آخر الأخبار

الفقه وتدوينه عند الشيعة (2)





 

 

محمود جابر

 

نحتاج للتوقف قليلا أمام (ابن الجنيد)  محمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي(ت381هـ) وهو فقيه بارز له مصنفات عدة أبرزها كتاب «تهذيب الشيعة» و «كتاب الأحمدي».

 

 

 والجنيد من قدماء فقهاء الإمامية والذى نظر إلى الفقه نظرة عامة غير مذهبية وهذا النظرة التى تغيرت منذ زمن المفيد ومن  بعده الشيخ الطوسى تلميذ الشيخ المفيد  وأصبح هناك تمايز فقهى بين الشيعة وغيرهم .

 

قال الشيخ الطوسي عن ابن الجنيد في كتابه «الفهرست» إنّه «كان جيد التصنيف حسنه إلا أنه كان يرى القول بالقياس فترك لذلك كتبه ولم يعوِّل عليها وله كتب كثيرة».

 

ومع ذلك لم يترك الإثنا عشرية جميع أقواله بسبب عمله بالقياس، بل يمكن ان نقول بسبب البحث عن تمايز فقهى مذهبى، إذ يقول العلاّمة بحر العلوم عنه: «وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة ورياسة وعظم محله قد حكى عنه القول بالقياس ونقل عنه جماعة من أعاظم الأصحاب».

 

ثم يذهب إلى القول: «ومما ذكرنا أن الصواب اعتبار أقوال إبن الجنيد في تحقيق الوفاق والخلاف كما عليه معظم الأصحاب، وان ما ذهب إليه أمر القياس ونحوه لا يقتضي إسقاط كتبه ولا عدم التعويل عليه أما قاله الشيخ رحمه الله فإن اختلاف الفقهاء في مباني اللأحكام لا يوجب عدم الاعتداد بأقوالهم لأنهم قديماً وحديثاً كانوا مختلفين في الأصول التي تبنى عليها الفروع كاختلافهم في خبر الواحد والاستصحاب».

 

وقد صنف إبن الجنيد كتباَ عدة أبرزها: «كتاب كشف التموين والالباس على اغمار الشيعة في أمر القياس»، وكتاب «إظهار ما ستره أهل العباد من الرواية عن أئمة العترة في أمر الاجتهاد»، وكتاب «تهذيب الشيعة» في عشرين مجلداً يشتمل على جميع أبواب الفقه، وكتاب «المختصر في الفقه الأحمدي» اختصر به كتابه «تهذيب الشيعة»، وهو الذي وصل إلى أيدي المتأخرين ومنه انتشرت مذاهبه وأقواله، حيث قام بتحرير المسائل الفقهية على وجه الاستدلال.

 

 

 وقد أدرك ابن الجنيد زمان وكيل الإمام المهدي، السمري والكيلني صاحب كتاب «الكافي» ولم  بنكته احد من هؤلاء بما نكت به من جاء بعده كما فعل  المفيد ثم الطوسى على الرغم من أنهم جميعا روى عنه وأخذ بما ذهب إليه.

 

 

 

الشيخ المفيد

 

غير أن مناخ السلطة كان له تأثير فى تمايز التأليف الفقهى حينما عاش

الشيخ أبو عبد الله محمد بن النعمان المفيد البغدادي(336-410هـ) فى زمن الدولة البويهية، فعمد على تمييز فقهى مخالفا من سبقه فأسس فقها مغايرا وهو ما يمكن أن نسميه فقه الاثنى عشرية والذى تطور بعد ذلك على يد السيد المرتضى علم الهدى (ت 436هـ) والشيخ محمد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ).

 

 وكان الشيخ المفيد في تلك المرحلة من العلماء الذين وضعوا الركائز الأولى لعلم أصول الفقه لدى الإثني عشرية حيث دخل علم الأصول مرحلة التصنيف والتأليف بسرعة، فألف الشيخ محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد (ت413هـ) كتاباً في الأصول واصل فيه الخط الفكري الذي سار عليه إبن أبي عقيل وابن الجنيد قبله، ونقدهما في جملة من آرائهما.

