آخر الأخبار

ثورة يوليو وقناة السويس





 

علي الحفناوى

 

 

يتحدث الدكتور مصطفى الحفناوى فى مذكراته عن أول لقاء لرجال ثورة 52 بقضية قناة السويس، فيقول:

 

زارني صديق قديم هو المرحوم الدكتور محمود صالح الذي كان يدرس في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، وانقطعت أخبار صديقي الـذي عاد إلى برلين، فور قيام الحرب العالمية الثانية، وكنت أعتقد أنه مات إلى رحمة الله أثناء الحرب، ولكنه ظهر في مصر فجأة في سنة ١٩٥٢، وعاد لزيارتي باستمرار. ولما أن وقعت ثورة ٢٣ من يوليو سنة ١٩٥٢، أخبرني أنه اتصل بالضباط الأحرار، وكان فرحا بهم، كثير الثناء علـيهم، وطلب مني أن أصحبه إلى مقر الثورة وقيادتها العامة، فاعتذرت عن إجابة طلـبه وقلت إن جماهير من المنافقين والعناصر الانتهازية سعت إلى قيادة الثورة وتسابقت نحوها؛ وأخشى ما أخشاه أن أذهب وأختلط بطوابير هؤلاء، وهم طلاب حاجات ولست منهم، ولكن إذا دعاني قادة الثورة لمقابلتهم فسوف أذهب إليهم، وفي يدي الملف الكامل لقضية قناة السويس. ويبدو أن الدكتور محمود صالح - الذي مات إلى رحمة الله، بعد هذا التاريخ بقرابة عامين - قد تكلم عني في القيادة العامة، ونبه الضباط الأحرار لشخصي، وزارني ليقول لي إن رجال الثورة قرروا استدعائي لمقابلتهم، ومطلوب مني أن انتظر مكالمة تليفونية.

 

وبعد أيام قلائل، وكنا في أغسطس ١٩٥٢م، دق جرس الهاتف بمكتبي، وجرى الحديث الآتي:

 

- هنا القيادة العامة، إلى أي وقت تستمر في مكتبك؟

- أنا: حتى الساعة الثامنة والنصف.

 

- الضابط المتكلم (ولم يذكر اسمه): سنزورك في مكتبك الليلة.

 

وبعد فترة قصيرة عاد لمكالمتي ليقول عندنا مؤتمر الليلة، ونحن مشغولون، فهل تسمح بالحضور للقيادة العامة لنتحدث معك؟ ولم أكن أعرف معنى كلمة مؤتمر بلغة العسكريين، وأنها تعني اجتماعا... وذهبت إلى مقر القيادة العامة بمنشية البكري، فقابلتي ضابط برتبة صاغ واسمه إبراهيم الطحاوي، وقدمني لضابط شاب فارع القامة برتبة بكباشي وقال وهو يقدمني:

 

"هذا هو الأخ جمال عبد الناصر الذي يتقدمنا في صفوف ضباط الثورة". وكان جمال عبد الناصر - رحمه الله - يشغل وظيفة اسمها مدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة، وكان في عينيه بريق ينم عن حدة ذكاء، وقوة إرادة وقوة شخصية، وكان الناس يقولون همسا إنه القائد الحقيقي للثورة، ولكنه متنكر خلف منضدة مكتبه المتواضعة، وخلف ستار اسمه اللواء محمد نجيب.

 

فى هذا اللقاء الأول وخلال لقاءات أخرى عديدة فى السنوات التالية، تكلمت طويلا مع المرحوم جمال عبد الناصر، الذي طلب مني أن أفسر له موضوع قناة السويس الذي أنا مشغول به ليلا ونهارا. وشرحت له تاريخ القضية ومشكلات قناة السويس المعاصرة بالتفصيل، وكان شديد الإصغاء لكل كلمة قلتها، وقال عبارة واحدة دلتني على صفاء ذهنه، ودقته في وضع خططه. حيث قال لي - رحمه الله - وهو جالس بحجرته في القيادة العامة بمنشية البكري، وبعد قيام الثورة ببضعة أسابيع، العبارة التي أذكرها وتدوي في أذني حتى الآن:

 

"اسمع يا دكتور.. علينا أن نركز جهودنا فى إجـلاء الاحتلال البريطاني عن قاعدته في قناة السويس، وإني أعدك بتأميم شركة قناة السويس بعد الجلاء مباشرة. ولكن إذا تعرضنا لموضوع الشركة قبل الجلاء سوف تتعقد المسائل ولن نستطيع أن نفعل شيثا..!!"

 

والذي راعني في السنوات التالية، هو أن جمال عبد الناصر حافظ على خطته هذه، وحدث جلاء الإنجليز عن القاعدة، ورفع عبد الناصر عليها علم مصر بعد جلاء آخر جندى بريطانى في يونيو سنة ١٩٥٦، وأمم شركة قناة السويس في يوليو سنة ١٩٥٦.

