محمد البسفى
جاء شهر ديسمبر 1971،
وكادت السنة التي اسماها السادات بسنة الحسم، تنتهي بلا حسم، وتصاعد العمل السياسي
في الجامعات، وعبر الطلبة عن غضبهم من تميع الموقف، بصحف الحائط التي تندد بالموقف
الداخلي والخارجي، ويتصاعد عقد الندوات والاجتماعات والمؤتمرات.
ولم يكن الغضب قاصرًا
على الطلبة، فقد امتد إلى الجبهة الداخلية بأكملها، فعام الحسم انتهى بلا معركة،
بل انتهى دون تسخين الجبهة (على رأي العسكريين) كانت جبهة المواجهة باردة كالثلج،
في حين كان أبناؤنا في القوات المسلحة يتوقون إلى خوض المعركة العسكرية، ويعيشون على
خطوط القتال، وقد أثقلتهم التدريبات، وأصابهم ملل الانتظار وآلام الغربة عن البيت
وعن الأسرة. وأصيبت الجبهة الداخلية بخيبة أمل أيضًا، انعكست آثارها بصفة خاصة على
الشباب، الشباب دائمًا هو روح الوطن ونبضه وأحاسيسه ومشاعره.
وانتشرت في البلاد
شائعات - بحق أو بغير حق - عن الحلول الأمريكية، بل أن أمريكا أخذت تذيع في كل
مكان أن الدبلوماسية الهادئة بينها وبين السادات مستمرة، وأن التفاؤل موجود، وأن
هناك حل (جاي في السكة)، بل زادت أمريكا على ذلك بالقول أن مصر قبلت الحل الجزئي. وكان
للاقتراح الذي عرضه السادات في 4 فبراير من ذلك العام بانسحاب جزئي للقوات
الإسرائيلية على الشاطيء الشرقي لقناة السويس، وتطهير قناة السويس، وعادة فتحها
للملاحة الدولية، كان لهذا الاقتراح أثره في بلبلة الأفكار.
وكانت أحاديث السادات
وخطبه وكلماته تنصب كلها على إعداد الجبهة الداخلية للقتال، وعلى أن المعركة لن
تقتصر على جبهة القتال، بل ستمتد إلى أعماق البلاد، إلى قراها ومزارعها وإلى
مصانعها، وإلى الإنسان المصري في كل مكان، ولم يتخذ السادات خطوة إيجابية على هذا
الطريق، يلمسها الناس، ويشعرون بحق أنهم على وشك مواجهة المعركة.
واقتصاد الحرب الذي
تردد في كتابات المتخصصين، وفي مقالات الصحفيين، وفي أحاديث السادات لم يتجاوز - كثيرًا
مجرد الأقوال، رغم الإلحاح في المطالبة به في فترة مبكرة، وعلى وجه التحديد منذ أن
بدأت الأمانة المؤقتة للاتحاد الاشتراكي بعد مايو سنة 1971، ثم بعد أن توليت
سكرتارية اللجنة المركزية في أواخر يوليو سنة 1971.
كان من الطبيعي أن
يغضب الشباب، وأن يعبر عن غضبه في هذه الاجتماعات والندوات والمؤتمرات التي تصاعدت
في شهر ديسمبر سنة 1972.
وأذكر بعد أن
انتخبتني اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي سكرتيرًا أول لها في أوائل
يوليو سنة 1971، أن وضعت أمامي في ذلك الحين خرائط وتنظيمات وأنشطة منظمة الشباب،
عدة آلاف من الشباب يغطون الجمهورية كلها من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب لقنوا
ثقافة سياسية، قد تكون فجة ولكنهم يستطيعون أن يتابعوا مجرى الأحداث على المستوى
الوطني والقومي والعالمي، ويستيطعون أن يشاركوا بالرأي في قضايا وطنهم وعصرهم.
