عز الدين البغدادي
الحسين مدرسة البطولة، ومدرسة العزة التي اعترف بها عدوه قبل
صديقه. فهذا ابن سعد يقول: لا يستسلم والله حسينٌ؛ إنَّ نفساً أبيةً لبينَ جنِبيه.
وحتى قال حميد بن مسلم وهو في جيش ابن زياد: فوالله، ما رأيت
مكثوراً قطّ قد قُتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً منه؛ إن
كانت الرجّالة لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه فيكشفهم عن يمينه وشماله انكشاف
المعزى إذا اشتدّ عليها الذئب.
لكنّك تجد للأسف وممن يدّعي حبّ الحسين من يعمل على ضرب هذا
المفهوم المرتكز في الذهن عند المحبّ والمبغض. هناك بالفعل محاولات لتقزيم
البطولة، فمن مظاهر التحريف المعنوي الخطيرة جدا، تلك التي صوّرت البيت النبوي
بمظهر لا ينسجم مع موقف البطولة والإباء الّذي وقفوه، وكان الهدف من ذلك أن كثيراً
من الخطباء كانوا يعملون على تهييج العواطف وإثارة حالة الحزن في نفوس المستمعين
وإن كان ذلك على حساب الثورة وأهدافِها وفلسفتها ورسالتها.
ورغم أن موقف الحسين كان من أعظم دروس الشجاعة، فقد حاول البعض أن
يسيء إلى هذا الثابت من ثوابت الموقف الحسيني بل والتاريخ، فأنت تسمع كيف أنَّ
الحسين كان يهتف بالناس ويقول الروزخون يعبّر عما جرى على لسان أبي عبدالله أنه
كان يقول:
وحق جدّي النبي عطشان..
فقد روى البعض أن الحسين كان يصرخ فيهم: ألا هل من ناصرٍ ينصرنا؟
ألا من ذابٍّ يذبُّ عن حُرم رسول الله (ص)؟
كما ذكر قوم أن الحسين طلب منهم أن لا يقتلوه وأن يتركوه أن يذهب
إلى يزيد ليتفاهم معه!!!
إنَّ هؤلاء الذين عجزوا عن تصفية الثورة اقتنعوا بأن يثيروا شبهة
هنا وأخرى هناك، وقد روى عقبة بن سمعان وقد كان شاهد عيان على
المعركة:......فوالله ما أعطاهم ما يتذاكر به الناس من أنه يضع يده في يد يزيد ولا
أنهم يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنّه قال: دعوني أرجعْ إلى المكان الذي
أقبلتُ منه أو دعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى مَ يصير إليه أمر
الناس، فلم يفعلوا.
إنّ دفع هذه الشبهات من رجلٍ كان شاهداً على المعركة يدلُّ على أنّ
هذا النوع من محاولات التحريف كانت قديمة، وأعتقد أن سببها يرجع لمحاولة بني أمية
لتغيير صورة قائد الثورة إلى شخص يتذلّل للطغاة، ويتوسل إليهم –وحاشاه-.
والغريب أن ابن نما الحلي ذكر هذه الرواية التي تذكر أنّ الحسين
سأل القوم أن يذهب إلى يزيد فيرى فيه رأيه، قال ابن نما: ثم إنّ الحسين لما علم
أنهم مقاتلوه وسأل عمر بن سعد المهادنة وترك القتال بواحدةٍ من ثلاث: أن يرجع إلى
موضعه الذي جاء منه أو يمضي إلى بعض البلاد يكون كأحدهم أو يمضي إلى يزيد فيرى فيه
رأيه.
هذا مع ما قرأت من خبر عقبة بن سمعان، مع إنّ طبيعة الأمور تأبى
مثل هذا العرض في مثل هذا الموقف، وممن؟ من الحسين!!
وقد كنت أتألّم وأنا أسمع بعض من يقلّل من شأن الحسين وهو يروي كيف
أنّ السجاد قارن بين ذبح الكبش الّذي لا يذبح حتى يعرض على الماء وبين –وأستغفر
الله- من ذلك بين الحسين الّذي ذبح دون أن يسقى ماء!!!! وذكر في ذلك بيت شعر:
لا
يُذبحُ الكبشُ ما لم يُروَ من ظمأٍ ويُذبحُ ابنُ رسولِ الله عطشَانــا
أهذا تقدير للحسين؟ أم أنّ المهمّ هو التأكيد على أسلوب البكاء وإن
أدى إلى هتك حرمة آل البيت؟!
