نصر القفاص
صدر كتاب "الإسلام وأصول الحكم" وسط حالة جدل وصراع بين طرفين.. أحدهما يرى أن "الخلافة"
تمثل نظام الحكم الإسلامي..
والطرف الثاني يؤكد
أن "الخلافة" هى نموذج حكم أسس لنظم سياسية فاسدة..
كان هذا الجدل هامسا فى مطلع القرن العشرين, وشارك
فيه "محمد عبده" بالرأي.. ثم شاع الهمس, فظهرت أصوات رافضة لنظام "الخلافة"
خاصة بعد سقوط السلطان "عبد الحميد" عام 1909.. ولحظة أن بدا للجميع
احتمال سيطرة "مصطفى كمال أتاتورك" على مقدرات "الإمبراطورية"
التى كانت عام 1922, خرجت أصوات "شيوخ الأزهر" ليلعن بعضها الخلافة, ويعلنون
دعم "أتاتورك" ومبايعته ردا على فتوى "مصطفى صبرى توقاوى" شيخ
الإسلام فى دولة الخلافة لحظة غروب شمسها.. وكانت فتواه تقول أن "أتاتورك"
خائن وفاسق ومتمرد ويستحق إهدار دمه.. وقال بهذه الفتوى فى "القاهرة" التى
جاءها لاجئا.. خائفا.. هاربا من "أتاتورك" وكان مدهشا أن الرد عليه.. كتبه
الشيخ "محمد شاكر" وكيل الجامع الأزهر, ونشره على صفحات "الأهرام"
فى عددها الصادر يوم 5 ديسمبر عام 1922..
وكان عنوان مقاله "ما شأن الخلافة بعد التغيير" هاجم فيه السلطان "وحيد
الدين" آخر سلاطين الدولة العثمانية, وقال عنه أنه احتمى بالانجليز وهذا
إجرام وخيانة للمسلمين.. فمن يطلب الحماية الانجليزية لا يستحى من الله ورسوله ولا
من الشعب!! وطالب المسلمين أن يفكروا فى قلب هذا النظام العتيق – الخلافة – حتى
ينقذوا الإسلام والمسلمين من هذه الكوارث.. وراح يذكر المسلمين بما آل إليه أمرهم
على يد الخلفاء.. خسرنا كل عواصم الإسلام من دمشق إلى بغداد وبيت المقدس والحرمين
الشريفين.. وكاد المسلمون يخسرون "الآستانة" لولا بطولة "الكماليين"
فى إنقاذها"!! يقصد "مصطفى كمال أتاتورك" وفترة ما بعد الحرب
العالمية الأولى.. التى وضعت كل تلك العواصم تحت الانتداب!
دعك من أن الأزهر
وشيوخه كانوا شهودا على استدعاء الخديوى "توفيق" للانجليز لاحتلال مصر
وحماية عرشه.. ودعك من أن فضيلة الشيخ كان يدعو للخليفة فى الصلاة.. فقط لك أن
تتخيل مشاركة فضيلة الشيخ نفسه فى محاكمة الشيخ "على عبد الرازق" على
كتابه الذى حقق علميا ما طرحه فى مقاله فى الأهرام.. وعاد ليكتب مقالا على صفحات
جريدة "المقطم" عبر فيه عن خيبة أمله فى "الكماليين" بعد
إعلان سقوط الخلافة يوم 3 مارس عام 1924.. لأن جلالة الملك "أحمد فؤاد" عبر
عن رغبته فى أن يكون خليفة المسلمين بتزكية ودعم الانجليز!!
ويوم 6 مارس عام 1924 نشرت "الأهرام" بيانا
وقعه ستة عشر عالما من علماء الأزهر بعنوان "خلع الخليفة غير شرعى" قرروا
فيه بطلان عزل الخليفة.. وأعلن البيان حاجة المسلمين لوجود خليفة, وطالبوا بعقد
مؤتمر يقرر أمر الخلافة ويحذر المسلمين من تسرب الخلاف الذى يؤخر الإسلام ويضعفه..
وبدأت التحركات من القاهرة لعقد المؤتمر, وبسرعة صدر بيان نشره "الأهرام"
يوم 10 مارس عام 1924 بعنوان "مصر والخلافة"
وقعه علماء الأزهر حذروا فيه من الانخداع بنداءات الخونة والمارقين الذين ينادون
ببيعة الملك "حسين بن على" صنيعة الانجليز – كما وصفوه فى بيانهم – ويوم
24 مارس تم نشر خبر تشكيل لجنة الإعداد لمؤتمر الخلافة برئاسة الشيخ "يوسف
الدجوى" بعد استئذان الملك "فؤاد"!!
