محمود جابر
بعد أن تكلمنا عن النجاسة الأصلية والمعنوية – المكتسبة –
وعليه فالكلام عن النجاسة والطهارة هنا لا يبرح من أن يكون كلاما مكسبا معنويا .
الثالثة: ما يدلّ على وجوب غسل ما مسَّه الكلب برطوبةٍ
ـ عن الفضل أبي العباس قال: قال أبو عبد الله ع: إذا
أصاب ثوبَك من الكلب رطوبةٌ فاغسِلْه، وإنْ مسّه جافّاً فاصبب عليه الماء، قلتُ:
لمَ صار بهذه المنزلة؟ قال: لأنّ النبيّ| أمر بقتلها.
تهذيب الأحكام 1: 261، ح46،
43، 44، 45.
ـ حمّاد، عن حريز، عمَّنْ أخبره، عن أبي عبد الله ع،
قال: سألتُه عن الكلب يصيب الثوب؟ قال: انضحه، وإنْ كان رطباً فاغسله.
المصدر السابق.
ـ عن القاسم، عن عليّ، عن أبي عبد الله ع، قال: سألتُه
عن الكلب يصيب الثوب؟ قال: انضحه، وإنْ كان رطباً فاغسله. المصدر السابق.
ـ حمّاد، عن
حريز، عن محمد بن مسلم قال: سألتُ أبا عبد الله ع عن الكلب يصيب شيئاً من الجسد؟
قال: يغسل المكان الذي أصابه. السابق.
أقول: يمكن أن ترجع الأخبار الأربعة إلى خبرٍ واحد، وهو
صحيحة الفضل أبي العبّاس، مع زيادة؛ ويمكن أن لا نرجعه. والذي يهمّنا هو أنّ صحيحة
الفضل ذات تعليل، والعلّة تعمِّم وتخصِّص، فبالنتيجة صنف من الكلب الذي أمر رسول
الله بقتله هو النجس، لا كلّ الكلاب؛ إذ إنّه لم يأمر بقتل كلب الصيد، ولا كلب
الماشية، ولا ما شابههما، بل جعل لقتل كلّ واحدٍ دية.
ويعزز ذلك ما روته العامة في صحيح البخاري عن ابن عمر
قال: "كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله، فلم يكونوا
يرشّون شيئاً من ذلك"، وهذا الحديث فى البخارى يوضح ان تلك الكلاب لم تكن
كلابا عقورا أو كلب هراش .
والنتيجة أنّ هذه الطائفة تدلّ على التفصيل بين الكلاب
في النجاسة وعدمها.
الرابعة: ما يدلّ على وجوب غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب أو شرب منه
ـ محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله ع قال: سألتُه عن الكلب
يشرب من الإناء؟ قال: اغسل الإناء.
تهذيب الأحكام 1: 225، ح27، 28، 29.
ـ حريز، عمَّنْ أخبره، عن أبي عبد الله ع قال: إذا ولغ
الكلب في الإناء فصبَّه. السابق
ـ صحيحة الفضل أبي العباس أيضاً مرَّت في ضمن الطائفة
الأولى. السابق
أقول: وجوب غسل الإناء أمرٌ لا اختلاف فيه بين المسلمين،
حتّى المالكي وأبو حنيفة القائلان بطهارة الكلب؛ إذ الأوّل يقول بوجوب غسله
تعبُّداً، والثاني يرى لعاب الكلب نجساً.
فوجوب الغسل لا يدلّ على النجاسة في رأي المالكي، ولكنْ
في رأي غيره يدلّ عليها بلا ريب.
لهذا نقول أن لعاب الكلب نجسٌ، ولكنّ هذا لا يدلّ على نجاسته الذاتيّة؛ إذ يمكن أن
يكون للعابه خصوصية، كالبول والروث، ولا سيّما عندما يخبر العلم الجديد عن
الميكروبات فيه. ولكنّ نجاسة لعابه لا تدلّ على نجاسة بدنه، ولا سيّما عندما يطهَّر
جسده بالصابون أو أنواع المطهرات، فجسد الكلب كسائر الأجسام والجمادات يصبح
نظيفاً، ولكنّ لعابه الخارج من باطنه يبقى على حاله النجسة.
والنتيجة أنّ هذه الطائفة تدلّ على سؤره و لعابه ، لا نجاسة جسده.
وعليه فإنّ طهارة السؤر تدلّ على طهارة الجسد، ولكنّ
نجاسته لا تدلّ على نجاسة الجسد.
ما دلّ على طهارة الكلب، ولو بعضاً أو احتمالاً:
إن القول بطهارة شيءٍ لا يحتاج إلى دليلٍ؛ إذ كلامه
مطابقٌ للقاعدة، ولكنّ الذي يدّعي نجاسة شيء فعليه أن يأتي بدليلٍ. فبعد النقاش في
أدلّة نجاسة الكلب ظهر أنّ لعاب بعض الكلاب أو كلّها نجسةٌ، وظهر أنّ جسد بعضها
أيضاً نجسٌ، ولكنّ نجاسة اللعاب أو الجسد منها جميعاً يحتاج إلى دليلٍ إضافيّ، ولا
يوجد.
ـ ويؤيِّد الطهارة ـ ولو في بعضها ـ قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 4)؛ إذ إمساك الصيد لا
يمكن إلاّ بالمخلب والعضّ وما شابههما، والله لم يأمر بغسله منهما، كما أمر بذكر
اسم الله، فلو كان لازماً يجب ذكره.
الإشكال: لم يأمر بغسل الدم الخارج من الحيوان أيضاً، مع
أنّه حرامٌ أكله ونجسٌ، والاصطياد ملازمٌ لخروج الدم دائماً.