أما المجلسي فقد روى أمراً أعجب من ذلك، فقد روى: إنَّ يزيد بن
معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج، فبعث إلى رجل من قريش فأتاه، فقال له يزيد:
أتقر لي أنك عبد لي إن شئت بعتك وإن شئت استرققتك؟ فقال له الرجل: والله يا يزيد
ما أنت بأكرم مني في قريش حسبا، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام،
وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخيرٍ مني، فكيف أقرُّ لك بما سألت!؟ فقال له
يزيد: إن لم تقرّ لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك
الحسين بن علي ابن رسول الله (ص)، فأمر به فقُتل. ثم أرسل إلى علي بن الحسين فقال
له مثل مقالته للقرشي، فقال له علي بن الحسين: أرأيت إن لم أقرّ لك، أليس تقتلني
كما قتلت الرجل بالأمس؟ فقال له يزيد لعنه الله: بلى، فقال له علي بن الحسين: قد
أقررت لك بما سألت، أنا عبد مُكرَه فإن شئت فأمسك، وإن شئت فبِعْ، فقال له يزيد
لعنه الله: أولى لك حقنت دمك، ولم ينقصك ذلك من شرفك.
أقول: كيف يمكن أن تتصوّر رجلا من عامّة قريش يقف في وجه يزيد بهذا
الموقف وهو يستشهد بموقف الحسين ثم يصدر مثل هذا الموقف كما يُزعم من علي بن
الحسين؟!! على إن العجب أنّ هذا الخبر مُشكل من حيث المتن لأنّ يزيد بن معاوية لم
يدخل المدينة قطّ وهو معروف عند أهل السٍّيَر، وإذا بالمجلسي ينبري ليدفع الإشكال
عن الخبر فيقول معترفا بإشكاله: ثم اعلم أن في هذا الخبر إشكالا وهو أن المعروف في
السير أن هذا الملعون لم يأت المدينة بعد الخلافة، بل لم يخرج من الشام حتى مات
ودخل النار، فنقول: مع عدم الاعتماد على السير لاسيّما مع معارضة الخبر، يمكن أن
يكون اشتبه على بعض الرواة، وكان في الخبر أنه جرى ذلك بينه عليه السلام وبين من
أرسله المعلون لأخذ البيعة وهو مسلم بن عقبة كما مر.
عجيب، خبر ضعيف السند غير مقبول المتن، لم تدافع عنه هكذا؟ هذا مع
ما فيه من غضّ لمكانة أهل البيت، أتعرف لماذا؟ لأنّ هذا الخبر يظهر آل البيت بمظهر
الضعف فيبكي الناس لذلك ويحزنوا، أما أنّ هذا الحديث يزرع في النفوس العجز والخور
فليس هامّاً.
كما عمل هذا الفهم على تصوير السجّاد بصورة الضعف حتى لقّب
بالعليل، وهذا وإن ورد بالفعل كوصف لحالته أثناء المعركة وهو ما منعه من الاشتراك
فيها إلا أنَّ التعامل مع هذا الوصف على أنّه لقب أمرٌ بعيد عن الواقع.
كذلك تجد تلك الصورة المنفعلة لبطلة كربلاء العقيلة زينب وبما لا
يتناسب مع شجاعتها الأسطوريّة التي أظهرتها، ويكفي أنّ القوم يتمسّكون جدّاً بلقبٍ
أحدثوه لها وهو لقب أمّ المصائب وهو مما لا يليق وليس له أصل.
ومنهم من روى عن سُكينة: لما قتل الحسين اعتنقته؛ فأغمي علي فسمعته
يقول:
شيعتي
ما إنْ شَربتُم ريَّ عذبٍ فاذكرُوني
أو
سمِعتـــــــمْ بغــــــريبٍ أو شهيــــدٍ فاندبُونـي
وهذا كذب، لم يثبت قط.
ومنهم من نسب إلى أبيّ الضيم أنّه قال يستعطف أعداءه قائلاً: أو
قال: يا قوم اسقونى شربة من الماء فقد نشفت كبدي من الظَمَاء.
وهذا كلام لا يليق بأن ينسب إلى أبيّ الضيم، حتى وإن برّر بأنّه
قيل بلسان الحال ونسب إلى الحسين!
(من كتاب "كشف الموهوم من تحريف ثورة السبط المظلوم")
0 تعليقات