عمر حلمي الغول
بيروت لم تعد بيروت، غاصت العاصمة العربية يوم الثلاثاء الماضي (4/8/2020) مع
الضحايا، ونزفت مع الجثث المتناثرة في بورها التاريخي، وانشقت الأرض ودفنت معالمها
مع هدير الزلزال الهيروشيمي، للحظة ضاعت بين الصوت وصداه، وبين الصرخة المكلومة
وأنين الضحايا، وبين أصوات سيارات الإسعاف وصراخ المنقذين ..
إختفى لوهلة صوت أهل الفساد، غام وتلاشي بين الوجع والوجع، فلم يعد وجع
بيروت المنكوبة مقصورا على الفساد، والإفلاس، والطائفية، والعنصرية، وجيوش
المرتزقة وأجندات دولة الملالي، وحسابات السلطان العثماني الجديد، والفقر والفاقة
وإنهيار القيم والأخلاق، وتسيد الوحوش الأدمية المشهد، بل جاءها وجع آخر، أكثر
وحشية وقذارة ودونية، وجع جريمة الحرب الصهيو أميركية، التي شاءت دفن التاريخ
القديم والحديث للبنان كل لبنان، وليس لعاصمة الحب والسلام والنور والمعرفة العربية
فقط.
تلاقى فوق رأس بيروت كل زناة وزنادقة الأرض، تكالبوا كل من موقعه، وبأدواته،
ومعاول هدمه لتهشيم رأس العاصمة العربية الجميلة لفنائها ودفنها حية تحت تراب
جريمة الإرهاب الدولي الصهيو اميركي، وهيأوا لها حلبة الموت بكل طقوسها الجهنمية،
أعدوا المسرح، وقصوا شعرها، وقيودوا يديها وأرجلها، ووضعوا حبل المشنقة حول
رقبتها، وسحبوا الكرسي وسط صرخات أبنائها، فهوت أرضا، لكنها لم تنكسر، رغم الجراح
والنزيف، وبقي نبض الروح قويا.
لم تمت بيروت، ولن تموت عاصمة النور والثقافة والعروبة، وقفت مشدوهة من هول
المأساة، ترنحت قليلا، لكنها تمالكت نفسها، ووقفت على قدميها تلملم جراحها، وتمسح
دموعها، وتزيل التراب والزجاج المتناثر عن ثوبها ووجهها، ومازالت تقرأ تراتيلها في
آذان المساجد وأجراس الكنائس وعناوين الصحف كل صباح، وتعزف سيمفونيات البقاء،
وتغني مع فيروز وصباح ووديع ونصري وملحم وماجدة ... وترقص مع فرقة كراكلا، لإنها
صنو الحياة والأمل. وترفض النوم على سرير الهزيمة والوجع، وتأبى إلآ ان تقوم من
وسط الركام كطائر الفينيق لتحلق مجددا في فضاء لبنان الباسم والكبير وال10452 كيلو
متر مربع.
بيروت تلبس الآن ثوب الحداد الأسود، وذرفت الدموع على ابنائها من الضحايا
والجرحى والجوعى والمشردين، بيد انها لم تستسلم لخيار الآعداء، والأبناء العاقين،
والفاسدين، واللصوص، ومغتصبي السلطة، وأمراء الحرب والطوائف، وتجار الموبقات
والدين والفتن، لذا لم تنحنِ، ولم تخجل من البكاء المر على المفقودين الأبرياء،
وكأن دموعها بمثابة تنظيف العيون من ضبابية ما فات، وفتحها على وسعها لإستشراف
المستقبل، ولغسل عار الجريمة الكارثية، والتأكيد على انها، باقية مرفوعة الرأس،
شامخة الأنفة والقامة، وفية لذاتها، ولإبنائها، وللبنان المستقبل، كل لبنان من
اقصاه لإقصاه، ولن تقبل بيروت العروبة الخروج من وحل النظام الطائفي، ومافيات
الأحزاب وحسابات الأجندات العربية والإقليمية الإسلاموية، لتسقط في مستنقع التبعية
والوصاية مجددا، لا لفرنسا ولا لإميركا ولا للناتو ولا لكائن من كان.
لبنان الصغير بخارطته ومساحته وعدد سكانه، كبير بإرادته، وشموخه وعظمته،
وكبير بثواره وثورته وطموحه، وكبير بأهدافه، وبإنتمائه العربي، وبمثقافته للثقافات
البشرية، وبسمائه المضاءة بمشاعل الحرية والإستقلال والسيادة. لبنان ككل، وعاصمته
بشكل خاص كما شكلت على مدار عقود من الزمن منارة للمشرق والمغرب العربي، ستعود عما
قريب منارة للبنانيين جميعا، وللعرب ولكل انصار السلام والمحبة والتعايش والتسامح
في العالم، ومنارة للمواطنة الواحدة الموحدة بعيدا عن نظام المحاصصة الطائفية
والحزبية.
بيروت يا عنوان ومصدر إلهام كل العواصم العربية، مازلت عنوانا لتلك
العواصم، التي إتشحت بالسواد حزنا على مآسيها، ونكباتها التراجيدية، وخوفا عليك من
المجهول، الذي ينتظرك. بيروت يا بيروت الندى والباخور وصناعة الكتاب، يا نورٌ على
نورٍ كنت وستبقين منارة للحضارة والثقافة والمعرفة، وستذوي وتغرق قوافل اللصوص في
مستنقع الموت، وسيرحل أصحاب المشاريع الجديدة خائبي الرجا، يغطيهم عار الهزيمة،
ويجللك غار الإنتصار، لأنك ابنة الحياة، وصنو الأمل والإنسان والحرية.
0 تعليقات