د.حازم الرفاعي
الحديث عن تواصل
التاريخ المصري حديث سياسة وليس حديث تاريخ. وهو حديث عقيدة وطنية ضرورية ومناعة
أساسية، وليس ترفاً فكرياً. يتداول الناس أن مصر قد مرت بثلاث مراحل في تاريخها: هي
الفرعونية والقبطية والإسلامية. فهم يقولون تحدثت مصر الهيروغليفية ثم القبطية ثم
العربية. ولكن الحقيقة هي أن الأولى هي مجرد خط وليست لغة؛ وأن الثانية كانت
تطوراً لغويا شوهه الاختلاط باليونانية، فظلت أسيرة دور العبادة. والحقيقة أيضاً
أن اللغة المصرية القديمة كانت تحمل سمات اللغات السامية، من المثنى وتاء التأنيث
و(واو الجماعة) و(واو القسم)، ثم كتابة الديموطيقية من اليمين إلى اليسار، ثم
المفردات التي تظهر في لغة مصر القديمة فتنتقل منها إلى العربية.
فالعربية هي لغة
حديثة استعارت جزءاً لا يستهان به من كينونتها من مصر القديمة. فاللغة العربية
التي نتحدثها اليوم لغة حديثة إذ أنها ظهرت بعد أكثر من ألفي عام بعد استقرار
حضارة مصر القديمة، وتبلور الفلسفة المصرية في تفسير الكون. وإنه لمن الغرائب أن
يعتبر أي دارس للعلم أن هناك غرابة في أن يتساءل أحد عن العلاقة بين لغة مصر
القديمة ولغات الشرق الأدنى القديم، أو عن تأثير الناتج الفلسفي الهائل للحضارة
المصرية القديمة على كل الإرث الديني الذي تلاها أو على كل الأعمال الفلسفية التي
عزيت مثلاً للحضارة اليونانية. فآثار مصر القديمة تتناثر في بلاد الشرق كلها، من
سوريا والعراق للجزيرة العربية لشمال أفريقيا وحتى قلب أفريقيا لآلاف السنين. وليس
على المهتم إلا أن يتساءل عن إخناتون ورسائل تل العمارنة. فتلك كانت مكتوبة بخط
بلاد النهرين الأكادي متواصلة مع كنعان أو عن الهكسوس أو الحيثيين وتواجدهم في مصر
لمئات السنين، فمن هم؟ وكيف جاءوا إلى وادي النيل؟ وكيف تأثر المصريون بهم؟ وكيف
أثّر المصريون فيهم؟ ثم ولنبحث عن التداخل المصري مع ساحل الشام، حيث أنه من
المؤكد أن أقدم الآثار في الساحل الشامي واللبناني هي الآثار المصرية، بل وها هو
المفكر المصري (لويس عوض) يشير في عمله الكبير "مقدمة فقه اللغة العربية"
إلى أن كلمة لبنان التي نتداولها اليوم هي كلمة مصرية قديمة بل وقديمة جداً. أما السودان
فأن العين لا تخطئ وجود الأهرامات فيها.
والاحتكاك المصري
بالشرق قضية مفروغ منها تماماً، ولكن البحث عما هو أعمق من مجرد تواجد الآثار
والحملات العسكرية هو ما هو غائب وغير مدرك ومرفوض ومنكر لأسباب سياسية. البحث عن
تداخل (منطوق) لغة و(عقائد) قدماء المصريين والشرق قضية كبيرة جداً، وتستحق البحث
الجاد بباحثين من أبناء المنطقة وجزء من تراثها الفكري والفلسفي، بل وربما تكون هي
الطريق الوحيد لعلمانية شرقية حقة. فهل يحق لنا التساؤل هل الرموز الغريبة لآلهة
قدماء المصريين هي رموز لملائكة وليست رموزاً لآلهة مختلفة؟ هناك من أفرد كتاباً
لهذا الموضوع وهو الدكتور نديم عبد الشافي السيار في عمله الرائد (المصريون
القدماء أول الحنفاء) ففي العمل الكبير يتعقب الكاتب والباحث الرائد قناعات قدماء
المصريين عن الصلاة والصوم والحج وعن كيف وصلت أفكارهم للصابئة في العراق. بل وإن
هذا الطبيب الذي افتتن بتاريخ مصر القديمة قد أصر على العمل كطبيب في العراق في
مناطق الصابئة ثم درس اللغة القبطية والمصرية القديمة. ولقد تتبع مئات الكلمات؛
فمن الكلمات المصرية القديمة التالي من الكلمات (آه، سفر ( بمعني كتاب)، سور، قبة،
طوى، شوية (بمعني قليل)، حساب، آمن، فج، أذان، صوم، حج، آية ….الخ).