كان هناك نظام دوري
للمعسكرات، حيث تجتمع أعداد من الشباب للاستماع إلى محاضرات يلقيها أساتذة متخصصون
في مختلف مراحل الحياة، ولكن هذه المعسكرات، كانت قبل ذلك، حلقات مناقشة وحلقات
تعارف، تربط الأساتذة وتربط الدارسين بعضهم بالبعض، وتخلق صداقات روحية بين
المشتركين في المعسكر. ناقشت الموضوع من كل جوانبه مع الدكتور محمد كمال أبوالمجد
الذي استقدمه السادات من أمريكا، وكان يعمل مستشارًا ثقافيًا، وأسند إليه شؤون
الشباب في الأمانة المؤقتة، وقد أشرت في موضع آخر إلى الرابطة التي تجمعه بجماعة
الإخوان المسلمين، ناقشت الموضوع من كل جوانبه مع الدكتور أبوالمجد وانتهينا إلى
قناعة بأننا لابد أن نستأنف وبأقصى سرعة، أنشطة الشباب، وفي مقدمتها معسكرات تثقيف
الشباب، فنحن لا نستطيع أن ننشئ منظمة للشباب من العدم، ولدينا منظمة موجودة
فعلاً، ويمكن من خلال الممارسة، أن نكتشف أسلوب عمل جديد، أو أخطاء يمكن تصويبها،
أو انحرافات يمكن إصلاحها، وبذلك نخلق المقومات الأساسية لنقيم تنظيمًا جديدًا.
قابلت السادات
وناقشته في موضوع المنظمة، واستئناف نشاطها، بالصورة التي انتهت إليها قاعتنا، ثار
السادات ثورة عارمة وقال "إن كل من في المنظمة عدو لي، أنهم شيوعيون. أنهم
أذناب مراكز القوى.. لقد طالبت بتنظيم شبابي جديد يكون مواليًا لنا...".
ومضى السادات يقول: أريد
تنظيمًا قويًا من شباب أشداء يمكن أن يتصدى لأعدائنا من أذناب مراكز القوى، كذلك
أريد تنظيمًا نسائيًا ترأسه سيدة (تكون راجل) في قوتها وفي تصرفاتها وتصديها
للآخرين..
قلت أننا نتكلم عن
أعداء ونحن مازلنا في أول الطريق، وكيف لنا أن نحكم مسبقًا على الشباب، ونحن لم
نستمع إليه ولم نره ولم تتناقش معه، أننا إذا تخلينا تمامًا عن المنظمة القائمة
فعلاً بهياكلها وعضويتها وخطوط اتصالاتها، فقد نخلق جبهة من الأعداء، وقد يكون في
المنظمة عناصر طيبة نستطيع أن نصل إليها وأن نستقطبها، ومهما كانت هذا النسبة
ضئيلة فإنها مكسب على كل حال.. إن السياسة عملية اختراق، كما يقول العسكريون
وعملية حوار، وهي قبل كل ذلك عملية نضالية مستمرة..
أصر السادات على
رأيه، في ضرورة حل منظمة الشباب، لأنها تدين بالولاء لعلي صبري وكل من كان يشرف
عليها من المتآمرين. وعدت إلى مناقشة الموضوع مرة أخرى مع السادات، وكان ذلك بحضور
ممدوح سالم، وأشهد أن ممدوح سالم كان في هذه المرة مقتنعًا برأيي.
وأخيرًا انتهى
السادات كعادته بأن قال "أعمل اللي أنت عايز تعمله".
وبدأنا في الإعداد
لمعسكر للشباب في نادي الشمس في مصر الجديدة، وأعددنا كشفًا بالمحاضرين وقد حاولت
أن انتقيهم من مختلف الاتجاهات والمدارس الفكرية، وتم كل هذا بالاتفاق مع الدكتور
كمال أبوالمجد، وبترشيح للدارسين، من أمناء الاتحاد الاشتراكي في المحافظات..
رأست الحفل الذي أقيم
في أول معسكر للشباب وتحدثت فيه، وأذكر أنني شعرت أن استقبالهم لي لم يكن مرضيًا -
كان فاترًا - على أنه في الوقت نفسه لم يكن عدائيًا..
وتركت المحاضرات
والندوات ينظمها ويشرف عليها الدكتور أبوالمجد، واعتدت في كل يوم، وفي وقت متأخر
بعد انتهاء عملي في الاتحاد الاشتراكي، أن أذهب إلى المعسكر، وأن اقترب من
الدارسين أكثر وأن أجلس معهم جلسة أخوية نناقش بهدوء كل ما كان يدور من أحداث..
وأثمرت هذا اللقاءات
الشخصية، واستطعت أن أقيم علاقات طيبة مع كثيرين من الشباب الدارسين وأذكر أنني تحدثت
بعد انتهاء مدة الفوج الأول وأنني كدت أبكي من حرارة الوداع الذي ودعني به هذا
الشباب، وتكررت دفعات الشباب.
