نصر القفاص
يفرض إبداع "صلاح عبد الصبور" كشاعر نفسه, عندما أتذكره قائلا:
"أسعى وراء الشمس.. والشمس فى ظهرى"!!
سر ذلك هو دهشتى حين رجعت إلى علم
واجتهاد "محمد عبده" الذى تصدى لمسألة "إصلاح القضاء" بدراسة
وافية, أنفق وقتا وجهدا كبيرا لكى يشخص المرض ويحدد العلاج.. فهذا "العالم
العلامة" كما وصفته جريدة "الأهرام" قبل نحو قرن ونصف, يوم أن
قدمته كاتبا لمقال.. عمل كقاض شرعى بعد عودته من منفاه, لأن "الخديوى توفيق"
رفض أن يقوم بالتدريس فى الأزهر لخطورته على أجيال قادمة من وجهة نظره!!
بدأ "محمد عبده" عمله كقاض شرعى فى محكمة "بنها" ثم
انتقل إلى محكمة "الزقازيق" قبل أن يصبح قاضيا فى "محكمة مصر"
بالعاصمة.. وبعدها أصبح مستشارا بمحكمة الاستئناف, ثم تولى مسئولية التفتيش على
المحاكم الشرعية.. ولأنه كان مختلفا عن غيره من السادة القضاة, رصد خللا فى منهج
العمل وأساليبه.. لم يكتف بالرصد والشكوى.. لم يذهب إلى ممارسة السياسة برفع
الشعارات, وادعاء البطولة بحثا عن "إصلاح القضاء" بل راح يعمل ساعيا
للإصلاح.. قام بجولة على محاكم مصر فى الوجه البحرى, ثم الوجه القبلى رافقه فيها "أحمد
إدريس" أحد قضاة محكمة مصر.. وانتهى إلى كتابة تقرير.. هو دراسة وافية لواقع
الحال, مع رؤيته للإصلاح, وحدد المدى الزمنى لتحقيق ذلك بأربع سنوات.
أودع "محمد عبده" دراسته فى وزارة "الحقانية" – العدل –
قبل نهاية شهر نوفمبر من عام 1899.. أى قبل أن يطل علينا القرن العشرين.. وما يثير
الحزن والألم والأسى, أن القرن العشرين مضى بسنواته الطوال.. وأطل علينا القرن
الواحد والعشرين.. جرت خلال هذا الزمن الطويل مياها فى النهر, وبقيت دراسة "محمد
عبده" صامدة.. صامتة.. فيها أصل داء القضاء ورؤيته للعلاج.. ولعلنا حين نمر
عليها دون عرض لتفاصيلها, سنجد أن ما قاله بوضوح يصعب قوله فى زمننا هذا.. فهو
كقاض لم ينكر حقيقة ضعف مستوى بعض القضاة.. وهو كمسئول فى الدولة لم يبرر أخطاء
ترقى إلى حد الجريمة للحكومة.. وهو كأستاذ رفض أن يخفى الشمس "بغربال" كما
حدث من مئات المسئولين.. ربما الآلاف.. لأكثر من قرن من الزمان.. فوصلنا إلى طرح
مسألة "إصلاح القضاء" فى مزاد السياسة الرخيص!!
أطل علينا نفر ادعوا البطولة
ورفعوا فوق رؤسهم لافتة "تيار الاستقلال" ثم اكتشفنا أنهم "أذرع
جماعة الإخوان" وحتى بعد أن تجاوزنا هذه المسألة.. بقيت دراسة "محمد
عبده" تبحث عن المؤمنين بحق بأمر "إصلاح القضاء" فيها أساس الإصلاح..
وإذا كان القضاء قد شهد ظهور "نادى القضاة" وقبله "نقابة المحامين"
فلم يحدث أن التفت أيهما إلى دراسة "محمد عبده" ورؤيته.. وكذلك الحكومات
المتعاقبة فى زمن الاحتلال, وبعد إلغاء الانتداب البريطانى.. وعشنا "زمن
الملكية" ونعيش "زمن الجمهورية" واستمر كلامنا عن "إصلاح
القضاء" لا يتجاوز النقطة التى بدأ منها "محمد عبده" ووصفها.. مع
فارق بسيط, هو أنه اقترح العلاج الناجع.
