محمود
جابر
الأسطورة حالة اشتباك
بين الواقع والخيال ومحاولة القفز فى فراغ الخيال لملامسة الحلم المراد الوصول إليه،
ولما كان الإنسان يميل الى فكرة المظلومية، ويطمح الى البحث عن بطل أسطوري يحقق له
ما يريد وينال من الطغمة الظالمة، فأصبحت كل حكاية تنشأ وفق هذا المنطق لها قدر
كبيرا من الرواج وأيا كان اسم هذا البطل الأسطوري القادم عبر التاريخ ليحقق حلم المظلومين
وينتصر لهم من الظالمين، فحتما سوف يلاقى رواجا لدى العامة والمستضعفين .
أحد هذه الشخصيات فى الميثولوجيا
الشعبية والدينية هو السفيانى...
و السفياني هي شخصية
مستقبلية وردت في التراث الشيعي من علم آخر الزمان في الإسلام. ورد في بعض
الأحاديث "الضعيفة" أنه ينحدر من نسل أبي سفيان. ويعتقد الشيعة أنه
سيكون منافس ومعارض للمهدي. وأنه المقصود بـ "رجل من قريش" في حديث خسف
البيداء.
يعتقد بعض النقاد أن
شخصية السفياني تم ابتكارها كنقد سياسي للدولة الأموية باعتبار خلافائها من نسل
أبي سفيان. والبعض الآخر يعتقد أن هذه الأحاديث التي يحكم عليها أهل الحديث إما
أنها ضعيفة أو موضوعة، إنما وُضِعَت لمناهضة ثورة زياد السفياني في الشام ضد
العباسيين.
خروج السفياني هو
إحدى علائم ظهور محمد بن الحسن المهدي في العقيدة الشيعية التي سجلتها المصادر
الروائية، وأنه من العلامات الحتمية، حسب الحديث المنسوب لجعفر الصادق أنه قال: قَبْلَ
قِيامِ الْقَائِمِ خَمْسُ عَلَامَاتٍ مَحْتُومَاتٍ: اليماني والسفياني والصيحة
وقتل النفس الزكية والخسف بالبيداء. والسفياني كالدجال رجل طاغية يعيث في الأرض
فساداً قبل ظهور محمد بن الحسن المهدي. وأنه من الطواغيت المعارضين والمعادين
لمحمد بن الحسن المهدي. وأن عاقبته وجيشه أن يخسف بهم في البيداء.
أما جمهور أهل السنة
فيقولون بأن قائد جيش يظهر قبل خروج المهدى وليس له هذا الدور الكبير وآخرون أنكروا
انه له علاقة نسب بأبى سفيان ولا يوجد أهمام بهذه الشخصية لديهم كما هو الحال عند
الشيعة ...
ولكن نعود للسؤال: من
هو السفيانى ومن أين أتى؟
دخلت روايات السفياني
التراث الشيعي تدريجيا من الكتب والمصادر السنية ، فقد كان خالد بن يزيد بن معاوية
أول من وضع حديث السفياني، وظل متداولاً بين الأوساط المعارضة للمروانيين ، وكان
المفهوم الأول للسفياني هو المهدي المنتظر الخاص بالسفيانيين من بني ٱمية ، ولم
تتطور هذه الفكرة بسبب قلة عدد السفيانين وقلة المستفيدين منها وضيق ذات اليد وارتباطهم
المشين والمباشر بمذبحة كربلاء، ولم تتحول إلى أمل شعبي يتجاوز أطماع إعادة ملك
السفيانيين السليب، ولم تبنى فكرته على أساس يهدف لتكريس قيم العدالة التي تدغدغ
مشاعر الناس .
ثم ان المرونيين
وجدوا فرصتم ودعاتهم وأموالهم فى تحويل هذا السفيانى المختلق من داعى الى الحق
ونصرة المظلوم، الى شخصية شريرة وقد وصلت الصورة السلبية للسفياني جاهزة بعد سقوط
الدولة الأموية وأستطاع عدد من الرواة وعلى رأسهم نعيم بن حماد المروزي( ت 228 ه) من
وضع وجمع مئات الأحاديث عن السفياني وأندمج السفياني بالمسيخ الدجال ، وكانت
اليهودية قد أخذت الفكرة من العقائد القديمة التي سبقتها كعقائد وادي الرافدين
ومصر ، واستنسخت معركة الخير والشر من تلك العقائد ونقلتها التوراة تحت اسم معركة (هرمجدون)
التي تنشب حسب العقائد اليهودية المسيحية على جبل مجدون في فلسطين وفق سفر الرؤيا ،
وهي معركة فاصلة بين المسيح الأصلي حسب إعتقادهم والمسيح الدجال ( الاعور الدجال)
.