واشتد الهجوم عليّ من
محمود أبووافية (عديل السادات) ورفاقه من ذوي الحظوة لدى السادات فقد كان معاديًا
عداء سافرًا لمنظمة الشباب، بسبب موقفها منه في البحيرة خلال الانتخابات التي سقط
فيها..
كان محمود أبووافية
يهمس في أذن السادات ومعه أصحاب الحظوة: لقد عادت منظمة الشباب الشيوعية، وأخذ
الزيات يمد نفوذه عليها، وأخذت هذه العبارات التي تسكب في آذان السادات، تتناثر
هنا وهناك وفاتحني السادات حول هذه المخاوف ، فقلت له أنه يمكن أن يطلب من الدكتور
كمال أبوالمجد وهو يعرف اتجاهاته، تقييم هذه العملية ليطمئن على سيرها.
وفي مناسبة حضرت
اجتماعات للجنة العامة لمجلس الشعب، بوصفي السكرتير الأول للجنة المركزية وكانت
مشكلة من رؤساء لجان المجلس ومن رؤساء المجموعات البرلمانية، ومن عدد يختاره مكتب
المجلس، وكان محمود أبووافية عضوًا فيها.. وتناقشنا في موضوعات سياسية كثيرة، وفي
العلاقة بين الاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الشعب، وإذا بمحمود أبووافية ينتقل
بنا إلى حديث آخر، تحدث عن منظمة الشباب، وقال أن المنظمة عادت بكل عفنها
ومصائبها، وقال أن التوجيه والتثقيف الذي يجري فيها يتجه على غير خط السادات، قلت
له أننا نعرف أن خط السادات هو خط عبدالناصر، قال السادات هذا، وأكده في خطبه
وبياناته فإذا كان محمود أبووافية يعرف خطًا آخر للسادات فأرجو أن يوضحه لنا حتى
نعيد حساباتنا.. وعلى كل فلن أقبل ملاحظات، على ما يجري في إعداد الشباب، إلا في
إطار مناقشة تجري حول ذلك في مكانها الطبيعي في اللجنة المركزية.
لم أقصر اتصالي
بالشباب على الاجتماع بهم في معسكراتهم، ولكني بدأت أيضًا استقبل جماعات من الشباب
من اتحادات الطلبة في الجامعات، ومن العناصر القيادية الطلابية، وبدا أيضًا ممدوح
سالم يتصل ببعض شباب الجامعات المنتمين لجماعات دينية، وبعض الاتحادات الطلابية
ومعه فريق من أعضاء اللجنة المركزية..
كنت مطمئنًا إلى أن
عملية الحوار السياسي لابد وأن تثمر، قد تكون بداية متواضعة ولكن الحوار السياسي
المفتوح هو وحده الطريق الصحيح..
عندما بدأ التحرك
السياسي للطلبة في شهر ديسمبر 1971 في الجامعات، وعندما تصاعد في شهر يناير سنة 1972
ولم نكن في الاتحاد الاشتراكي نعتبر هذا خطرًا أو مخططًا أو مؤامرة، لكننا نعتبره،
وإن حدثت بعض التجاوزات، تعبيرًا طبيعيًا عن ضيق الشباب، وفي مواجهة ذلك كثفنا من
الاجتماعات التي كنا نعقدها مع الجماعات الطلابية، ولم تكن الآراء متباعدة أو
متناقضة أو متعادية، فقد كان ما ينادون به ضرورة تشعر بها الحكومة، ويشعر بها
السادات نفسه، ويشعر بها التنظيم السياسي.
ولم يكن غرضنا أن
نكبت الطلبة عن التعبير عن غضبهم، أو أن نقهر نشاطهم، أو نسيطر على تعبيراتهم،
ولكننا كنا نريد أن نلتقي على أرض مشتركة من أجل معركة حتمية، إن لن تتحقق عام 1972
فإن الضرورة ستفرضها عاجلاً أو آجلاً.
ومرة أخرى أقول أننا
أتبعنا الطريق الذي لا بديل عنه في مجتمع مفتوح وديمقراطي، وذهبنا إلى أكثر من هذا
واقترحنا على "السادات" أن يبدأ عقد لقاءات مع اتحادات الطلبة ومع
قياداتها، ولتكن اجتماعات يعد لها جدول زمني وتكون ضيقة على قدر الإمكان.