ويوم 25 مارس اجتمع "شيوخ
الأزهر" وقرروا الإعداد لمؤتمر تحضره الدول الإسلامية للبحث فيمن يجب أن تسند
إليه الخلافة, وتقرر عقد المؤتمر بالقاهرة خلال مارس عام 1925.. خلال فترة الإعداد
للمؤتمر ظهرت نزاعات على منصب "الخليفة" امتدت إلى "الهند"!!
فتأجل المؤتمر.. ثم ظهر كتاب الشيخ "على
عبد الرازق" وسط هذه الأجواء, لتشتعل النيران داخل القصر والأزهر والحكومة
التى كان يرأسها "أحمد زيوار باشا" ووقتها كان فى زيارة لبريطانيا.. ويقوم
بعمله "يحيى باشا إبراهيم" نائب رئيس الوزراء ووزير المالية, ورئيس حزب "الاتحاد"
الذى فبركه القصر الملكى!!
نشر الشيخ "الأحمدي
الظواهري" وهو أحد كبار شيوخ الأزهر مذكراته بعنوان "السياسة والأزهر"
أشار فيها إلى طموح الملك "فؤاد" وحاشيته من "شيوخ الأزهر" والسراي
حسب وصفه, فقال بالنص: "لم يكن التمهيد لانعقاد مؤتمر الخلافة بالقاهرة يحضره
مندوبون من جميع الأمم الإسلامية أمرا بسيطا هينا كما ظن علماء الأزهر فى بادىء
الأمر, لذلك امتد زمن الدعوة للمؤتمر من عام 1924 إلى عام 1926.. أما سبب التأخير
فيرجع إلى أنه قد دخلت نفوس بعض كبار المسلمين وأمرائهم فى الأمم الإسلامية, شكوك
جهة مصر.. فقد ظنوا أن علماء الأزهر إنما يقصدون من مؤتمر القاهرة أمرا له باطن
غير ظاهره.. وأنهم إنما يثيرون مسألة حماية الخلافة, لا خوفا على الخلافة وإشفاقا
على كلمة الإسلام كما يدعون.. بل لغرض آخر فى فؤاد أم موسى, وهو نقل الخلافة من شاطئ
البوسفور إلى شاطئ النيل.. وضم أريكة الخلافة إلى أريكة الملك فى عابدين.. لذلك
كانت إجابات الدول على الدعوة فاترة.. وانعقد المؤتمر وفشل المجتمعون فى اتخاذ
قرار"!!
صدر كتاب "الإسلام
وأصول الحكم" وسط هذه الحالة التى كان "شيوخ الأزهر" يزينون فيها
للملك منصب الخلافة ويسعون لخلعها عليه.. ورغم أن كاتبا إسلاميا فى "الهند"
اسمه "مولاى محمد بركة" أصدر كتابا بعنوان "الخلافة" نهاية
عام 1924 وتمت طباعته فى "باريس" إلا أنه تم التعتيم عليه وحظر دخوله
مصر.. لأنه تناول الموضوع وانتهى إلى أنه ليس من مصلحة العالم الإسلامي الاستجابة
إلى من يدعون إلى انتخاب أحد ملوك الدول الإسلامية ليكون خليفة للمسلمين.. فإذا
بالشيخ "على عبد الرازق" يقدم كتابه من داخل القاهرة بعدها بشهور
ليسانده عدد من علماء الأزهر بقيادة الشيخ "محمد ماضي أبو العزايم" على
استحياء!!
وفى المقابل علا صوت
الذين يهاجمون الكتاب ومؤلفه وتقدمهم الشيخ "شاكر طلب" الذى نشر مقالا
ناريا.. رد عليه "على عبد الرازق" داعيا إلى مناقشة علمية.. هنا غضب
كبار العلماء وهيئتهم ودعوا إلى محاكمة مؤلف الكتاب, وقرروا أن يكونوا هم ممثلوا
الادعاء والقضاة فى نفس الوقت.. والأدهى أنهم ضيقوا عليه حتى لا يتمكن من الدفاع
عن نفسه.. ونشرت الصحف عريضة الاتهام الموجهة للشيخ "على عبد الرازق" وتشمل
سبع نقاط أساسية هى:
- جعل الشريعة
الإسلامية شريعة روحية محضة, لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ فى أمور الدنيا.
