محمود جابر
اعتذر بداية على طول هذه الحلقة ولكن لم أجد طريقا لاستيفاء الشرح إلا
عبر هذا وقد حاولت الاختصار قدر المستطاع ولكن آمل أن نصبر على القراءة حتى نصل إلى
نتائج مرجوة...
وقد انتهينا فى الحلقة الماضية واستوفينا الكلام عن اسم فرعون وامرأته وقابلتي بني إسرائيل واليوم نتحدث عن :
الملأ حول
فرعون من قوم مــــوسى :
دخل موسى ذات يوم [المدينة] فوجد رجلين يقتتلان هذا
من شيعته والآخر من عدوه ( لاحظ أن الله سبحانه لم يقل أن الآخر مصري بل اكتفى بقوله من عدوه ) فوكزه موسى فقضى عليه . وفي اليوم التالي كاد
يتكرر نفس المشهد .
هنا: {... جاء رجل من أقصى المدينة
يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك } 20القصص .
جاء الرجل ليس من [المدينة] حيث يعيش القوم بل من
أقصى ( المدينة ) حيث يعيش فرعون وملأه
وحاشيته - ويبدو أن القتيل كان من
هذا الملأ - جاء الرجل مسرعاً فقد كان
يعرف حجم المشكلة التي أصبح فيها موسى فعلى ما يبدو أن القتيل على صلة قرابة
بأفراد الملأ.
تتحدث الآية عن تآمر،
والتآمر لا يكون إلا بسبب سياسي، وليس لمجرد إنه قتل فرداً من الرعية، فهذا غير
هام، فالرعية بلا وزن خصوصاً عندما يكون القاتل قرة عين البيت الحاكم.
إن الذي يطلب رأس موسى
الآن هم :{ الملأ يأتمرون بك
ليقتلوك } 18 القصص .
ومن أفراد هذا الملأ شيوخ
الأعراب وبنى إسرائيل وقارون ابن عم موسى نفسه .
وملأ بنى إسرائيل هم
الذين كانوا يخيفون الشباب ويمنعوهم من الإيمان بموسى. انظر إلى الآية الكريمة المعجزة :{ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم } 83 يونس
آمن لموسى بعض الشباب من
قومه على خوف لا من فرعون فحسب ، بل وخوف من شيوخ بني إسرائيل أنفسهم، وهم
المعنيين بكلمة وملئهم . أي الملأ من بني إسرائيل أنفسهم وإلا فما معنى كلمة ( وملئهم ) .
كما أن عبارة " فما آمن لموسى " تؤكد أن بنى إسرائيل
كانوا جميعاً من الكافرين ، إلا ذريه من قوم موسى آمنوا على خوف من فرعون ومن شيوخ
بني إسرائيل أنفسهم الذين كانوا يقومون بالفتنة .
كان قارون وهامان على رأس
ملأ فرعون وهم أشراف القوم الذين يلتفون حول أي حاكم ويأتون له بالنصح والمشورة
وعن هذا الملأ يقول سبحانه :
{ ... وقارون وفرعون وهامان
ولقد جاءهم موسى بالبينات } 38 العنكبوت .
نحن أمام رسول أرسل لقومه
بالبينات ، الآن نتأكد أن موسى جاء بالبينات لقومه وعلى رأسهم قارون وفرعون وهامان.
كان هذا إذاً السبب
الأساسي في هروب موسى والإجابة عن سؤال طالما حيرنا :
إذا كان الشخص
الذي قتله موسى مصرياً ، فلماذا خاف وهرب ؟
أليس هو الأمير قرة العين
ربيب القصر الملكي ، أليس هو الذي قررت زوجة فرعون أن تتخذه ولداَ علة ينفعهم، وهل
كان من الممكن أن يأمر ملك الملوك بإعدامه وهو الأمير المدلل لمجرد إنه قتل فرداً
من الرعية ؟!
لن تجد إجابة على كل
علامات الاستفهام هذه إلا باعتبار أن القتيل كان على صلة قرابة بالملأ حول فرعون
وكانوا من قبيلة أخرى معادية لقبيلة بني إسرائيل داخل جحافل الهكسوس الأعراب.
مؤمن آل
فرعــــــــــــــــــــــــــــــــــون:
{ وقال رجل مؤمن من آل
فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم } 28 غافر
هذا الرجل اسمه سمعان ابن
إسحاق ... (
تفسير الألوسي) ولكن الثعلبي قال اسمه
حزقيل ابن صبورا .
وأجمعت معظم التفاسير على
إنه أبن عم فرعون .
ويقول ابن كثير : وزعم بعض الناس إنه كان
إسرائيليا .