ولكن السادات منذ
بداية العام الدراسي في 1970 كان يردد على مسامعي في كل يوم، أنه يشم رائحة مؤامرة
أو مخطط عدواني، وعلينا أن نواجه هذا المخطط، ونحبط المؤامرة، وكنت أسأله كلما ردد
أمامي كلمة مؤامرة أو مخطط، عما إذا كانت قد تجمعت لديه معلومات من أجهزة
معلوماته، يستفاد منها أن هناك مؤامرة كان يرد بأن شعوره لا يكذب..
وكنت أسأل نفسي كيف
تسير السياسة، ونتعامل مع الأحداث بمجرد تخمين شخصي أو شعور إنسان بأن وراء كل حدث
مؤامرة.
أحداث مايو مؤامرة،
حوادث الطلبة في شهري ديسمبر ويناير مؤامرة، موقف اتحاد عمال مصر، بالنسبة لإعدام
الشفيع الشيخ سكرتير عام اتحاد عمال السودان ونائب الرئيس العام للاتحاد العالمي
للنقابات مؤامرة، سلسلة من المؤامرات لا وجود لها في الواقع ولكنها تتولد وتتضخم
في عقل السادات، وعلى عيونه وأجهزة أمنه أن تضخم له هذه المؤامرة أو تلك، أو تختلق
له مؤامرة، تساير طبيعته التآمرية وإلا كانت مقصرة أو غير متعاونة أو مختلفة.
وفي الأيام الأخيرة
من شهر ديسمبر كانت حركة الطلبة قد بلغت قمتها. وفي مقابلة مع السادات انتقل إلى
مرحلة جديدة وهي مرحلة ضرورة مواجهة مؤامرة الطلبة ولو بالدم، وسألته هل ستحولها
إلى حرب أهلية ونحن على أبواب حرب مع العدو.
ثارت ثائرته وقال: لقد
ضقت بسياستك وحوارك.. لقد حسمت الموضوع - إننا في حاجة إلى شباب (رجالة) يضربوا
ويهاجموا ويقتحموا، وقد كلفت محمد عثمان إسماعيل (وكان عضوًا بمجلس الشعب عن أسيوط
وأمين لجنة النظام في الاتحاد الاشتراكي في عهد سيد مرعي ومحافظ أسيوط حتى صيف 1983)
ومعه عدد من نواب الصعيد بأن يعدوا لنا فرقًا من طلبة الجامعات، يسلحوها ويدربوها..
وهناك الإخوان المسلمين يمكن كمان يتصدوا للطلبة اللي لهم لون.
واستطرد يقول: مش
ممكن حوادث الجامعات هتنتهي إلا بالطريقة دي.. العنف وحده هو الذي سيوقف هذه
المهازل والبذاءات أنا مش فاضي لحوار وسياسة، روح حاور أنت.
لم أحتمل هذا الموقف،
وكان أكثر من طاقتي أن أحتمله، فقلت للسادات أما وقد وصلنا إلى هذا الحد، أرى من
واجبي أن أذكركم بتجربة الثورة مع الإخوان المسلمين، واضطرارها إلى التصادم معهم
مرتين، وإذا بدأنا باستخدام العنف فإن حلقاته لا تنتهي، فالعنف يولد العنف، وتغاضى
المسؤولين عن الأمن في الجامعات عن استخدام بعض الطلبة للمطاوي أو الأسلحة الصغيرة
في العدوان على طلبة آخرين يقودنا إلى ما هو أخطر بكثير من ذلك.
قلت هذا الكلام،
وأستاذنت في الانصراف، فقد شعرت أن العلاقة بيني وبين السادات قد بدأت تفتر، وأنه
لم يعد في حاجة إلى أن يستمع لمشورتي، وأنه بات حبيس أوهامه التي تضخمها له أجهزته
وذوي الحظوة عنده..
وأخذت الأحداث بالفعل
تتداعى منذ ذلك الحين.
ظهرت المطاوي في أيدي
بعض الطلبة وهاجموا بها إخوانهم وزملاءهم، وتظاهر بعض رجال الأمن بأنهم طلبة،
وتسترت أجهزة الأمن على كل هذا، وتسابق المسؤولون في الجامعات والمباحث وأمن
الرياسة إلى الاستجابة لرغبات السادات والاتصال بعناصر طلابية وتدريبها على
التصدي، ولعلني أذكر نشاط مسؤول كبير في جامعة القاهرة، وكان في ذلك الحين نائبًا
لرئيس الجامعة لشؤون الطلبة، وقد شغل بعد ذلك مركزًا مرموقًا، لعلني أذكر نشاطه في
تشكيل الأسر الدينية، لتواجه الأسر التي شكلها بعض الطلبة الآخرين وفي إقامة
المعسكرات الدينية وفي أحضان الجماعات الإسلامية والتغاضي عن كل تجاوزاتها.
