نصر القفاص
انعقدت "محكمة الأزهر" برئاسة الشيخ "محمد أبو
الفضل" وحضور 24 شيخا يمثلون هيئة كبار العلماء.. دخل عليهم
"المتهم" بالتفكير والدراسة والعلم الشيخ "على عبد الرازق"
وألقى تحية الإسلام فلم يرد عليه أحد من الحضور المتجهمين, والذين ظهرت على وجوههم
علامات الغضب.. تحدث شيخ الأزهر بأمر "المتهم" أن يجلس على الكرسى
المواجه له.. ثم رفع الكتاب "الإسلام وأصول الحكم" وسأل
"المتهم":
- الكتاب دة كتابك؟!
- أجاب "المتهم".. نعم
- هل أنت مصمم على كل ما فيه؟!
-
أجاب "المتهم".. نعم
ألقى فضيلة الشيخ "محمد أبو الفضل" الكتاب جانبا على
المنضدة.. ثم وجه حديثه "للمتهم" وهو فى حقيقة الأمر, كان منطوق الحكم
قبل المناقشة – المحاكمة – إذ قال له: "هذا الكتاب كله ضلال وخطأ, لكنا نحن
كتبنا لك عن نقاط سبع فيه.. ولو أنه فيه غيرها كثير.. كلها ضلال أيضا.. سأقرأ لك
هذه النقاط السبع.. إنتهى من تلاوة الاتهامات ثم وجه كلامه "للمتهم"
قائلا: هل عندك ما تقوله؟!".. أجاب الشيخ "على عبد الرازق" فى هدوء
وكانت الابتسامة تغطى وجهه: |نعم عندى الكثير لأقوله.. لقد كتبت مذكرة, إذا كنتم
تسمحون لى أن أقرأها.. أما إذا أردتم المناقشة شفهيا.. فأنا مستعد للمناقشة.. لكن
هناك نقطة سابقة لكل هذا, أرجو أن تسمحوا بذكرها.. ولا تفهموا أنى أمس كرامة هذه
الهيئة.. بل غرضى الوحيد هو أن أحفظ لنفسى بحق قانونى أعتقده لى, وقد يكون من
مصلحتى أن أحتفظ به.. وهو فى الوقت نفسه لا يضركم ولا يضيع عليكم شيئا".. ثم
أضاف قائلا: "ألاحظ أن هناك محاضر تكتب فى الجلسة, لذا أريد أن أدون فى
المحضر احتجاجى على الهيئة وبعدها نتناقش إذا أردتم".. أجاب شيخ الأزهر:
"حقك أن تدون ما شئت".. نظر "المتهم" إلى كاتب الجلسة وطلب
منه أن يسجل حرفيا: "إنى أعتقد أن الهيئة الموقرة ليس لها صفة قانونية تخول
لها محاكمتى بمقتضى المادة 101 من قانون الأزهر.. وإنى لم أحضر اليوم اعترافا لها
بصفة قانونية.. إنما حضرت أمامها باعتبار أنها هيئة فيها أساتذتى ومشايخى وكثير من
علماء الأزهر الذين أعتقد أن لهم على أدبيا أن أجيب دعوتهم وأناقشهم فيما يريدون".
تكهرب الجو.. كاد الغضب أن يتفجر من وجه شيخ الأزهر.. نظر حوله
للعلماء والمشايخ.. وقال أحد الشيوخ: "هذا دفع يجب الفصل فيه"!.. وأضاف
الشيخ "محمد شاكر" الذى لعن نظام الخلافة فى مقال نشره
"الأهرام" من قبل, قائلا: "يجب ضم الفصل فى هذا الدفع إلى
الموضوع" أيد الكلام أغلبية الحاضرين.. ليطلب "شيخ الأزهر" من
"المتهم" الخروج حتى تتداول الهيئة فيما دفع.
