عمر حلمي الغول
صناع القرار في
العالم أينما كانوا ليسوا من طراز واحد، لان ملكاتهم الفكرية والسياسية
والكريزماتية، ومستويات ذكاءهم وفطنتهم وقدرتهم على إدارة الصراع الداخلي والخارجي
ليست واحدة. هذا التفاوت أمر طبيعي ومنطقي ومرتبط بخصال وسمات وقدرات الإنسان، وهي
ليست واحدة بين بني الإنسان. ولأنه ليس بالضرورة كل من يرتقي إلى موقع صناعة
القرار، ان يكون الأكثر كفاءة، والقدرة على الإمساك بزمام الأمور، وامتلاك الصفات،
التي تؤهله لإدارة الأزمات بتنوعها ومستوياتها. فهناك صناع قرار مبدعون، وآخرون
نصف مبدعون، وبعضهم لا يستحق الجلوس على الكرسي، لأنه إما مراهق، أو غبي وسطحي، أو
متهور وبعيد عن الحكمة، أو تابع ومنفذ لأجندات الآخرين حزبا أو حركة أو دولة
إقليمية أو قطب دولي، وبعضهم مسكون بالكرسي أكثر من مصالح الشعب والنظام السياسي،
وبعضهم مستبد ولا يقبل القسمة على الرأي الآخر، والنتيجة العلمية ومن تجارب
التاريخ القديم والوسيط والحديث تؤكد، أن الحكام ليسوا نموذجا واحدا، بل نماذج
متعددة ومتباينة.
كما أن قدرة صانع
القرار هنا أو هناك على تمثل مبدأ أو مقولة "السياسة فن الممكن" ليست
بالضرورة واحدة. لأن بعضهم لا يميز بين الممكن، وغير الممكن. ولا يدرك أهمية الزمن
واللحظة السياسية في اتخاذ القرار، وتضيع من بين أيدي العديد من الحكام الفرص دون الانتباه
لالتقاطها، مما يسبب لهم ولشعوبهم وأهدافهم الخسارة، ويعزز مواقع خصومهم وأعدائهم
والمتربصين بهم على حد سواء.
ومن المؤكد ان سياسة
فن الممكن لا تتناقض مع سياسة حافة الهاوية، لا بل تتعامد معها، وترتبط بها ارتباطا
جدليا، وإن كانت تبدو للحظة وكأنها طيران نحو المجهول، وإنزلاق إلى الهاوية. وكثيرون
ممن يعملون في حقل السياسة، ويتخندقون في خنادق الواقعية المرضية والتبسيطية يخشون
من مجرد الإقدام على سياسة حافة الهاوية، التي لا يجيدها إلا صانع بارع، وقادر على
خلط الأوراق في اللحظة المناسبة، ووضع الخصوم والأعداء في دوامة الإرباك والتشوش
والتساؤل، عما يريده هذا الحاكم من قراره المعلن في هذه المسألة أو تلك؟ وهل هو
جاد، ام مجرد مناورة وابتزاز لرفع الثمن؟
واعتقد ان إقدام
الرئيس محمود عباس على وضع القرارات الصادرة عن المجلسين الوطني والمركزي منذ
الدورة ال27 للمركزي في آذار/ مارس 2015 حتى ال19 من أيار / مايو الماضي (2020) موضع
التنفيذ، والانفكاك من كل الاتفاقات المبرمة بين منظمة التحرير ودولة الاستعمار
الإسرائيلية ومن خلفها إدارة ترامب الأميركية وصلت إلى سياسة حافة الهاوية. وهي
سياسة محفوفة بالمخاطر، ولكنها سياسة فرضتها التطورات السياسية، وجرائم الحرب
الإسرائيلية الأميركية، وانكفاء بعض العرب الرسميين عن قضيتهم المركزية، ووصول
الأمر إلى لحظة حاسمة أما التسوية السياسية المستندة لخيار حل الدولتين على حدود
الرابع من حزيران 1967، وإما إعادة الأمور إلى نقطة الصفر دون التخلي عن المنجزات،
التي تحققت خلال العقدين ونصف الماضية. لا سيما وان الشعب العربي الفلسطيني
وقيادته الشرعية مروا بتجربة كفاحية من نوع خاص، لم يعهدوها من قبل، راكمت خبرة
ومكاسب وإنجازات إضافية، بغض النظر عن أية أخطاء ونواقص شابت التجربة.
نعم فاجأ عباس أقرانه
في القيادة وأعدائه والمتربصين به، ووضعهم في دوامة الشلل السياسي، ومازال البعض
يتساءل حتى الآن، هل هذا هو رجل الواقعية السياسية؟ وهل هو جاد في الذهاب لمعركة
كسر عظم مع الإسرائيليين والترامبيين ومن والاهم من العرب والعجم؟ وإلى اين سيذهب؟
ولماذا لم يسمع الصوت المنادي بالانتظار والتريث، وعدم استعجال التنفيذ للحظة
سياسة أكثر موائمة من اللحظة الراهنة؟ فضلا عن ذلك، أثار المشككون والمتربصون
والأعداء الأقاويل والترهات من مختلف أنواع الحقد والتحريض والإساءة والإسفاف
والتجني والذم على الرجل والقرار، وصبوا جميعا في مستنقع واحد كل قاذوراتهم
وإفلاسهم العقائدي والسياسي والأخلاقي.
مازالت حملة التشويه
والإساءة والتحريض على الرجل والقرار مستمرة من الإسرائيليين والترامبيين والإخوان
المسلمين الانقلابيين وأصحاب الأقلام الصفراء، ومن الثورجيين الفارغين أصحاب
الشعارات الديماغوجية والبالية، ومع ذلك لم يتراجع عن قراره الواقعي والعلمي
والشجاع في آن، لإنه لو لم يضع القرارات موضع التنفيذ، ولم يتحلل من الاتفاقات بعد
الإعلان الرسمي عن صفقة القرن مطلع العام، ثم إعلان الاتفاق بين أركان حكومة
نتنياهو غانتس عن الضم مطلع تموز / يوليو القادم، كان يمكن حدوث ارتدادات في
الشارع الفلسطيني، وأيضا كانت قوى الأعداء مضت غير مبالية في جريمة حرب اسرلة
الأرض، وضرب ركائز عملية السلام المتفق عليها دوليا.
وردا على الأسئلة الاستنكارية،
الرئيس ابو مازن لم يغادر موقع السلام، لا بل مازال متخندقا فيه، ولكن صناعة
السلام تحتاج إلى شريك مؤمن به، ويسعى إليه، وهذا الشريك ليس موجودا في دولة الاستعمار
الإسرائيلية. ولا يوجد من يملك الشجاعة بالحد الأدنى الممكن من البوح بالاستعداد
لتبنيه ودفع استحقاقاته كاملة. الأمر الذي دفع عباس دفعا إلى حافة الهاوية، وهو
جاد، وجاد جدا فيما ذهب إليه، ولن يتراجع عنه إلآ إذا توقفت حكومة نتنياهو غانتس
وإدارة ترامب عن خطف المنطقة والشعوب والسلام والأمن إلى المجهول. وعادوا إلى جادة السلام الممكن
والمقبول على أساس خيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران 1967، وضمان حق
العودة للاجئين الفلسطينيين لديارهم وفق القرار الدولي 194، والمساواة الكاملة لأبناء
الشعب في ال48.
oalghoul@gmail.com
a.a.alrhman@gmail.com
0 تعليقات