منذ يناير 1972 تزايد
نشاط جهات الأمن، المباحث وجهاز أمن الرياسة. وتزايد تنافسها على تجنيد عناصر
مأجورة من الطلبة. "للتصدي والاقتحام" تقربًا وزلفى للعنف السلطوي، وأصبحت
التقارير التي ترفع للسادات من أجهزة أمنه، تتضمن عبارات التصدي والاقتحام، وكأنها
بلاغات عسكرية، "وتصدت قواتنا للعدو واقتحمت صفوفه وتجمعاته"..
وأصبحت الجماعات
الدينية في الجامعات محور الرعاية ومحور الأمل فمد لها المسؤولون عن شؤون الطلبة
في الجامعات حبل التشجيع والتغاضي عن أنشطتها، بل والمعاونة في دفعها وتوجيهها ضد
من وصفهم العنف السلطوي بذوي الألوان، وأذناب مراكز القوى، وهم جموع الطلبة الذين
أرادوا المشاركة في هموم الوطن، وهم جزء منها، وهي جزء منهم.
ومكن هؤلاء للجماعات
الدينية أن تسيطر على كل الأنشطة الجامعية، وأن تخضع إرادات الجامعات لإرادتها. ورغم
كل هذا استمر العمل السياسي في مد وجزر، وكان يواجه بأشد أنواع القمع والقهر من
عملاء أجهزة الأمن، ومن الجماعات الدينية وعرفت بعض العناصر الطلابية طريقها إلى
المباحث وأمن الرياسة لتقبض الثمن شهريًا، وأنا لا أعرف على وجه التحديد ماذا جرى
بعد خروجي من الاتحاد الاشتراكي في سنة 1972، ومن الوزارة في سنة 1973، في ما كنت
استمع إليه وأقرأه عن تصاعد عمليات العنف في الجامعات، وعن سيطرة الجامعات الدينية
على الاتحادات الطلابية، بمباركة وتشجيع من بعض المسؤولين في الجامعة، وما سمعته
وقرأته عن سيطرة هذه العناصر سيطرة كاملة على كل أنشطة الجامعات - كما جرى في
جامعة أسيوط وفي كلية الطب في جامعة القاهرة.
وأقول على وجه خاص في
أسيوط حيث بدأ العنف السلطوي يمارس لعبته التي اتسعت وامتدت وتشعبت بعد ذلك.
حتى جاءت انتفاضة 18
و19 يناير 1977 بعد خمس سنوات من انتفاضة الطلبة في 1972 من أجل تحرير الأرض، جاءت
انتفاضة يناير 1977 من أجل لقمة العيش وكان من الطبيعي أن يكون بعض طلبة الجامعات
من بين عناصرها، فهموم الوطن جزء منهم وهم جزء منها.
ووصل العنف السلطوي
إلى قمته بإصدار القرار بقانون رقم 2 لسنة 1977. معاقبًا بالأشغال الشاقة المؤبدة،
الامتناع عن الدراسة والمشاركة في تجمهر أو اعتصام من شأنه أن يعرض السلم العام
للخطر، واستفتي الشعب على القرار بقانون ووافق عليه بالأغلبية المعروفة 99.9%.
وهكذا جمد العنف
السلطوي العمل السياسي في الجامعة، وأفسح المجال واسعًا رحبًا للتعصب الديني، لكي
يفرخ ويتزايد ويستفحل أمره وتشتد سطوته ويخرج عن طوع هؤلاء الذين اسبغوا عليه
رعايتهم وعنايتهم، ليكون سلاحهم في تطويع المعارضين.
إن غيري يعرف أكثر
مني بما جرى في الجامعات من 1971 إلى 1977، ثم بعد ذلك وحتى أواخر عام 1981 وأنا
أدعوهم إلى الكتابة بكل صدق وأمانة، ليلقوا الضوء على ما كان يجري في الجامعات،
فهي مسؤولية تاريخ وليست نبشًا للماضي، فلن تستطيع أن تعيد الشيطان إلى قمقمه بمحاكمات
وسجون وإعدامات، ولا يتأتى ذلك إلا بمتابعة علمية للأسباب والمسببات، ثم بتحديد
المسؤولية عن بذور العنف، التي بدأت في صفوف الطلبة لتنتقل إلى قطاعات أخرى من
الشعب.