الإجابة: أعلن حكم الدم في الآية السابقة عليه، وقال:
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ (المائدة: 3). وأيضاً أعلن ذلك في
مواضع أُخَر من القرآن، وأمّا بالنسبة إلى نجاسة الكلب أو فمه فلم يقُلْ شيئاً، لا
في سورة المائدة ولا في غيرها.
الإشكال: الإطلاق هنا ليس في مقام البيان من هذه
الحيثية.
لان القرآن حجّة، بل من هو أعلى الحجج على الإطلاق ، فما
دام لم يرِدْ دليلٌ قرآني أو عقلي أو نقليّ مخالف لإطلاقه فإطلاقه محكَّم، ولا
سيّما بعدما رأينا أنّ أدلّة نجاسة الكلب لم تكن تامّةً، ولا عامّةً، بل هي مجملةٌ
جدّاً.
ـ ويؤيِّد الطهارة أيضاً ما عن سعيد الأعرج قال: سألتُ أبا عبد الله ع عن الفأرة
والكلب يقع في السمن والزيت، ثم يخرج حيّاً؟ فقال: لا بأس بأكله.
فيظهر منه أنّ بدن الكلب طاهرٌ، بحيث بعد أن وقع في
الزيت وخرج حيّاً فالزيت يُؤكَل.
ـ ويؤيِّد الطهارة أيضاً صحيحة ابن مسكان، عن أبي عبد
الله ع ، قال: سألتُه عن الوضوء ممّا ولغ فيه والسنّور، أو شرب منه جمل أو دابة أو
غير ذلك، أيتوضّأ منه أو يغتسل؟ قال: نعم، إلاّ أن تجد غيره، فتنزَّهْ عنه. تهذيب الأحكام 1: 226، 32.
والوجه في اعتباره مؤيِّداً، لا دليلاً، أنّه يمكن أن
يكون الماء كثيراً كرّاً وما فوقه؛ بقرينة شرب الجمل أو الدابّة منه؛ إذ المتعارف
شربه من الغدران وما شابهه، فـ «ما» في «ممّا ولغ الكلب فيه» ليس منحصراً بالإناء
وما شابهه، بل منصرفٌ عنها.
ولكنْ في مقابل هذه المؤيِّدات صحيحة محمد بن مسلم، قال:
سألتُ أبا عبد الله ع عن الكلب السلوقي؟ قال: إذا مسَسْتَه فاغسِلْ يدك. الكافي 6: 553، ح12.
والسلوق قريةٌ باليمن أكثر كلابها كلاب صيد معلَّمة،
فينسب إليها كلّ كلب صيد مجازاً. وهذا ظاهرٌ في نجاسة كلب الصيد، وبه يُجاب عن كلّ
المؤيِّدات.
أقول: أوّلاً: ليس معلوماً أنّ المسّ وقع برطوبة؛ إذ
اليد والكلب كلاهما جافّان طبعاً، فإثبات وجود الرطوبة مشكِلٌ، وبدونها تكون
الرواية حكماً تنزيهيّاً.
ثانياً: إنّ الكلاب التي كانت مورداً لبحثنا فعلاً هي
غير كلاب الصيد السلوقي؛ إذ الكلاب التي في نشاهدها اليوم، وهي محلٌّ البحث، كلابٌ
نظيفةٌ تخضع لكل أنواع العناية البيطرية والطبية، بينما كلاب السلوق كانت معلَّمة
فقط، من دون تنظيف ورعاية أمور صحّيّة.
فمع هذا كلّه تبقى حال الشكّ بالنسبة إلى الكلاب
المربّاة اليوم على حالها.
الأصل العملي: أصالة الطهارة
الأصل الحاكم ليس استصحاباً؛ يعنى ليس كلب دون كلب، إذ ليس شكُّنا في كلبٍ كان نجساً، بل شكّنا في
دلالة الدليل على النجاسة المطلقة، وأنه هل يستفاد منه نجاسة الجميع أو لا؟
وبعبارة أخرى: هل الأدلة على تخصيص قاعدة الطهارة كانت تامّة أو لم تكن؟ أو أنّ
المخصِّص المنفصل الذي خصَّص القاعدة خصّصها بحيث أخرج كلّ الكلاب أو أخرج بعضها ـ
الواجب قتلها ـ فقط؟
ففي ما نحن فيه أيضاً المحكَّم هو قاعدة الطهارة.
فالكلاب التي نشكّ في طهارتها داخلةٌ تحت عموم قاعدة الطهارة.
إشكال: ما الفرق بين مَنْ تيقَّن بطهارة بعض الكلاب
ومَنْ شكّ في طهارتها؟
الإجابة: الذي تيقَّن أو اطمأنّ يحكم بالطهارة الواقعيّة
لذاك البعض، ولكنّ الذي يشكّ يحكم بالطهارة الظاهرية، لا الواقعيّة، ولكنْ في
العمل لا اختلاف بينهم.
وعلى أيّ حال فنحن في فسحةٍ في أن نفتي بطهارة جسد
الكلاب المعلَّمة، طبقاً للأصل أو القاعدة، ووجوب الاجتناب عن لعاب فمها.
ونختم بما نقلناه عن المالكية وقولهم بطهارة الكلب ورطوبته ما دام الكلب حياً، قال
الإمام الدردير: الأصل في الأشياء الطهارة، فجميع أجزاء الأرض وما تولد منها طاهر،
والنجاسة عارضة، فكل حي -ولو كلباً وخنزيراً - طاهر، وكذا عرقه وما عطف عليه"
انظر [حاشية الصاوي على الشرح الصغير 1/ 43].
0 تعليقات