دراسة "محمد عبده" عن "إصلاح القضاء" بدأها بالربط
بينه وبين "الإصلاح الدينى" وقال أن إصلاح القضاء مرتبط بإصلاح الخطاب
الدينى.. ثم أكد على أن بداية "إصلاح القضاء" تفرض استقلاله عن السلطة
التنفيذية.. ثم أوضح علاقة "إصلاح القضاء" بمكان المحاكم وتجهيزها, وضرورة
أن تكون لها هيبتها من شكلها قبل مضمونها.. وصف شكل الكتبة ومستواهم.. تحدث عن
القائمين بالأعمال الكتابية وعيوبهم, وكيفية تطويرهم.. تناول تفاصيل التوكيلات
والمرافعات وسرعة الفصل فى القضايا.. ذكر ما يجب توافره من أدلة وشهادات والأحكام
الغيابية وتنفيذ الأحكام.. وأوضح أهمية المحاكم فى بناء المجتمع وتحقيق الاستقرار
فيه, ودورها فى تعميق روابط الأسرة.. شرح أن غياب العدالة يؤدى إلى تفكيك
المجتمعات.
بدأ دراسته بوصف المحاكم القائمة بأنها رديئة من حيث المساحة وأثاثها قديم
متهالك.. قال أنها عديمة النظافة والطرق التى تؤدى إليها لا تليق بمكان المحكمة
ومكانة العدالة.. وذكر بالنص: "حق لعمال هذه المحاكم أن يسقطوا من نظر أنفسهم,
وأن يعتقدوا فى هوانهم وهذا يسقط مقام العدالة من نظر المتقاضين.. وذلك يقلل من
الاحترام لما يصدر عن هذه المحاكم"!! ثم وصف العاملين فقال: "كتبة
المحكمة معظمهم جهلة وعديمى المهارة, وهذا طبيعى لضآلة مرتباتهم وعدم وجود قاعدة
لترقياتهم ولا رغبة فى تطويرهم" وقدم العلاج عندما طالب بوضع قواعد لا تحتمل
لبسا للتعيين.. أولها إجادة اللغة العربية علما وعملا.. أن يعرف الموظف قدرا من
العلوم الشرعية والحساب.. وأن يتم وضع كادر للمرتبات قابل للزيادة وقواعد واضحة
ومعلومة ومعلنة للترقى.. وطالب بضرورة وضع نظام يوقف الفوضى والاختلاط بين كتاب
المحاكم والمتقاضين!!
تناول "محمد عبده" القضاة فى دراسته فقال أن بعضهم يعانى ضحالة
فى معلوماته وعلمه, وكثيرين منهم لا تسر معارفهم ولا يرضى العدل سيرهم فى أعمالهم..
والحاذق منهم يحول القضايا إلى محاضر صلح تجنبا للفصل وإصدار الأحكام, وذلك يؤدى
إلى استمرار الخصومة لأن الصلح غير حقيقى.. وبعض القضاة يلجأ إلى كاتب المحكمة
ليتعلم منه, ولا مانع فى ذلك عند بداية العمل.. أما أن يستمر القاضى تلميذا لكاتب
المحكمة فهذا ينزع عنه صفة القاضى!!
لذلك وضع شروطا لتعيين القضاة منها الشهادة, ثم استعداد المرشح لامتحان فى
أبواب القضاء والمعاملات.. وأكد على ضرورة أن يكون لدى القاضى معرفة جيدة بالآداب
والتاريخ والجغرافيا, حتى تتسع رؤيته وتظهر بصيرته عند الفصل فى أحوال الناس..