هنا نتوقف لنضع خطوطا تحت الدفع الذى قاله الشيخ "على عبد
الرازق" لأنه نسف فكرة المحاكمة.. أعلن أنه جاء لمناقشة وحوار فكرى وعلمى
ومنهجى, ولم يحضر كمتهم أمام هيئة محكمة.. هو أراد أن يقول لأساتذته وشيوخه, أن
المجتهد فى العلم الذى يفكر ويدرس لا يجب أن تنعقد هيئة علماء لمحاكمته.. بل تدعوه
للمناقشة.. وذلك كان دافعه فى جملة اختارها بعناية "لهم على أدبيا أن أجيب
دعوتهم وأناقشهم فيما يريدون" وذلك جعل "هيئة المحكمة" وهم شيوخ
وعلماء يفهمون المعنى, ويدركون أنهم أمام عالم بمعنى الكلمة وقاض فاهم القانون
ومعناه وروحه.. ورجل ستكون مسألة إدانته شديدة الصعوبة.
بعد دقائق تم استدعاء الشيخ "على عبد الرازق" ووجه شيخ
الأزهر كلامه له قائلا:
- الهيئة قررت أنها مختصة بنظر المسألة, ورفضت الدفع الفرعى
- رد "المتهم" قائلا: أحترم هذا القرار ومع احترامى,
فأنا مصمم على ما قلته.
- وجه شيخ الأزهر الكلام له بقوله: تفضل بقراءة مذكرتك
إنطلق الشيخ "على عبد الرازق" فى القراءة بداية من مقدمة
كان قد أعدها قبل الدخول فى الرد على "الاتهامات السبع فقال: "أتشرف
برفع هذه الكلمات ردا على الملاحظات السبع فى كتابى الإسلام وأصول الحكم.. راجيا
أن أصل بها إلى التفاهم مع علماء المسلمين ومع المسلمين كافة, على ما يجلو حقيقة
مسألة بحثتها.. ولم أكن فى ذلك إلا قائما ببعض ما يجب على كل عالم من البحث
والتماس الحقائق.. وما العالمية إلا صفة توجب على صاحبها البحث والتماس الحقائق,
وهو على كل حالة مأجور إن أخطأ أو أصاب.. وإنا لنعتقد أن الوسيلة الوحيدة التى
يمكن الاعتراض بها على أى بحث علمى, إنما هى المناقشة فيه والمجادلة بالحسنى.. ولا
تبيح سماحة الدين ولا عدالة القوانين أكثر من هذا الحق" ثم رفع نظره نحو
الجميع وهو ينطق اسمه "على عبد الرازق"!!
يكفى الشيخ "على عبد الرازق" هذه المقدمة القصيرة
الشاملة, والقاطعة بأنه لا يقبل أن يحاكمه أحدا على علمه واجتهاده.. وتأكيده فى
سطورها أن هذا هو صحيح الدين الإسلامي الذى يكافىء المجتهد فى العلم والفكر سواء
أصاب أو أخطأ.. وكأنه أراد أن يقول لمشايخ الأزهر أن ما تفعلونه لا علاقة له
بالإسلام من قريب أو بعيد.. أراد أن يقول لهم أن جلستكم هذه لها دوافعها, وأنه
يعلمها.. واحترامه للدين وآدابه يفرضان عليه تقديرهم حتى لو أخطأوا ووظفوا الدين
لمآرب ومصالح سياسية وشخصية!! وكان بارعا ودقيقا بتوضيحه أنه جاء للتفاهم مع
"علماء المسلمين ومع المسلمين كافة" للتأكيد على أنه لا وصاية لشيخ أو
أستاذ على فكر مسلم مهما علا شأنه.. وزاد التأكيد بقوله: "الوسيلة الوحيدة
التى يمكن الاعتراض بها إنما هى المناقشة والمجادلة بالحسنى".
دخل الشيخ "على عبد الرازق" فى الموضوع ليرد على النقطة
الأولى فقال: "لقد أرجعنا البصر فى الكتاب, فما استطعنا أن نجد فيه مثارا
لذلك القول.. يقصد اتهامهم.. ولم نجد فى الكتاب من أوله إلى آخره كلمة
"روحية" إلا فى أثناء الكلام عن ولاية الرسول على قومه وزعامته فيهم..