 

 

وكانت له مصنفات كثيرة أبرزها «كتاب في الأعلام» و«جواب المسائل في اختلاف الأخبار» وكتاب «النكت في مقدمات الأصول».

وقال عنه العلاّمة آغا بزرك أن كتابه في «أصول الفقه» الذي ذكره النجاشي قد رواه عن العلاّمة الكراكجي وأدرجه مختصراً في كتابه «كنز الفوائد» وهو مشتمل على تمام مباحث الأصول باختصار.

 

 وقد جمع الشيخ المفيد فقه الشيخين القديمين ابن بابويه وجعفر بن قولوية وعلم كلام ابن قبه وبني نوبخت الذين أخذوا عن المعتزلة وعلم رجال الكشي والبرقي، وحديث الصدوق والصفار والكليني، إلى جانب قدرة الجدل والمقارعة الفكرية القوية التي كان يتمتع بهما.

 

 

وكان المفيد شيخ الطائفة الشيعية في العراق وكانت داره في بغداد دائرة للمعارف العالية ومدرسة للعلوم الإسلامية تخرج منها الشريفان الرضي والمرتضى والطوسي والنجاشي وآخرون لا يحصون. وقد لقبه بـ«المفيد» علي بن عيسى الرماني النحوي عند مهاجمته لقاضي قضاة بغداد ابي بكر الباقلاني ونظرائه. واتصل المفيد بالدولة البويهية في بغداد وبنى معها علاقة وثيقة فموّلوا مدرسته وخصّصوا له جامع (براثا) في منطقة الكرخ لإمامة الصلاة والوعظ. وكان عضو الدولة البويهي يزوره مما يدل على عظم شأنه.

 

ومن أبرز كتب المفيد «المقنعة»، الذي قام الشيخ الطوسي بتبيان مصادره وذكر أدلته من الأخبار والأحاديث في كتابه الموسوعي «تهذيب الأحكام» أحد الكتب الأربعة الرئيسية.

 

وقال عنه العلاّمة المجلسي في كتابه «مرأة العقول»: «وهو المستمر والمطلع على كثير من أصول القدماء وكتبهم». وقال فيه إبن النديم(ت380هـ) في «الفهرست» إنه شيخ كل الشيعة في الفقه والكلام والحديث. كما قال عنه الذهبي في تاريخه «إنه كان فريداً في كل العلوم: في الأصولين، والفقه، والأخبار، ومعرفة الرجال، والقرآن، والتفسير، والنحو والشعر… وكان يناظر أرباب جميع العقائد».

 

يقول العلاّمة الحلّي في مقدمة كتابة «المنتهى» أنّ تعبير (الشيخ) عندما يرد في كتابه يقصد به الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي أو الشيخ المفيد وأنه يقصدهما معاً عندما يقول (الشيخان). ويشير الحلّي أيضاً إلى أن الطوسي يعتبر الإمام الأعظم للشيعة بسبب مساهمته الكبيرة في العلم الإمامي عموماً والفقه خصوصاً.

 

أن الشيخ المفيد كان يكتب فى ظروف لم تتح للذين قبله، فقد كان تحت حماية الحكم البويهي الشيعي وهو ما ظهر أحياناً في آرائه تجاه السلطان العادل!!

 

 وقد قام فقهاء السياسة الشيعة خلال الفترة البويهية خصوصاً في مدرسة بغداد مع المفيد وتلميذيه المرتضى والطوسي بتوضيح مبادىء توسيع صلاحيات الفقيه وهي مبادىء استند إليها عبر التاريخ الفقه الشيعي بأكمله.

 

 

كما أنشئوا مجموعة جديدة من مصطلحات الأصول أتاحت لهم التعامل بمرونة وبراغماتية مع حكومات الأمر الواقع من أجل الاستمرار التشريعي، وكان لبراغماتيتهم الفقهية أثر بالغ جعلتهم يصفون حكام الأمر الواقع بالحكم العادل!!