ماذا يريدون أكثر من ذلك،
سمعان ابن إسحاق أو حزقيل ابن صبورا أسماء عبرية من صلب بنى إسرائيل يحملها رجل
إسرائيلي من قوم موسى ، وفي نفس الوقت ابن عم فرعون .
لاحظنا شيئاً يبدو هاماً... هذا الرجل عندما أراد أن
يعظ قومه حذرهم من مصير أقوام معينين من أمم ماضية ( وليس كل الأقوام ) .
{ قال الذي آمن يا قوم
إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب . مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم .....} 3. غافر .
إنه يحدثهم عن قوم نوح
وعاد وثمود وكلها أقوام من العماليق الأعراب الذي يعرف تاريخهم جيداً لأنهم أجداده
، فهو مثلاً لم يحدثهم عن قوم إدريس لأنهم مصريون ولم يحدثهم عن لقمان ذلك الحكيم
المصري ( هذا بغض النظر عن الرسل
والمنذرين لكافة أمم الأرض ومنها الصين والهند وفارس وهى أمم ذات علوم وحضارات عظيمة
) فقط يحدثهم عن قوم ( نوح) الإعراب ، وقوم ( عاد ) وكانوا عرباً يسكنون
الأحقاف، وقوم ( ثمود) وكانوا عرباً عاربة
يسكنون الحجر بين الحجاز وتبوك . والذين من بعدهم أي ( الذين أرسلوا إلى أقوامهم المحتلة لمصر ) ، فمؤمن آل فرعون يعرف ونحن أيضاً نعرف، أن
الأعراب من قوم نوح أول من أقاموا أنصاب ( أصنام ) لبشر وعبدوها، ثم جاءت عاد الأولى وكانوا أول من
عبدوا الأصنام بعد الطوفان وكانت أصنامهم ثلاثة صمدا، وصمودا ، وهرا يعرف أيضاَ
بالتفصيل ما حدث في العهد القريب وما فعله أهله وقومه من الهكسوس ومن بني إسرائيل
بيوسف (عليه السلام) الذي أرسل لا محالة في
زمن الهكسوس فهو منهم وإليهم.
إن يوسف هو الجد الثاني
لموسى، ويكون موسى بكل بساطة في نفس العهد ومرسل لنفس القوم لهذا عاتبهم الرجل
المؤمن على غبائهم بقوله :-
{ ولقد جاءكم يوسف من قبل
بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولاً ...} 34 غافر
وبسبب أواصر القربى بين
الرجل المؤمن وبين فرعون من جهة وبينهما وبين موسى وهارون من جهة أخرى ، لم يأمر
فرعون بسجنهم أو تعذيبهم فضلاً عن قتلهم ، و اكتفى فقط بالتهديد بالقول دون الفعل
بينما عذب إتباعهم دون تردد .والدليل خروجهم في جحافل لا تقل عن 6.. ألف مقاتل غير النساء والأولاد والمؤن والعتاد .
السحرة
المصريون :
دعونا نذهب بسرعة إليهم
وماذا قالوا لفرعون عندما أمر بتقطيع أيديهم وأرجلهم وصلبهم أجمعين , لقد قالوا له بحسب ماجاء
بدء من الآية 72 من سورة طه (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ
عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ
قَاض اِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إيمانا بالآخرة إِنَّا
آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ
مِنَ السِّحْرِوَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا
فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى وَمَنْ
يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ
الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى )
( قالوا لا ضير إنا إلى
ربنا منقلبون) الشعراء 50
(ربنا أفرغ علينا صبرا
وتوفنا مسلمين) الأعراف 125
إن مقالة السحرة (الحكماء ) المصريين غاية الحكمة بل
وغاية التدين, لقد نطقوا جميعا وفي نفس
الوقت بكل أسرار العقيدة و التوحيد .
من أين أتوا إذا بكل هذه
الحكمة و التدين؟
من المؤكد أنهم لم يأتوا
بها من تعاليم يوسف لأنه لم يكن مرسلا لهم. ولا من تعاليم موسى؛ لأن هذه اللحظة كانت في
بدايات المعركة بين موسى وفرعون، وكان طلب موسى الأساس هو
خروج بني إسرائيل و لم يتكلم عن الشريعة و الجنة و النار، بل إن ألواح التوراة حتى
هذه اللحظة لم تكن قد نزلت بعد وكان المصريون حسب القصة المعتادة كافرين يعبدون
فرعون وكانوا أعدى أعداء موسى .
