نصر القفاص
يحلو للجهلة
والمنافقين اتهام "الشعب المصري الشقيق" بنقائص وأوصاف يؤكد التاريخ
عكسها تماما.. لذلك يمرح هؤلاء بأن يزعموا قدرتهم على صناعة "مستقبل وطن"
عريق وأمة تاريخها النضالى يشهد لها بأنها "صانعة حضارة" أنتجت قادة
بقيت سيرتهم ناصعة وإن تعرضت للطمس والتزوير.
أملك من صفحات
التاريخ ما يجعلنى أنحنى تقديرا واحتراما للشعب المصري العظيم.. أتوقف أمام صفحة
تحمل تفاصيل أحداث يوم الخميس الموافق 27 مارس عام 1879.. كان مجلس النواب منعقدا
بمقره فى القلعة, لمناقشة قانون الشئون المالية للبلاد – الموازنة العامة – وخافت
الحكومة والخديوى "إسماعيل" ومعهما مندوبا الاستعمار الانجليزي والفرنسي
اللذان كانا ممثلين فى الحكومة لمراقبة آدائها!!
قرر "مصطفى رياض
باشا" ناظر الداخلية – وزير الداخلية – أن يمنع نواب الشعب من تقليب أوراق
موازنة البلاد.. ذهب إلى المجلس منفوخا بما لديه من فائض سلطة.. طلب الكلمة.. وقف
ليعلن قرارا باسم الخديوي بفض الدورة البرلمانية.. اعتقد أن مهمته انتهت, وجريمته
ستمر باعتدائه على حق النواب فى مناقشة أمور بلادهم..
فوجىء بأن نائبا محترما وجريئا يقف ويسأله.. كيف
ينفض المجلس, وهو لم ينظر قانون الشئون المالية؟!
نحن هنا نمثل شعبا
وندافع عن حقوق أمة.. لا يمكن أن ينفض عمل المجلس قبل أن يكمل مناقشة جدول الأعمال..
الصدمة أخذت "رياض
باشا" من لهجة لم يعتد أن يسمعها من مواطن مصري ابن واحد من التجار الكبار.. فوجه
كلامه له.. ماذا تقول حظرتكم؟! كيف يكون فض المجلس مستحيلا بعد أن أمر خديوينا
المعظم؟! هل حظرتكم فاهم ما تقول وتقدر عواقبه؟! ثم وجه الكلام إلى أعضاء مجلس
النواب.. ما أظن حظرات إخوانك يوافقون على ما تقول!
كانت المفاجأة الأكبر
– الصدمة التالية – أن النواب صاحوا بأنهم متضامنون مع زميلهم "عبد السلام
المويلحى" ليتوتر وزير الداخلية ويقول: "انتهت الجلسة وانتهت أعمال
المجلس"..
رد عليه "المويلحى"
قائلا: "إننا سلطة الأمة.. لن نخرج من هنا إلا بقوة الحراب"!!
لم يملك "رياض باشا" ردا.. خاف أن
يتكرر ما حدث فى الثورة الفرنسية.. عاد إلى مقعده وهو يصيح: "حظراتكم تقلدون
نواب فرنسا الذين ثاروا على حكومتهم!!.. يعنى حظراتكم بعمائمكم وجببكم مثل نواب
أوروبا وأمريكا"!!
فكان الرد على
الإهانة بمثلها.. صاح النائب المحترم "أحمد العويسى" قائلا: "يا
باشا أنت الآن تشتم نواب أمتك التى تعطيك أنت وغيرك مرتباتكم الشهرية"..
وقال النائب المحترم "عبد
الشهيد بطرس": "ماسمعناه منكم هو وقاحة.. والمجلس يرفض هذه الوقاحة من
ناظر الداخلية.. بل ويردها عليه"..
وأضاف النائب المحترم
"أحمد الصوفانى": "أوافق العضو على رد الإهانة للناظر – الوزير – حتى
يعلم أن فى البلاد أمة حية, ولها نواب يدافعون عن كرامتها"..
وهنا قال النائب المحترم "عبد السلام
المويلحى": "هل سمعت يا باشا؟! هل رأيت عاقبة تسرعك فى الكلام.. اعلم أن
المسألة ليست زى وثياب.. بل هى مسألة نواب لهم عقول تفهم جيدا رغبات أمة أنابتهم
عنها.. والله عيب وأنت وزير فى حكومة يزاملك فيها وزيرين أحدهما انجليزي والثاني فرنسي..
أن تجمع أمس أصحاب الجرائد وتقول لهم أن الحكومة عزمت على فض مجلس النواب غدا.. فالحذر
كل الحذر أن تنشروا كلمة واحدة نقلا عن هؤلاء النواب فى جرائدكم بعد القرار, لأنهم
جهلاء وهمج!! تقول ذلك عن نواب بلادك مصر العزيزة.. ونحن جميعا درسنا فى الأزهر
الشريف"..