 

وقد كانت هذه البراغماتية في الفقه السياسي أساساً لتفسير عقلاني وأحياناً راديكالي عبر استقراء النصوص الإسلامية المذكورة في الروايات التي جمعها الكليني وإبن بابويه. وهكذا فإن عبارة «السلطان العادل» وردت في أحكام شرعية تعاملت مع الوظائف السياسية المقتصرة على الإمام المعصوم!!

 

 

هذا الأمر راق لسلطة الأمر الواقع التى أحبت ان ترى نفسها سلطة عادلة وتأخذ صفات دولة الإمام، وفق ما يقول السيد الخامنئي أن أهمية دور الشيخ المفيد التأسيسي في الحركة العلمية الشيعية تتركز في تعيينه حدود مدرسة أهل البيت وخصائصها المميزة لها عن المدارس الإسلامية الأخرى في الفقه والكلام، وهو قام بإنجاز مجموعة من الأعمال العلمية لتحقيق هذا الهدف الكبير فصنف كتاب «المقنعة» في الفقة، وهو دورة تكاد تكون كاملة في الفقة وفيه نهج الصراط المستقيم والطريق الوسط من الاستنباط الفقهي الذي هو مزيج من استخدام الأدلة اللفظية والقواعد الأصولية مع تجنب القياس والاستحسان والأدلة الأخرى غير المعتبرة.

 

كما ألف المفيد كتاب «التذكرة في أصول الفقه» الذي جمع فيه لأول مرة قواعد الاستنباط الفقهي وأفتى على أساسها، وكذلك كتاب «الأعلام» الذي ذكر فيه مواضع من إجماع فقهاء الشيعة على حكم واجماع فقهاء السنّة على عدم الافتاء بذلك الحكم. ودوّن المفيد كتاب «المسائل الصاغانية»، وهو يجيب فيه على إشكالات فقيه حنفي على عدد من مسائل فقه الشيعة ويرسم فيه الحدود الفقهية بين الحنفية والإمامية. ويعتبر كتاب «النقض على ابن الجنيد» من الأعمال العلمية الأساسية للشيخ المفيد، لأنه قام فيه بتبيين الخصائص المميزة لفقه الإثني عشرية، وكان له تأثير كبير على عدم استمرار اتجاه القياس بين فقهاء الشيعة الذي مثله ابن الجنيد الإسكافي والحسن بن أبي عقيل العماني.

 

ولم يقتصر دور المفيد في مجال تثبيت الهوية المستقلة للتشيّع على علم الفقه، بل كان له دور كبير في بيان الفصل بين عقائد الشيعة الإثني عشرية وسائر الفرق وخصوصاً المعتزلة والمذاهب الشيعية الأخرى.

 

 

ولعل أهم آثار الشيخ في هذا المجال هو كتابه المعروف «أوائل المقالات في المذاهب والمختارات» الذي ألفه لبيان الفرق بين الشيعة والمعتزلة، إذ تناول فيه الاختلاف بين ما اتفقت عليه الفرقتان في بعض المسائل الأصولية كالعدل، والفرق في فهم كل فرقة لهذه الأصول. وينقد المفيد في هذا الكتاب أيضاً عقائد بعض علماء الإمامية الذين أخذوا بعض آراء المعتزلة وشابوا كلام الشيعة بها، ومنهم بنو نبوخت.

ومن هنا نستطيع ان نقول أن مرحلة تميز الشيعة فى مجال الفقه، ثم الكلام، خضعت لمؤثر سلطوى حينما أصبح للشيعة دولة هنا ميز فقهاء الشيعة أنفسهم عن غيرهم وإن خالف تميزهم أصول المنهج أو المذهب الإعتقادى .



الفقه وتدوينه عند الشيعة (1)


إرسال تعليق

0 تعليقات