 

وقد أخطرت بعد ذلك بأن قـيادة الثورة رأت في أواخر خريف سنة ١٩٥٢م، أن تنظم موسما ثقافيا في نادي القوات المسلحة بالزمالك، وكان اسمه وقتئد "نادي الضباط"، ورأت أن أفتتح هذا الموسم الثقافي بمحاضرة عن قناة السويس، وفي الأسبوع التالي ألقى المرحوم عبد العزيز عبد الله سالم وزير الإصلاح الزراعي محاضرة عن قانـون الإصلاح الزراعي، وكان الأستاذ الدكتور طه حسين هو المحاضر في الأسبوع الثالث.

 

وكان يوم محاضرة الافتتاح هو ١٧ نوفمبر سنة ١٩٥٢م. وقد اختير هذا الـيوم بالـذات تذكيرا بالتاريخ الذي ينتهي فيه امتياز قناة السويس. ولم أُعد المحاضرة، وإنما ارتجلتها، واستغرقت ساعة كاملة، وحضر جمع كبير من كبار ضباط الجيش من مختلف الأسلحة والرتب وبينهم أعضاء مجلس قيادة الثورة، وفي مقدمتهم رئيس الحكومة وقتئذ اللواء محمد نجيب الذي قرأ في الميكروفون بعض قصار الـسور القرآنية الكريمة، وقدمني للحاضرين.

 

وحينما ارتقيت المنصة، عرضت المشكلات عرضا مركزا، وقلت بصريح اللفظ إني أطالب بتصفية شركة قناة السويس التي هي أداة الغرب في استعمار بلاد الشرق، وإذا كان لا بد من تأميمها، فعلينا أن نؤممها، ولكن على القوات المسلحة المصرية أن تكون مستعدة برا وجوا لمواجهة نتائج التأميم، ذلـك أن الحرب واقعة لا محالة، ستحاربنا إنجلترا وستحاربنا فرنسا حتما، ويجب أن نستعد بالسلاح. وبينت في محاضرتي أسباب ذلك وكنت وكأني قرأت في كتاب مفتوح.

 

وفي صباح يوم ١٨ من نوفمبر سنة ١٩٥٢، نشرت الأهرام وبقية صحف الصباح نص محاضرتي، وأخطر من المحاضرة: نص البيان الرسمي الذي صدر على لسان اللواء محمد نجيب، وقد عانقني فور انتهاء محاضرتي، وارتقى المنبر وطلب من الحاضرين أن يرددوا من ورائه قسما مغلظا بتنفيذ توصياتي بالحرف الواحد.

 

وبعد أيـام قلائل وصلني كتاب بتوقيع السيد/ محمد مجدي حسنين بوصفه مديرا لمكتب رئيس مجلس الوزراء، أبلغني فيه أن مجلس الوزراء قد أصدر قرارا بإنشاء مكتب يلحق بمجلس الوزراء لجمع الوثائق وعمل الدراسات اللازمة للاستعداد لاستلام قناة السويس فور انتهاء عقد الامتياز، وأن الحكومة المـصرية عهدت إليَ بهذا المكتب، ولي أن أختار مكانه بدار مجلس الشيوخ أو برئاسة مجلس الوزراء. وكان المهندس محمود يونس مستشارا فنيا لمجلس الثورة، وكان حارسا على القصور الملكية، وبهذه الـصفة صدر إليه الأمر بأن يضع تحت تصرفي محفوظات قصر عابدين التاريخية.

 

وتراخى تنفيذ هذا القرار، ثم ما لبثت أن أحسست ببرود جو العلاقة بينى وبين الحكومة، واتجاها للعدول عن القرار المشار إلـيه. ولم أكن أعرف الأسباب يومئذ، ولم يخبرني أحد بما وجدته بعد تأميم الشركة في ٢٦ يوليو سنة ١٩٥٦، في ملفاتها السرية، حيث وجدت ملفا فيه ترجمة لمحاضرتي في نادي الضباط، وترجمة لتصريح اللواء محمد نجيب، وتقريرا موقعا من المستر "كافري" سفير الولايات المتحدة الأمريكية، ومذكرة موقعه من السفير البريطاني في القاهرة، وقد توجه سفيرا الدولتين معا إلى اللواء محمد نجيب بإنذار رسمي طلبا فيه من حكومة الثورة تحديد موقفها، وهل حقيقة لديها النية في تنفيذ ما أنادي به، وهو فيما وصفه السفيران مشاغبة وإثارة وتخريب!! وعرفت بعد قراءة هذا الملف أن ساعد الثورة كان ضعيفا، وأن الدول الاستعمارية الغربية واجهت الأمر بهذه الصرامة، فأصبح الاتصال بشخصي في موضوع قناة السويس سببا من أسباب المتاعب التى اقتضت الحكمة إرجاءها إلى الوقت المناسب..

 

ثم كان الصراع اليومى للدكتور مصطفى الحفناوى ضد شركة القناة من أجل تأميمها حتى يوليو 1956

 


إرسال تعليق

0 تعليقات