ولو تابعنا نفس الفكرة نجدها قد وصلت بشكل متأخر
للعقائد اليهودية ، فقد ذكرت بالتلمود المكتوب بين القرن الثالث الميلادي والخامس
ولم تذكر في أسفار موسى ، واستلمتها العقائد المسيحية من التلمود ومن الثقافة
المصرية التي كانت سائدة في ذلك الحين ، وهكذا وصلت بشكل متأخر أيضا لتدخل في الكتب
التي ٱلفت في القرن الثاني والثالث الهجريين .
ويعتبر نعيم بن حماد
من المحدثين الذين لايحتج برواياتهم ، فقد قال عنه الذهبي ( لا يجوز لأحد أن يحتج
به ، وقد صنف كتاب الفتن فأتى به بعجائب ومناكير .). وقال يحيى ابن معين (بأنه
يروي عن غير الثقات ) .
لقد انتقلت روايات
كتاب الفتن لنعيم بن حماد لتدخل في كتابي صحيح البخاري ( 194-- 256 ) ومسلم (206--
261 ) في مواضع قليلة ، وشاعت وانتشرت في المصادر الٱخرى ودخلت رواية واحدة في
كتاب ٱصول الكافي تحكي عن قيام الساعة ودخلت مجموعة ٱخرى في روضة الكافي ، وقد قام
الشيخ محمد بن إبراهيم النعماني ( ت 360 هـ) وهو كاتب وتلميذ محمد بن يعقوب
الكليني بالتوسع في أخذ روايات نعيم بن حماد بعد تغيير بعض أسانيدها وملأ بها كتاب
الغيبة المؤلف عام 342 هـ ، وربطها مع فكرة المهدي المنتظر ، ويعتبر كتاب الغيبة
للنعماني أهم المصادر الشيعية لروايات السفياني ، وتضمنت أسانيده أسماء مهمة
كالمفضل بن عمر الجعفي وجعفر بن محمد بن مالك الفزاري والمغيرة بن سعيد والمعلى بن
خنيس ممن ضعفهم كبار رجال الشيعة .
لم تكن روايات
السفياني شائعة في مدرسة قم ولا في أيام السفراء ولم نعثر على أي أثر لها في
توقيعات السفير الأول ولا الثاني ولا الثالث لكنها دخلت تدريجيا للفكر الشيعي ،
وكانت معروفة في المناطق التي تجاور فيها الشيعة مع المسيحيين وأصبحت مقبولة بسبب
تشيع مجموعة من العوائل المسيحية كآل زرارة بن أعين وآل مهزيار والاسكافي الذين
حملوا مسبوقاتهم الذهنية والروائية معهم ، وكان من ضمنها فكرة المسيح الدجال
المندمجة مع فكرة السفياني ، وتنتهي مجموعة أسانيد تلك الروايات بهم ، وقد ساعد
وجود الشيعة على رأس السلطة أيام الدولة البويهية والحمدانية في العراق وإيران على حصول كبار فقهاء الشيعة
على كرسي الكلام الذي ضمن لهم حرية الإدلاء بالرأي والتفرغ للعمل الديني والحصول
على راتب مضمون من الدولة فتوسعت المناقشات وتبادل الروايات فزاد الطلب عليها
للبرهنة على المسبوقات الفكرية للفقهاء ولإفحام المقابل .
وشهدت تلك الفترة
زيادة رقعة التشيع بتأثير الدولة البويهية ، ولعب علماء الشيعة الذين عاشوا في تلك
المرحلة كالصدوق والمفيد والمرتضى والطوسي دوراً رديفاً ، وٱلفت في تلك الفترة أهم
كتب الشيعة .