المدهش هنا و الرائع أنهم
أتوا بأكثر مما يعرفه أتباع موسى نفسه ودليلي على ذلك أن أتباع موسى طغوا وطلبوا
رؤية الله جهرا، بل إنهم قالوا لموسى عندما حان وقت الجهاد اذهب
أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، بل إن معظمهم ارتد
للوثنية وعبد العجل بمجرد خروجهم من مصر، ولم تكن عبادتهم للعجل ظاهرة طارئة بل متغلغلة لدرجة إنهم
اشربوها في قلوبهم:
(... واشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ) البقرة 93.
أين هذه من
حكمة وتدين المصريين المفترى عليهم؟
وإذا رجعنا إلى ما قالوه، وتمعنا فيه سنكتشف مدى مدى الجريمة التي قمنا بها في حق مصر عندما سقطنا
تحت هيمنة الإسرائيليات وكفرنا أنفسنا وتراثنا الإسلامي والقرآني وحتى الروائي، و يجب ألا يخطر على البال ماقالوه كان من وحي اللحظة التي انهزموا فيها، لأن ماقيل كان قولا
جماعيا نابعا من ثقافة دينية وحضارية عامة وشاملة للشعب كله، كان أعمق من مجرد قول يرد على خاطر فرد في لحظة ضعف.
استفز موقف السحرة فرعون
مما جعله ينفجر صارخا موجها كلامه لهم وهو يشير بإصبعه إلى موسى :- (... إنه لكبيركم الذي علمكم
السحر...) طه 71
وهو هنا يشير إلى ماقلناه
إنهم تعلموا معا الحكمة و العلم، بل زاد واعتبر موسى كبيرهم الذي علمهم السحر، وكلمة السحر تعني العلوم
الغريبة العظيمة التي لا يستطيع الإتيان بها إلى الخاصة .
"ويؤكد كلامنا هذا قول
الأستاذ ديورانت صاحب موسوعة تاريخ الحضارة إن موسى ذهب إلى المدينة حواريس هواره
باعتباره كاهنا مصريا كما أفاد مانيتون المؤرخ المصري، أصبح موسى في هيئته وحكمته
وعلومه ولغته أقرب للمصريين منه لبني إسرائيل لدرجة أم بنات كاهن مديان اعتبروه
مصريا وقالوا لأبيهن بعد أن سقلا لهن الغنم
" فقلن رجل مصري
أنقذنا من أيدي الرعاة واستقى لنا ايضا وسقى الغنم" خروج 2/19
* من الملاحظات الغريبة التي تثبت عدم مصرية فرعون
هذا أنه لم يؤذِ موسى ولا هارون(لأنهما من أقاربه) ورغم ان المناظرة والتحدى كان بيه وبين موسى وليس السحرة بل أمر فقط بقتل وتعذيب
السحرة وترك غريمة !!
والسؤال :لماذا أصدر فرعون حكمه
بقتل وصلب السحرة المصريين فورا ودون تردد، ولم يفعل ذلك مع موسى أو
هارون أو حتى مع أفراد بني إسرائيل ؟
أيدل هذا على انه مصري أم
من بني إسرائيل ؟!
(لأقطعن أيديكم وارجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم في
جذوع النخل) طه 71
*لماذا لم يؤمن شعب مصر بدعوة موسى؟
هذا السؤال طالما حير
المهتمين بالشأن اليهودي .
آمن المصريون بسهولة
بالديانة المسيحية ، ودخلوا بعد ذلك أفواجا في
الإسلام عن طيب خاطر.
لماذا إذا لم يؤمنوا
بدعوة موسى (حتى بعد أن مات فرعون مع
افتراض أنه ملك مصري وكان يمنعهم) ؟؟؟!!!
ولماذا لم يؤمن به –على
الأقل –أولاد وأحفاد السحرة و أفراد الشعب الذين حضروا المناظرة وشاهدوا انتصار
موسى ؟؟؟
لو حدث هذا يومها لأصبحت
مصر الدولة اليهودية الأولى .
ولكن لماذا لم يحدث ؟!!
هل لأن موسى لم يأت
للمصريين؛ فهم على علم ودراية بكل ماقال (راجع كلام السحرة الحكماء وما يحوي من إيمان)؟!
أم أن شعب مصر لم يسمع
عنه، ولا عن رسالته، لأنه
وببساطة لم يكن مرسلا إليهم بل لبني جلدته وقومه حسب القانون الإلهي:
"أن كل رسول أرسل لقومه
خاصة "
أعتقد أن هذه هي إجابة
السؤال الذي كان يبدو قبل اليوم مستحيلا....
مصر التى لم تعرفها والقرآن الذى لم تقرأه (3)
0 تعليقات