عز الدين البغدادي
رويت عدد من الروايات
عن أئمة أهل البيت تذكر بأنّ من أهمّ ما يمكن أن ينظر عند الحكم برجحان حديث ما هو
مخالفته للعامّة وجمهور أهل القبلة!!
وقد روى الصدوق عن
علي بن أسباط قال: "قلت للرضا: يحدث الأمر لا أجد بداً من معرفته، وليس في البلد
الذي أنا فيه مــن أستفتيه من مواليك؟ قال: فقال: أحْضِرْ فقيه البلد فاستفته في
أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه فإن الحق فيه" وهذه الرواية ضعيفة السند،
فيها أحمد بن محمد السياري، وهو ضعيف.
وروى عمر بن حنظلة
قال: سألت أبا عبد الله الصادق (ع)…. قال: يُنظَر، فما وافق حكمه حكم الكتاب
والسنة وخالف العامة، فيؤخذ به ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامة…..
ما خالف العامة ففيه الرشاد" وعمر بن حنظلة لم
يوثّق.
وروى ابن بابويه عن
محمد بن الحسن عن الصفّار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن رجل، عن يونس بن عبد
الرحمن، عن الحسين بن السري قال: قال أبو عبد الله: إذا ورد عليكم حديثان مختلفان
فخذوا بما خالف القوم.
وهو مرسل كما إنّ الحسين بن السري مجهول ليس له ذكر،
كما إنّ الخبر مروي في رسالة نسبت إلى القطب الراوندي، ونسبتها لم تثبت كما هو
معروف.
وروى أحمد بن إدريس عن
أبي إسحاق الإرجاني رفعه قال: قال أبو عبد الله: أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول
العامة؟ فقلت: لا ندري، فقال: إن عليّاً (ع) لم يكن يدين الله بدين إلا خالف عليه
الأمّة إلى غيره إرادةً لإبطال أمره، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عن الشيء الذي
لا يعلمونه فإذا أفتاهم جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس.
وأبو إسحاق مجهول لم
يرد له ذكر في كتب الرجال، مع إنّه الخبر مرفوع وهو في حكم المرسل.
وللأسف، فقد علّق
الحرّ العاملي على هذا تعليقا غريبا، فقال: من جملة نعماء الله على هذه الطائفة
المحقة أنه خلى بين الشيطان وبين علماء العامة، فأضلّهم في جميع المسائل النظرية
حتى يكون الأخذ بخلافهم ضابطة لنا، ونظيره ما ورد في حق النساء: "شاوروهنّ
وخالفوهنّ".
وهذا رأي قاصر وطرح
عاثر.
كما ذكر العاملي
الباب الثلاثين من أبواب أصول الفقه، من كتاب "الفصول المهمّة" وهو: باب
عدم جواز العمل بما يوافق العامة وطريقتهم، ولو من أحاديث الأئمة عليهم السلام مع
المُعارِض.
وأما من حيث المتن
فيشكل على هذه الأخبار من وجهين، هما:
الأول: لا يمكن لأحدٍ أن يقول: كلّ ما قاله فلانٌ
فخالفه، لأنّ هذا مخالف لما هو ثابت في فطرة العقل وما وردت به أخبار من "أنّ
الحكمة ضالة المؤمن" وأنّ "الرجال تعرف بالحق ولا يعرف الحقّ بالرجال".
بل لا بدّ أن ينظر
إلى القول بما هو بغضّ النظر عن قائله، فإن كان خيرا أخذ به وإلا طرح.
الثاني: لا يوجد قول واحد للعامة يقابل قولا
لأصحابنا، هذا ليس له وجود. بل كلّ مسألة -في المتعة وفي غيرها- تجد من الجمهور من
يوافقنا فيها ومن يخالفنا، وليس من مسألة في فقه الجمهور وهو ليس فقها واحدا إلا
وتجد من أصحابنا من يتّفق معه ومن يختلف معه.
نعم، هناك أمور قليلة
في الفقه من قبيل طواف النساء أو حبوة الولد الأكبر ليس لها وجود في فقه الجمهور،
وهذا وإن كان موجودا إلا أنّه أقل من قليل، وأهم من هذا أنّه ليس له علاقة بموضوع
البحث، لأنّ ما لم يقل به أحدٌ لا يمكن أن أخالف فيه العامّة!
أضَف إلى ذلك، فإنّ
هذا يؤسس لقطيعة بين أهل القبلة، وهو مخالف قطعا لما هو ثابت في الكتاب والسنّة من
لزوم الوحدة والحفاظ عليها وذمّ الفرقة، وما إلى ذلك.
وعلى كلّ، فإنّ
الأرجح عندنا ليس في طرح قاعدة "مخالفة العامّة" فحسب، بل ونرى أن
موافقة الأحاديث التي تجدها في الصحاح والمسانيد تقوي الروايات التي ترد في كتب
الرواية عن أهل البيت، ولا توهنها. وهذا هو الأمر العقلائي وهو أيضا ما يدعم مشروع
الوحدة.
لكن، لما هو معروف
فإن هناك روايات صدرت عن أئمة أهل البيت من باب التقيّة، وهذا هو المقصود هنا. وإلا
فقد روي: " إذا أنزلت بكم حادثةٌ لا تجدون حكمها فيما روى عنا؛ فانظروا إلى
ما رووه عن عليّ عليه السلام فاعملوا به"، وذلك إذا لم يكن هناك شيء من طرق
أصحابنا في هذا المسألة، وهذا لا ينسجم مع ما قيل أعلاه، لأنّه إذا كان ممكنا أن
آخذ بشيء روي عنهم دون أن أجد له ما يسنده في كتبنا، فمن باب أولى أن آخذ ما أجده
مسندا بشيء من ذلك.
وأخير أقول: بأن هذه
القاعدة وإن كانت غريبة إلا أني وجدت لها نظيرا، فقد صرح الإسفراييني الشافعي فيما
لو ورد عن الشافعي قولان لا يعلم أيهما المتأخر؛ فالقول المخالف لأبي حنيفة أرجح
من القول الموافق.
0 تعليقات