آخر الأخبار

اللعن… بين الجواز والمنع

 





 

غز الدين البغدادي

 

 

طرحت مسألة مشروعية اللعن، فهناك من جوّزها، بل وأكّد على مشروعيّتها بل ومطلوبيّتها، وهناك من منعها وحرّمها.

 

ومن جوزها استدل بآيات من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) وقال: ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ ) ، وغير ذلك.

 

كما ورد عن النبيّ (ص) أنّه قال: اللّهم من ظلم أهل المدينة وأخافهم؛ فأخفه وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

 

وهناك من فصّل، فأجاز لعن غير المعيّن كأن تقول: لعن الله الظالم أو لعن الله آكل أموال اليتامى، لكنه لا يجيز لعن المعيّن أي لعن شخص باسمه أو بصفته الخاصة به التي تدل عليه.

 

وقد تفرع عن هذا مسألة أثارها البعض في جواز لعن يزيد (لعنة الله عليه) أو عدم جوازه، وهي مسألة اختلف فيها بعضهم، وقد حصل خلاف مشهور بين اثنين من فقهاء الحنابلة هما عبد المغيث بن زهير الّذي كان يمنع من ذلك وألف كتابا في فضائل يزيد (لع)، وابن الجوزي الّذي كان يجيز ذلك، بل وشنّع على الأول وألف في الرد عليه "الرد على المتعصب العنيد في جواز لعن يزيد".

 

وكثير من أهل العلم صرّح بجواز لعن يزيد، قال الآلوسي: وعلى هذا القول لا توقف في لعن يزيد لكثرة أوصافه الخبيثة وارتكابه الكبائر في جميع أيام تكليفه.

 

وقال المناوي: وقد أطلق جمع محقّقون حلّ لعن يزيد.

 

وقال ابن الجوزي: وصنف القاضي أبو يعلى كتابا ذكر فيه بيان من يستحق اللعن وذكر منهم يزيد..

 

وقال التفتازاني: والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين, واسبشاره بذلك, وإهانته أهل بيت الرسول ممّا تواتر معناه, لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه.

 

وقال السيوطي: لعن الله قاتله وابن زياد ومعه يزيد.

 

ومن أشهر من ذهب إلى المنع من لعن يزيد أو غيره بشخصه واسمه الغزالي في كلام له معروف في كتابه "الإحياء" أثار كثيرا من الجدل لا نذكره هنا اختصارا.

 

وهو أيضا رأي ابن تيميّة الذي قال: ..... وبذلك أجبت مقدم المغول بولاى لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة، وجرت بينى وبينه وبين غيره مخاطبات. فسألني فيما سألني: ما تقولون في يزيد؟ فقلت: لا نسبُّه ولا نُحبّه؛ فإنه لم يكن رجلا صالحا فنحبه ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه، فقال: أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالما؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون كالحجاج بن يوسف وأمثاله نقول كما قال الله في القرآن: ( أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ولا نحبُّ أن نلعن أحداً بعينه، وقد لعنه قومٌ من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن ذلك القول أحب إلينا وأحسن. وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضى بذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا.

 

وبرأيي.. إن ما ذهبا إليه من عدم جواز لعن المعيّن غير صحيح، والدليل قول النبيّ (ص) قال: "لعنَ الله الراكب والقائد والسائق" قال الهيتمي: رواه البزّار رجاله ثقات.

كما روي أن عليّا (ع) قنت بلعن قوم، قال الطبري: كان عليّ إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العنْ معاوية وعمروا وأبا الأعور السلمي وحبيبا وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد، فبلغ ذلك معاويةَ فكان إذا قنت لعن عليا وابن عباس والأشتر وحسنا وحسينا.

 

بقي أمر مهم، وهو أن ما ورد من النهي عن اللعن، نحو قول النبي (ص): "المؤمن ليس بلعان"، وقوله: "إنّي لم أبعث لعانّا، وإنما بعثت رحمة".

 

وما روي عن الامام الباقر (ع): إن الله عز وجل يبغض اللعّان السباب، الطعان الفحاش المتفحش، السائل الملحف، ويحب الحيي الحليم، العفيف المتعفف.

 

فبرأيي أن النهي هنا هو عن أن يكون الشخص لعانّا، واللعّان هو كثير اللعن ( على وزن فعّال وهي من صيغ المبالغة)، أي يردد ألفاظ اللعن كثيرا، وجواز أصل الفعل لا يلزم منه جواز الإكثار منه، لا سيما إذا صار شعارا وطريقة يلتزم بها، لا سيما مع ما ورد من النهي عن كسب عداوة الناس ونحوها، ولا شك أن اللعن مُكسب للعداوة، فضلا عن كونه اقترن بالسبّ كما رأيت في الخبر.

 

إذن؛ أما جواز اللعن من حيث الدليل فواضح، لكن الأفضل ترك ذلك. ليس لأجله؛ بل لأجل أن نهذّب أنفسنا، وأيضا لكي لا نستهلك أنفسنا على طريقة نقاشات العصور الوسطى التي يريد البعض أن نعيش فيها ليظلوا هم يعيشون كما كان يعيش عيشة كهنة القرون الوسطى. أي يجب أن لا يتحوّل اللعن –كما يريد البعض- إلى ثقافة وسلوك. إنّ ترك اللعن أولى، وهو أليق بمنطق الإسلام وأخلاقه، وقد قال رسول الله (ص): إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

 

وأما القول بأن اللعن غير السبّ؛ فهو ليس دقيقا، فكلاهما من وادٍ واحد، وكلاهما يؤدي إلى اثارة البغضاء والحقد، بغضّ النظر عمن يقع عليه السب والشتم واللعن. ولهذا نهى النبي (ص) قوما من أصحابه عن سبّ أبي جهل حرمةً لولده الّذي أسلم، رغم أنه طليق أي أسلم خوفا، لكن مع ذلك قال: يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا، فلا تسبّوا أباه فإنّ سبّ الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت.

 

وهو أليق بأخلاق أهل الإسلام، لا سيما اذا تعلق الأمر برجال لهم منزلة محترمة عند طوائف المسلمين من الصحابة والتابعين، وما أعظم قول أمير المؤمنين علي (ع) حينما سمع رجلين من اصحابه يسبان أهل الشام ففال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم، اللهم احقن دماءنا ودماءهم.

 

باختصار: الممنوع ليس اللعن بدليل صدوره من النبي (ص)، لكن أن يكون الإنسان لعانا غير جائز، وثانيا: إثارة الفتنة محرمة تحريما قاطعا وتنزيه للسان هو الأنسب لأخلاق النبي (ص) وآل بيته.

إرسال تعليق

0 تعليقات