المدخل ونحن نناقش
العنف في الشباب أن نبدأ الخيط من بدايته.. من المسؤول عن خلق المناخ الذي أحل
التعصب بديلاً عن السماحة، التي عرفت عنا وعرفناها عن أنفسنا. ومن المسؤول الذي
أحل العنف بديلاً عن الحوار، والخنجر والسلاح بديلاً عن السياسة.. من المسؤول عن
السياسة التي انتهت إلى الحادث المأسوي في 6 أكتوبر 1981.
ألح عليّ هذا الموضوع
وأنا أقرأ صحف الصباح الرئيسية الصادرة في 9 مايو 1982 وعناوينها الرئيسية قرار
الاتهام في قضية الجهاد - إحالة 299 متهم لمحكمة الأمن الدولة العليا - النيابة
تطالب بإعدامهم لمحاولة قلب نظام الحكم.
عنوان حزين وذكرى
حزينة :
نظرة على أسماء
المتهمين وأعمارهم.. كلهم من الطلبة من خريجي الجامعات تتراوح أعمار الطلبة بين 19
و25 سنة. أما الخريجون فلا تتجاوز أعمارهم 35 عامًا.. جميعًا حضروا مرحلة العنف
السلطوي.. حضروا المرحلة التي درب فيها بعض للطلبة وسلحوا بمعرفة المسؤولين عن
أجهزة الأمن، وبمعرفة بعض شخصيات سياسية عهد إليها بهذه المهمة التي أطلق عليها
مهمة "التصدي والاقتحام".
كلهم عايشوا المرحلة
التي كانوا فيها موضع الرعاية والحظوة لدى مسؤولي الجامعات، وحضروا المرحلة التي
أشعرهم فيها هؤلاء بأنهم هم الأقوياء، حضروا المرحلة التي لقنتهم فيها وسائل
الإعلام الساداتية بأنهم هم المسلمون وحدهم. أما الطلبة من ذوي الألوان وأذناب
مراكز القوى فهم ملحدون.
حضروا المرحلة التي
لقنتهم فيها أجهزة العنف السلطوي من أمنية وإعلامية.. إن الذين يعارضون السادات
أنما يعارضونه بسبب إيمانه ودعوته إلى دولة العلم والإيمان، وهم يريدون شيوعية
ملحدة امتدادًا لعهد عبدالناصر.
حضروا المرحلة التي
صنف فيها العنف السلطوي، ناس مصر الطيبين، الاستفتاء والقانون بين مؤمن ومنكر
للشرائع السماوية.
هكذا شق العنف
السلطوي الصف، وبذر بذور الشقاق، وأصبح إيمان الناس نعمة يمنحها السلطوي وأجهزته،
وإلحاد الناس نقمة يصبها العنف السلطوي وأجهزته على رؤوس معارضيه (الاستفتاء على
مباديء حماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي في 21 مايو سنة 1971 والقانون 33
لسنة 1971 لحماية الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي) عايش الشباب الفترة التي
أغمضت فيها أجهزة الأمن أعينها - وهي تشهد أفراد الجماعات الدينية يلجئون إلى
الكهوف والمغارات في أسيوط وبعض محافظات الصعيد وفي بعض الجهات النائية في القاهرة
والجيزة، يعيشون فيها أيامًا يتلقون فيها الدروس والتعليمات، ويتدربون فيها على
استخدام الأسلحة، كما كانت الجماعات الدينية تجمع الأسلحة تحت سمع السلطات
المسؤولة وبصرها، وفي بعض الأحيان بمشاركة منها.
ليس هذا إدعاء فلنرجع
إلى تحقيقات قضية الفنية العسكرية وإلى قضية مصرع السادات لنرى من ذلك الكثير.. لنرى
صورًا من صورة التواطؤ.. والتواطؤ كما تعلمتاه إما أن يكون بالاتفاق الفعلي أو
بمجرد السكوت.