لا فى سياق الكلام عن الشريعة الإسلامية ولا عن شىء يتصل بذلك الموضوع كما سيتضح
عند الكلام عن الملحوظة الرابعة.. وفى الجزء الثانى من السؤال.. وهو أن الشريعة
الإسلامية لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ فى أمور الدنيا.. والذى قررناه أن النبى
قد جاء بقواعد وآداب وشرائع عامة.. وكان فيها ما يمس إلى حد كبير أكثر مظاهر
الحياة فى الأمم.. فكان فيها بعض أنظمة للعقوبات وللجيش والجهاد وللمبيع والمداينة
والرهن ولآداب الجلوس والمشى والحديث.. إلى أخره.. وقررنا بعد ذلك أن كل ما جاء به
الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات, فإنما هى شرع دينى خالص لله تعالى
ولمصلحة البشر الدينية.. لا غير.. وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية
أو تخفى علينا.. وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا.. فذلك ما لا ينظر
الشرع السماوى إليه ولا ينظر إليه الرسول.. وبذلك نكون قد قررنا صراحة أن الشريعة
الإسلامية لم تقف عند حد معين.. غير أننا نعتقد أن تلك الشريعة إنما أنزلها الله
تعالى رعاية لمصلحة البشر الدينية وحدها.. إنما جل شأنه لم يرد بشىء من تلك
الأحكام أن يحمى للبشر أغراضهم ومصالحهم الدنيوية.. لذلك قلنا أن الأغراض الدنيوية
قد جعل الله الناس أحرارا فى تدبيرها, وأن النبى صلى الله عليه وسلم قد أنكر أن
يكون له فيها حكم أو تدبير.. فقال عليه السلام أنتم أعلم بشئون دنياكم.. والدنيا
من أولها إلى آخرها وجميع ما فيها من أغراض وغايات.. هى أهون عند الله تعالى من أن
يقيم على تدبيرها, غير ما ركب فينا من عقول وحبانا من عواطف وشهوات.. وعلمنا أسماء
ومسميات.. هى أهون عند الله تعالى من أن يبعث لها رسولا.. وأهون عند رسل الله
تعالى من أن يشغلوا بها وينصبوا لتدبيرها.. إلى آخر ما جاء فى الكتاب.. وليس فى
ذلك شىء من ترديد الحديث الشريف.. لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما متع
الكافر منها بشربة ماء.. وما يجرى ذات المجرى من أحاديث كثيرة واردة فى كتابى".
هكذا أنهى الشيخ "على عبد الرازق" رده على ما أصر على
تسميته بالنقطة الأولى.. وفى سياق كلامه قال: "بقى الجزء الثانى من
السؤال" ليؤكد على أنه جاء لمناقشة وحوار.. لم يأت متهما.. أراد للذين وضعوهم
أمامه أن يكونوا شيوخا وعلماء.. وهم تمسكوا بأن يكونوا قضاه وممثلى ادعاء وجهة
تنفيذ أحكام.. ووضح ذلك حين نظر إلى وجوههم قبل أن ينتقل إلى "النقطة
الثانية" كما أسماها.. وهى الاتهام الثانى فى رؤية شيوخ الأزهر.. وجدهم
منصرفين عن سماعه.. هم كانوا يريدون إنهاء إجراءات شكلية.. هو تمنى أن يناقشوه..
يجادلوه بما لديهم من علم وبراهين.. هو كان يبحث عن الحقيقة.. وهم منصرفين بحثا عن
لحظة إصدار حكمهم, وسماع رأى جلالة الملك فيما ذهبوا إليه تجاه هذا العالم الذى
نسف حلم الملك "أحمد فؤاد" فى أن يكون "خليفة المسلمين"!!
واستمر الشيخ فى قراءة رده على ما اعتقدها أسئلة, واعتقدوها هم عريضة اتهام..
يتبع
ملحوظة: النقاط السبع لاتهام الشيخ "على عبد الرازق" سبق أن
أوردناها فى الحلقة السابقة
0 تعليقات