وقف النائب المحترم "حسن
عبد الرازق" وهو جد الشيخ "على عبد الرازق" بالمناسبة, ليقول:
"كل ما قاله المويلحى يعبر عن أفكارنا جميعا" ليصيح النواب.. موافقون.. موافقون..
ليجد "رياض باشا" نفسه وسط نواب أمة بمعنى الكلمة..
فلم يملك غير أن يقف ويقول: "أنا منسحب.. أنتم
عصاة.. أنتم ثوار"!!
ووقف "المويلحى"
موجها كلامه إلى كاتب الجلسة: "لا تحذف حرفا واحدا مما قيل فى جلسة اليوم, حتى
إذا نقلته الجرائد غدا.. لتعلم الأمة من هم الهمج!! النظار – الوزراء – أم النواب"؟!
ثم أعلن أن المجلس فى حالة انعقاد دائم, وتناوب
الأعضاء على المبيت فى القاعة.. اضطر الخديوى "إسماعيل" بعدها إلى طلب
الاستقالة من الحكومة التى كان يرأسها "نوبار باشا"!!
أكثر من قرن ونصف
مضيا على هذه الواقعة.. بقيت تفاصيلها فى كتب التاريخ نائمة.. اعتقد نواب "مستقبل
وطن" أنها ماتت.. كما اعتقد نواب زمن "زمن الحزب الوطني الديمقراطي"
قبلهم.. لكن التاريخ يبقى حيا وشاهدا على عظمة أمة, تطاول عليها "سليمان
وهدان" وكيل مجلس النواب الحالى بقوله: "شعب مش عاوز يفهم" خلال
مداخلة تليفزيونية!!
ويتطاول عليها "بهاء
أبو شقة" رئيس اللجنة التشريعية – كليهما من الوفد للأسف – بتهديده بتفعيل
قانون الانتخابات ضد الشعب بأن يدفع من لا يذهب لانتخاب مرشحين فرضتهم أحداث غامضة
الغرامة وقيمتها خمسمائة جنيه..
المؤسف أن "بهاء
أبو شقة" رئيس حزب "الوفد".. والمدهش أنه رجل قانون ويعلم أن
تصريحه يمثل اعتداء على اختصاصات لجنة الانتخابات صاحبة حق إعلان مثل هذه
التصريحات.. ويعلم أن تصريحه فيه تجاوز بحق السلطة التنفيذية.. ويعلم أن دوره
إقناع الأمة وليس تهديدها بالغرامة!!
لأننا دفنا الصفحات
الناصعة فى تاريخ البرلمانات المصرية.. تحول مجلسى النواب والشيوخ إلى ساحة يعبث
بها قصار القامة وسفهاؤها.. راحوا يعبثون بالقانون ويلهون بالدستور.. ينحنون أمام
الوزراء والمحافظين لمطالب شخصية.. يسخرون من الشعب لأنهم لا يمثلونه.. يقدرون من
يضعهم على كراسى البرلمان, ولا يخجلون من إعلان ذلك.. فأسماء النواب المحترمين
ومواقفهم, يطمسها هؤلاء لأنها تكشف زيفهم وتجعلهم أصفارا فى عيون الأمة!! هم
يحفظون أسماء النواب الذين "هبروا" كما كان يقول المقاتل المبدع "جلال
عامر" عليه رحمة الله.. هم يجيدون الموافقة على كل ما يضجر منه الشعب ويرفضه..
لذلك لن تجد صورة فى البرلمان للنائب "عبد السلام المويلحى" وأقرانه.. ولعل
"بهاء أبو شقة" يعلم مواقف "سعد زغلول" ونواب "الوفد"
الذين تحدوا إرادة الملك وعبثه بالدستور عام 1925.. ربما لأنه وريث وفد 4 فبراير 1942"!!"
وهؤلاء لا يحبون أن يسمعوا أسماء "ممتاز نصار" و"محمود القاضى"
لأنهم يعتبرون "أحمد عز" والذين معه هم قدوتهم.. يقدرون "محمد أبو
العينين" الذى جعلوه نائب رئيس "مستقبل وطن" وأعادوه نائبا
باعتباره من رموز "زمن الوطنى الديمقراطى" وأبرز من بايعوا "محمد
مرسى" باسم 25 ألف عامل فى شركاته يتعامل معهم على أنهم من ممتلكاته!!
بعضنا مع الارتباك
والتوتر والجهل بتاريخ أمته, يندهش عندما أعيد فتح صفحات كتب التاريخ.. وبعضنا
يعتقد أنها مادة للتسلية.. لكن هناك أجيال أثق فى أنها ستعيد الاعتبار للتاريخ
وللأمة المصرية.. سيحدث ذلك عندما نعرف حكاية "عبد المأمور" التى تستحق
أن أحكيها لكم!!
- المصدر.. مضبطة
مجلس النواب.. نشرها "جمال بدوى" فى كتاب "مصر من نافذة التاريخ"..
وقد كان رئيسا لتحرير "الوفد".. سبحان الله
0 تعليقات