ولنرجع أخيرًا إلى
أقوال اللواء حسن علي السيد نائب مدير أمن أسيوط أمام محكمة أمن الدولة في جلستي 26،
28 فبراير 1983 (منشورة في صحيفة الأهرام في 27/2/1983 وفي 1/3/1983) وذلك خلال
سماع الشهود وفي قضية أحداث أسيوط (تنظيم الجهاد) والشهادة سجل تاريخي عن نشأة
العنف وتطوره بين الشباب وكيف بدأ بقيام هيئات التدريس في جامعة أسيوط بإنشاء
الأسر الدينية لمقاومة التيار الشيوعي.. ولم يعرف أحد من قبل أن هناك تيارًا
شيوعيًا في أسيوط ولكن القصد من هذا التعبير هو التغطية تصفية كل العناصر الطلابية
المعارضة لمجمل سياسات السلطة وكيف أحتضن المسؤولون في جامعة أسيوط هذه الأسر،
وكيف تزايد عددها وبدأت تسمى الجماعات الدينية، وكيف تحولت خلال هذا الاحتضان
والتشجيع والتغاضي عن أنشطتها إلى جماعات تدعو إلى أهدافها باستعمال القوة
والإرهاب، والسيطرة على الجامعة، وفرض أفكارها بالقوة واستخدامها لبعض أعمال العنف
والإرهاب ضد الطلبة في الجامعة والاعتداء على بعض المعتقدات الأخرى.
ويقول في شهاداته (وهنا
بدأ الأمن يتخذ موقفًا من هذه الجماعات بالنصيحة والتوجيه، على أساس أنهم أولادنا
وطلبة في الجامعة "وبدأ الأمن ينصحهم ويجتمع بهم").
وما أعجب كل هذا.. أعمال
العنف والإرهاب والاعتداء على طلبة آخرين والسيطرة على الجامعة وفرض أفكار هذه
الجماعات على إدارتها، والاعتداء على بعض المعتقدات، وسيلة أجهزة الأمن ومسؤولو
الجامعة لمواجهتها مجرد النصح والتوجيه.
ثم لنرجع أيضًا إلى
شهادة المقدم ممدوح كدواني مفتش مباحث أمن الدولة بأسيوط في نفس قضية تنظيم الجهاد
في أسيوط أمام محكمة أمن الدولة في جلسة 5/3/1983. (منشورة في صحيفة الأهرام في 6/3/1983).
قال ردًا على سؤال
رئيس المحكمة عن معلوماته عن الجماعات الإسلامية بأسيوط. فكان رده منذ بداية استلامي
لعملي في أسيوط سنة 1975، بدأ نشاط الجماعات الإسلامية وكان نشاطهم يسعى لتحقيق
السيطرة على قطاع الطلاب بجامعة أسيوط وفي سبيل ذلك كانت الجماعة تقوم بفرض
سيطرتها والضغط على قطاع الطلبة لفرض إرادتها عليهم.
وضرب أمثلة لذلك
إلغاء الأنشطة الاجتماعية والرياضية، ومن ذلك إلغاء معرض كانت تقوم بإعداده
المدينة الجامعية للبنات، وهو معرض المنتجات لتدعيم النشاط الاجتماعي في المدينة
الجامعية ودفع مصاريف البنات اللائي يعجزن عن دفع المصروفات إلغاء الحفلات.
التعدي على الطلبة.
إثارة الفتنة
الطائفية داخل الجامعة.
احتجاز عدد من الطلبة
المسيحيين - الدخول في الصراع مع إدارة الجامعة بقصد سيطرتهم عليها وكلهم كانوا
جماعة واحدة كانت تسيطر على جامعة أسيوط وكانت تطلق على نفسها الجماعة الإسلامية.
ولما سألته المحكمة: متى
بدأت ؟ أجاب من عام 1975 و1976. وسألته المحكمة: وما موقف جهات الأمن من هذه
الجماعة الإسلامية في باديء الأمر ؟ أجابها: نشاط الجماعة يكون إما داخلها أو
خارجها. في الأحوال التي تحدث داخل الجامعة من اختصاص إدارة الجامعة.
أما بالنسبة للأحداث
التي تقع خارج الجامعة، حررت عنها جهات الأمن محضرًا (وكان موقف جهات الأمن موقف
مهادنة).
وسألته المحكمة: هل
لديك معلومات عن فكر الجهاد المسلح قبل أحداث أكتوبر ؟ فأجاب بالإيجاب وأن ذلك كان
حوالي 1979 أو 1980 (وأورد دلائل على ذلك وسألته المحكمة: ألم تتخذ إجراءات قبل
إجراءات أكتوبر ؟ فأجاب: لا.
وسألته المحكمة: هل
تستطيع أن تقرر لنا الأسباب ؟ فأجاب: دي قرارات سياسية كانت تتخذ لا أعرف عنها
شيئًا. وفي رده على النيابة أجاب بأنه لم تتخذ ضدهم إجراءات أمنية في سبتمبر.