- أن الدين لا يمنع
من أن جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان فى سبيل الملك لا فى سبيل الدين ولا
لإبلاغ الدعوة للعالمين.
- أن نظام الحكم فى
عهد النبي كان موضوع غموض وإبهام أو اضطراب أو نقص وموجبا للحيرة.
- أن مهمة النبى كانت
بلاغا للشريعة مجردا عن الحكم والتنفيذ.
- إنكار أن القضاء
وظيفة شرعية – لاحظ أن المؤلف كان قاضيا شرعيا –
-
أن حكومة أبى بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت سياسية. ولتشويه المؤلف
أعلنوا أن الكتاب اعتمد على المستشرقين فيما لا يوثق فيهم, وتجرأ بشكل عنيف فى
مصادمة عواطف الناس وتحدى مشاعرهم.. مع العلم أن هذه الاتهامات جرى فيها لى عنق
الحقيقة.. بالبحث فى المعانى التى أثارها لتصبح اتهامات.. على طريقة محاكم التفتيش!
وهنا لابد أن نتوقف
لنشير أن هؤلاء الشيوخ يخاطبون "العواطف والمشاعر" ويرفضون مخاطبة العقل,
وهو نهج سارت عليه جماعة "الإخوان" و"الجماعات المفقوسة عنها"
وصولا إلى "الحكواتية" الذين يطلقون على أنفسهم "الدعاة الجدد"..
وأبرزهم "عمرو خالد" وباقى "الحكواتية" الذين تحولوا إلى نجوم
وراحوا ينافسون الممثلين ونجوم الرياضة فيما يجنونه من ثروات وشهرة..
وتولى الشيخ "رشيد
رضا" مسئولية التحريض على الشيخ "على عبد الرازق" رغم أنه تتلمذ
على يد الشيخ "محمد عبده" وكان مقربا منه.. إلا أنه انقلب فى الاتجاه العكسي
تماما بعد رحيله لإرضاء الملك "فؤاد"..
وانضم إليه 62 من
رجال الأزهر كتبوا عريضة إلى شيخ الأزهر.. قالوا فيها: "نحن فى عهد يوالى
حضرة صاحب الجلالة الملك, الأزهر وعلماءه بما يتفق مع كرامتهم.. ويغنيهم عن الشغل
بوسائل العيش لأجل أن ينقطعوا لواجبهم العلمى الدينى.. فما هو الضرر لنا أمام
المسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها, وأمام حضرة صاحب الجلالة الملك الذى يوالى
إيقاظنا بجميع صنوف الرعاية لكل ذلك وجبت محاكمة الشيخ على عبد الرازق"..
ورغم أن "العريضة"
تم تقديمها للنظر فيها.. إلا أنها تحولت إلى قرار الاتهام متمثلا فى النقاط السبعة,
وتم إعلانه للمثول أمام هيئة كبار العلماء برئاسة "شيخ الأزهر" يوم 29
يوليو عام 1925, وتحدد يوم 5 أغسطس لانعقاد المحكمة.. وبناء على طلب الشيخ "على
عبد الرازق" تقرر تأجيل المحاكمة إلى يوم 12 أغسطس حتى يعد ردة على ما هو
منسوب إليه!!
انعقدت هيئة المحاكمة
برئاسة الشيخ "محمد أبو الفضل" شيخ الجامع الأزهر وبحضور أربعة وعشرين
من كبار العلماء.. واتجهت كافة الأنظار إلى الأزهر, وشغلت القضية مساحات كبيرة من
الصحف, وكانت حديث الساسة والمثقفين وفى الكواليس.. كان القصر ورجاله ينتظرون
توقيع أقصى عقوبة على المتهم بالتفكير والدراسة والعلم!!
وقبل أن نخوض فى
التفاصيل.. لك أن تعلم عن هذه المحاكمة أنها انتهت فى أول جلسة.. صدر حكم شيخ
الأزهر و24 من كبار العلماء ضد الشيخ "على عبد الرازق" فى اليوم نفسه.. تم
تجريده من شهادة العالمية وإخراجه من زمرة علماء الأزهر وفصله من وظيفته كقاض شرعى
بمحكمة المنصورة الابتدائية وتحريم توظيفه فى أى جهة مدنية.. ولم يصدر ضده حكما
بالإعدام شنقا أو حرقا!! وتستحق المحاكمة وما شهدته من وقائع أن نتوقف عندها..
يتبع
0 تعليقات