإنما خوف من التكذيب وعدم نفاذ هذا الأمر, وقد كانوا يجترئون على النبي مثلما استطاع عمر بن الخطاب أن يمنعه من كتابة ذلك الكتاب العاصم للأمة من الانحراف ووصفهُ بأنه (يهجر).

 

وعقدة لسان موسى ليست عيبا بل العيب في السامعين فالمراد عقد اللسان المانعة من إدراك وفهم السامع، أي: أريد أن أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيداً ولذلك طلب من الله حل العقدة من لسانه خاصّة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال: (يفقهوا قولي) فهذه الجملة في الحقيقة تفسير للآية التي قبلها، ومنها يتّضح أنّ المراد من حلّ عقدة اللسان لم يكن هو التلكؤ وبعض العسر في النطق بسبب احتراقه في مرحلة الطفولة ـ كما نقل ذلك بعض المفسّرين عن ابن عباس ـ بل المراد عقد اللسان المانعة من إِدراك وفهم السامع، أي أريد أن أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أي سامع مرادي من الكلام جيداً.

 

وهذا ما بيّنهُ القرآن مبينا سبب عقدة موسى: (ويضيقُ صدري ولا ينطلق لساني).(13) فبسبب ضيق صدره من فرعون وقومه لا ينطلق لسانه. وهكذا نبينا صلوات الله عليه خاطبه الله تعالى بقوله : (وتخشى الناس).(14) في عدم إبداء ما في نفسك ، وكان يخشى مقالة الناس في قضية زوجة زيد.و الخشية هنا ليست بمعنى الخوف وإنما الحذر من كلام الناس، أو الحياء منهم فيحتبس الكلام في صدره.

 

📛 المصادر :

 

1- سورة طه آية : 27.

 

2- والرواية من طريق الشيعة هي عن الإمام الباقر عليه السلام أنهُ قال : (وكان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل ويُربي موسى ويُكرمهُ ولا يعلم أن هلاكه على يده، كان موسى يوما عند فرعون فعطس موسى فقال الحمد لله رب العالمين، فأنكر فرعون عليه ولطمه. فأمر فرعون بقتله فقالت امرأتهُ هذا غلام حدث لا يدري ما يقول. ضع بين يديه تمرا وجمرا فإن ميز بينهما فهو الذي تقول. فمد يده إلى التمر فجاء جبرئيل فصرفها إلى الجمر فاحترق لسانه). هكذا تُبرر الرواية سبب طلب موسى من ربه أن يحلل عقدة من لسانه. الرواية في مصادر كثيرة منها : تفسير القمي ج2، ص 136/وبحار الأنوار، ج13 ص : 26/ والبرهان / وتفسير نور الثقلين.

 

3، 4 ـــ سفر الخروج 6 : 11. وإن كان في القرآن شيءٌ من ذلك كقول موسى لفرعون في سورة الشعراء آية : 22 : (وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل). تمن علي انك لم تستعبدني ولكنك اتخذت بني إسرائيل عبيدا لك .

5- سورة القصص آية : 35.

6- سفر الخروج 4 : 10. و : سفر الخروج 6 : 30.

 

7- سورة البقرة آية : 88. عن حذيفة قال: (القلوب أربعة إلى أن قال : وقلب أغلف معصوب عليه, فذلك قلب الكافر). انظر تفسير الآية في الطبري.

8- سفر اللاويين 26: 41.

9- سفر إرمياء 9 : 26.

10- سفر إرميا 6: 10.

 

11- موسوعة علوم اللغة العربية ، الدكتور : أميل بديع يعقوب. الجزء الثامن ص : 269. وهو قول محمد أبو سليمان موسى الحامض عن سيبويه بأن لسانه كان يتلجلج بالكلمات نظرا لتزاحمها ،فقال : (فصاحبكم الأكبر سيبويه ، كان أغلف اللسان عييا عن البيان).

 

12- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٦ - الصفحة ٥٣ عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (لما نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع بإعلان أمر علي بن أبي طالب عليه السلام . يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . إلى آخر الآية. قال: فمكث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثا حتى أتى الجحفة فلم يأخذ بيده فرقا من الناس).وفي (بحار الأنوار 37 / 250) عن الطبرسي (رحمه الله) قال: روى العياشي في تفسيره عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قال: (أمر الله تعالى أن ينصب علياً للناس فيخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقولوا: حابى ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه.

 

13- تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٦ - الصفحة ٢٨٠. في حديث على لسان موسى قال : (انك كنت بصيرا بحالي أنا منذ نشأنا نحب تسبيحك، وقد حملتني الليلة ثقل الرسالة وفى لساني من العقدة ما أنت أعلم به وإني أخاف أن يكذبوني أن دعوتهم إليك وبلغتهم رسالتك فيضيق صدري ولا ينطلق لساني فاشرح لي صدري، ويسر لي أمري، وهذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله: ما كأن على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل).

14- سورة الأحزاب آية : 37.

 

 

 


إرسال تعليق

0 تعليقات