ثم سألته المحكمة: قرر
بعض الشهود من رجال الأمن أمام المحكمة أن الجماعة الإسلامية في جامعة أسيوط شكلت
في مرحلة ما مجلس الشورى فما هي معلوماتك في هذا الشأن ؟
فرد بأن: القيادة
تشكلت 1977 ولهم أمير هو ناجح إبراهيم (في كلية الطب) ومجلس الشورى، وسألته
المحكمة: وما أسباب سكوتكم عن إتخاذ إجراءات منذ عام 1977 ؟
فأجاب بنفس رده
السابق (ده قرار سياسي ولا أعرف سببه) وفي رده على سؤال: هل تعلم أن هناك اتصالاً
كان بين الجماعة الإسلامية بأسيوط ومحافظها السابق (والمقصود محمد عثمان إسماعيل) وحضور
نشاطها ومباركة نشاطها في السنوات السبعينية حتى حدوث حوادث أسيوط في أكتوبر ؟
وكان رده بطبيعة الحال: لا أذكر شيئًا.
فهو ضابط مازال في
رتبة مقدم وعمره 40 سنة ولا يستطيع أن يجب بالإيجاب خشية أن يتعرض لما يمكن أن
يتعرض له موظف في مثل مركزه)..
وفي رده على سؤال آخر
في هذا المعنى: هل تذكر أن لقاء تم في جامعة أسيوط عام 76، 77 حضره المحافظ (والمقصود
هنا أيضًا محمد عثمان إسماعيل) وكبار المسؤولين بالمعسكر الإسلامي بجامعة أسيوط
وما دار في هذا المعسكر ؟
ورد نفس الرد: لا
أذكر.
وكيف لا يذكر وهو
الذي في رده على سؤالين برر عن عدم ملاحقة هذا العنف واتخاذ إجراءات لوقفه رغم
وصوله إلى هذا الحجم من الخطورة بداية من 1975 وتزايد هذا الحجم في السنوات
التالية. بأن "دي قرارات سياسية كانت تتخذ ولا أعرف عنها شئيًا".
فمن كان يصدر القرار
السياسي في المحافظة ؟ أليس هو المحافظ الذي كان يطلق عليه السادات نائبه في
المحافظة، ومن أين كان يتلقى هذا القرار السياسي ؟ أليس من رئيس الجمهورية ؟
لقد انتهى بنا الحال في
ظل العنف السلطوي، أن نرى آلافًا من أبنائنا في الأمن المركزي، وقد دربوا على
الكاراتيه والضرب بالعصا الكهربائية، التي تشل عقل الإنسان وحركته إلى غير ذلك من
أسلحة العنف التي تكدست بها مخازن وزارة الداخلية في عهد وزير داخلية السادات
النبوي إسماعيل.
وانتهى بنا العنف
السلطوي إلى صور بشعة وحشية في تعذيب المسجونين والمعتقلين السياسيين وفي تعذيب
المتحفظ عليهم في أقسام الشرطة.
أكتب ما في هذه القصة
ليس من باب التسجيل فحسب، ولكني أكتبه ليقرأه الحكماء والسياسيون في مصر، فإن
المرحلة التي مرت على مصر - مرحلة العنف السلطوي - بأسبابها ومسبباتها،
بمسؤولياتها وأشخاصها، لابد وأن يكشف عنها النقاب، فقط طبعت هذه المرحلة الحياة
المصرية بطابع غريب وخطير، وليس هذا نبشًا للماضي ولكنه تأمين للمستقبل وهو واجب
لا يحتمل التأخير..
لقد أراد السادات
متواطئًا مع غيره أو ساعيًا لإسترضاء غيره أن يحرف معركة الشعب المصر التي تحددت
ضد الإمبريالية والصهيونية والاستقلال ومن أجل الحرية والاشتراكية والوحدة إلى
معركة المؤمنين ضد الملحدين وتسخير الدين لتصفية الثورة الناصرية التي وصفت
بالشيوعية الملحدة، وارتدى السادات مسوح الحاكم المسلم لدولة إسلامية ليعشش وينمو
الإرهاب وينتشر الفساد تحت مظلة التجارة بالدين واستقطاب حماس الشباب المتدين إلى
مسارات أخرى لا تمت إلى الدين..
(مذكرات محمد
عبدالسلام الزيات : السادات .. القناع والحقيقة)...
0 تعليقات