هل يحق لنا مثلاً أن
نتشكك في أن كل تلك الأسماء ذات الوقع الغريب لقدماء المصريين خطأ؟ بل هل يحق لنا
أيضاً أن نتساءل عن شامبليون وهل له أخطاء؟ هذا هو ما فعلة مصري آخر وهو أحد
مهندسي الشفرة في القوات المسلحة المصرية وهو الراحل المهندس أسامة السعداوي الذي
أقتنع أن شامبليون الوافد قد ارتكب العديد من الأخطاء. وحتى نوضح كيف فكر الرجل
ربما يجدر بنا أن نوضح الأمر بمثال حديث. فلقد سمع أٌغلبنا عن (زلزال أغادير) و(دولة
غانا). حقيقة الأمر أن الأول اسمه السليم والمعروف هو زلزال (أجادير) والثانية
اسمها المعروف حول العالم هو جانا. الأمر كله أنه منذ أعوام طويلة قرر شخص ما في
مكان ما أن حرف الجيم (ج) هو معبر فقط عن الجيم الشامية، بديلاً عن (الجيم المصرية)
... ولذلك اعتبروا أن حرف الغين (غ) هذا قد يقوم بالمهمة بدلا عن جيم القاهرة. فصارت
(جانا) غانا و(أجادير) أغادير!! وتلك هي أحد أكبر الأخطاء الشائعة في العربية على
الإطلاق... أتذكر هذا الأمر عندما أسمع عن تعقد وخلافات القراءة في اللغة المصرية
القديمة؛ فهناك من يعتقد أن لشامبليون أخطاء، وأن تلك الأخطاء أفرزت متتالية
هندسيه ضخمة من الأخطاء في أسماء المصريين القدامى وأخذتها بعيدا عن منطوقها
الأصلي.
قد يبدو غريبا أن
يتصور المرء أن مصر تحتاج إلى بلورة عقيدة وطنية، ولكن ما يدور من جدل فكري حول
القضايا المختلفة يأخذ المجتمع بشكل قاطع لهذا. فهناك حملات دائمة ضد ترابط مصر
التاريخي بمن حولها وتصور الأمر كأنما مصر قد تبنت فكراً بدوياً وافداً غريباً جاء
عبر الصحراء، وفيها أيضاً من يعلي من تاريخ مصر القديمة كبلورة نقية منفصلة تماما
عمن حولها، أو يتعامل مع اللاهوت المسيحي كأنما هو فكر وارد من وراء البحار، أو من
يريد احتكار قناعات المصريين بالرب الواحد وممارساتهم الممتدة عبر التاريخ للصلاة
والصوم في تنظيم سياسي. يدور كل هذا بينما أجيال وراء أجيال تندفع إلى مفرمة
الاهتمام بالأمر العام فيتنازعها صراع الأفكار، وهي لا تدري أن وراء الأفكار وما
يبدو كنظريات متكاملة مصالح وتاريخ. وأن أصل الأمر أن “فلسفه العلم والتاريخ” هي
استنتاجات وتقديرات لبيانات بعينها تتجاوز حدود الباحث المحدود والعالم الفقيه
لتخوم المجتمع وتيارات الحياة والسياسة.
ما نعرفه عن تاريخ مصر القديم هو نتاج المؤرخين
والمفكرين الغربيين في مرحلة الاستعمار والحداثة و كان هؤلاء في نهاية الأمر غرباء
عن الشرق فقد أفرزوا تقديرات علميه ناتجه من رؤاهم التي فصلت بين مصر ومن حولها. تستطيع
مصر أن تقهر صعاباً عدة إذا أقتنع شبابها وشاباتها بحقيقة أنهم هم أنفسهم بحق
أحفاد بناة الأهرام وراسمي المثلثات ومكتشفي الرياضيات وأن عقيدتهم وعقائد الشرق
لا تحتاج لجماعات سياسية تختطفها فلقد مارسها أجدادهم منذ آلاف السنين وأنها لم
تمنعهم من اقتحام العلوم كلها ؤأنها جزء من مكون ثقافي إنساني أزلي لم يغيب. فالمصريون
وقيمهم الفلسفية ومنطوق لغتهم متواصل بقدر ما ولقد أثّر في كل من أحاط بهم وتفاعل
معهم، فالعالم كله يحيا في ظلال مصر.
0 تعليقات