واشترط أن يكون القاضى حسن الخط بحيث يسهل قراءة ما يكتبه.. وحذر من خطورة
المجاملة فى تعيين القضاة, وطالب بزيادة مرتبات القضاة لتكفيهم دون حاجة.. وطالب
وزارة الحقانية – العدل – بأن تضمن استقلال القاضى فى رأيه وتأمينه فى مكانه بوضع
قواعد شديدة الوضوح لحالات العزل.. وأكد على أنه لا إصلاح للقضاء ما استمرت وزارة "الحقانية"
تتحكم فى تعيين ونقل القضاة.. وذلك يفرض أن تقوم بذلك محكمة الاستئناف.. وسجل "بلنت"
فى مذكراته ما كتبه يوم 2 ديسمبر عام 1903 أن "محمد عبده" حين سأله "كرومر"
عن إصلاح القضاء وخطته لتحقيق ذلك.. قال له: "إذا كان القضاة ستعينهم الحكومة..
لا تنتظر إصلاحا"!! وأضاف تطويرا لخطته – دراسته – عام 1904 بالمطالبة بإنشاء
مدرسة للقضاء الشرعى يدرس فيها القاضى, قبل أن يبدأ عمله.. وقدم ذلك إلى مجلس شورى
القوانين – البرلمان – باعتباره أحد أعضائه وقت توليه مسئولية مفتى الديار.
ربما يسأل أحدنا عن سبب ربطه إصلاح القضاء بمسألة إصلاح الخطاب الدينى.. وهو
سؤال منطقى ومهم, وإجابته قدمها هو وغيره وقتها حين أكدوا أن إصلاح الأزهر يبدأ من
خارجه.. تلك حقيقة أكدها "رفاعة الطهطاوى" ببرهان عملى وجسدها "محمد
عبده" بدليل وبرهان عملى.. بل أن "على باشا مبارك" الذى نطلق عليه "أبو
التعلم" أكدها بتجربة عملية, حين أراد إدخال بعض الإصلاحات على نظام التعليم
فى الأزهر.. أشعل شيوخ الأزهر نيرانهم فى وجهه, واتهموه بكل نقيصة ووصلت لاتهامه
بالكفر والزندقة.. هنا قرر "على مبارك" القفز على هذا الحاجز بإنشاء
كلية "دار العلوم" التى يتم تدريس اللغة والعلوم الشرعية وفق مناهج أكثر
تطورا من خلالها.. لكنك ستندهش إذا علمت أن "شيوخ الأزهر" حاصروها حتى
سيطروا عليها, وتركوها تربة خصبة تزرع فيها "الوهابية" و"الإخوان"
أفكارهم ويحصدون منها متطرفين!!
بقيت دراسة "محمد عبده" عن "إصلاح القضاء" معروضة على
لجنة بعد الأخرى, وتنعقد لتنفيذها الاجتماعات حتى مات الرجل.. وتم دفن الدراسة!! ثم
شاءت الأقدار أن يتولى "سعد زغلول" وزارة "الحقانية" عام 1906
فقرر استدعاءها وإحياءها وسعى لتنفيذها.. لكن الأمر كان يحتاج إلى زمن حدده "محمد
عبده" بأربع سنوات فقط.. بينما "سعد زغلول" أمسك بدفة الوزارة
عامين فقط, لذلك عادت "ريمة" فور رحيله عن الوزارة إلى عادتها القديمة..
وبقيت "ريمة" مستقرة!! كما بقيت مسألة "إصلاح القضاء" موضوعا
موسميا يتم طرحه فى الموالد السياسية!! وسقط اسم "محمد عبده" من ذاكرة "نادى
القضاة" كما سقط من ذاكرة "نقابة المحامين" وكذلك سقط من ذاكرة "نقابة
الصحفيين" لسبب يصعب أن أذكره حتى لا يصرخ الجهلاء داخلهم فى وجهى!!
حين أتوقف أمام علم وفكر واجتهاد "محمد عبده" فهذا يرجع لاهتمامى
بالتأكيد على ضرورة العودة إلى "أصل الحكاية" باعتبار أن موطن المرض
وتحديده, فيه نصف العلاج.. لكننا اخترنا أن "نسعى وراء الشمس.. والشمس فى
ظهرنا" مع الدعاء بالرحمة والمغفرة لكل من "صلاح عبد الصبور" و"محمد
عبده" الذى مازال علمه واجتهاده يفرض علينا تقليب أوراقه.. خاصة رؤيته لإصلاح
الأزهر..
يتبع
0 تعليقات