وكان تشيع الناس بتأثير الدولة يختلف عن تشيعهم
بتأثير الفقهاء والدعاة الدينيين لأنهم يحملون مسبوقاتهم الذهنية والعقائدية معهم
في الحالة الأولى ، ويتخلون عن معظمها في الحالة الثانية وتحل عندهم عقيدة ومذهب
محل الآخر ، وبسبب ذلك لوحظ حضور أفكار لم تكن موجودة في القرن الأول والثاني من
تاريخ الإمامة ، ويصح ذلك على كامل النظرية المهدوية والسفيانية ، فلم تكن تلك
النظرية ذات أصل قرآني ولم يعرفها العرب قبل الإسلام .
كان لنقل البخاري
ومسلم روايات السفياني عظيم الأثر في دخولها الفكر السني الذي يعتبر صحيحا البخاري
ومسلم أهم مصادر الحديث ، كما كانت اللقاءات بين فقهاء ومصنفي الشيعة والسنة في
القرنين الرابع والخامس أكثر من اللقاءات التي تحصل في وقتنا الحاضر ، فقد التقى
الشيخ الصدوق بعدد كبير منهم في أسفاره ومناظراته العديدة ، فتسربت فكرة السفياني
لرواياته ، ونلاحظ عدم وجودها في كتب الشيخ الصدوق لغاية كتابته كتاب كمال الدين
وتمام النعمة بعد عام 368 هـ ، فقد عرض الصدوق فكرة المهدي المنتظر أمام ركن
الدولة حسن بن أبي شجاع البويهي في خمس مناظرات ولم يتطرق الى فكرة السفياني .
بلغت عدد المناظرات
تلك الى قرابة المائة و لكنه لم يتطرق في جميعها إلى مبدأ ختم السفارة ولا إلى
علامات خروج القائم ولا فكرة السفياني (أنظر كتاب أمالي الصدوق ) ، علماً بأن
كثيرا ًمن الأسئلة التي واجهته كانت تدور حول ظهور المهدي وشروطه ، ولم نحصل في
تلك الفترة على أجوبة تعكس فكرة السفياني ، ويعني ذلك أنه لم يتعرف على الفكرة حتى
تاريخ كتابته كمال الدين وتمام النعمة .
كما أن هذا الكتاب
تطرق الى فكرة السفياني في موضعين فقط هما توقيع السفير الرابع (يوجد هذا التوقيع
في باب الدعاء في غيبة القائم ص 463 وليس في باب ذكر التوقيعات ) وعلامات ظهور
القائم الموجودة في آخر الكتاب ، وهذا الفصل ليس من أصل كتاب كمال الدين بل تمت إضافته
فيما بعد ، وهو منقول من كتاب أسموه السر المكتوم الى الوقت المعلوم حسب النص
الموجود في آخر فقرة من كتاب كمال الدين ، وقيل بأن السر المكتوم هو أحد كتب الشيخ
الصدوق المفقودة !!
لقد وضعوا في سند
روايات السفياني أسماء معروفة من الرواة القميين كسعد بن عبد الله القمي، وعلى بن بابوية القمى، عبد الله بن جعفر الحميري
، ومحمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد ، ولم يعرف هؤلاء السفياني ولم تتطرق رواياتهم
إليه ولم ينقل أحد عنهم تلك الروايات وهم من الرواة المكثرين ، ولو إنهم رووا هذا
الأمر فعلاً لشاع في قم خبر السفياني واليماني ولنقلته مجموعة ٱخرى .
المتابع لتطور روايات
السفياني يلاحظ أنها بدأت بعدد قليل من الروايات ثم بدأت بالتصاعد ، فقد بدأ
الكليني برواية واحدة في أصول الكافي وتصاعدت إلى خمس روايات في كتاب روضة الكافي
الذي ألفه في آخريات حياته، ورفعها النعماني إلى ما يزيد عن مائة رواية ، وهى عند
الصدوق عشر روايات ، وذكرها المفيد فى أربعة روايات، لكنها عند الطوسى نيف وثلاثين
رواية الغيبة .
ولكن الخلاف حول
الشخصية وطبيعتها، واسمها، وتاريخ وجود الرواية، وتاريخ وصولها إلى الكتب، ووجود
سفيانى صالح على غرار المهدى، وسفيانى طالح على غرار المسيخ الدجال... يجعل من كل
هذه الحكاية أو الأسطورة مثيولوجيا دينية شعبية باقتدار .
0 تعليقات