آخر الأخبار

"فبركة" الأحزاب.. ابتكار مصري خالص!!




 

نصر القفاص

 

 

مازلت أذكر ولعلك تتذكر معى جلسة للبرلمان الحالى.. أنعقد مجلس النواب برئاسة الدكتور "على عبد العال" للنظر فى إسقاط العضوية عن النائب "أنور عصمت السادات" وسمعنا رئيس المجلس, يوجه اتهامات واضحة للنائب بأنه يتصل بجهات أجنبية.. بل يتحالف معها ويراسلها للتشهير بالرئيس والنظام.. سمعنا وشاهدنا النواب – الأغلبية – يتبارون فى كيل الاتهامات للنائب, بما وصل إلى حد الاتهام الواضح بالخيانة العظمى.. كانت الأغلبية تصرخ فى وجه قلة من النواب الرافضين لإسقاط العضوية عن النائب.. ثم كانت "الدراما الرخيصة" التى نعيشها هذه الأيام.. فالأحزاب التى اتهمت النائب بالخيانة.. هى نفسها التى جلست معه وقررت ضمه إلى ما يسمى بالائتلاف, بتشكيل قائمة موحدة للسيطرة على "مجلس الشيوخ" الذى أرادت التعديلات الأخيرة للدستور بعثه للحياة.. وإذا بالمفاجأة الصاعقة أن حزب "أنور عصمت السادات" يحصل على "صك الوطنية" من الذين وصموه بالخيانة.. وقرروا أن يكون ابنه مرشحا ضمن ما أسموه "القائمة الوطنية من أجل مصر" وهى "مصر" نفسها التى أبعدته عن البرلمان لضبطه متلبسا بعار "الخيانة"!!

 

 

كنت صحفيا شابا وشهدت.. كما قمت بتغطية جلسات محاكمة "رشاد عثمان" متهما بالفساد والإفساد".. نشرنا قائمة الاتهامات التى لم تخل من مصيبة أو كارثة, وشملت أسرته وكل من أحاط به وتعاون معه.. ثم فوجئنا بأن حزب "مستقبل وطن" يعيد إحياء "رشاد عثمان" ويعيد الاعتبار لأسرته بترشيح ثم انتخاب ابنه "اشرف رشاد عثمان", الذى أصبح نائبا ومتنفذا داخل هذا الكيان الذى يروجون أنه حزب – وهو بالمناسبة غير أشرف رشاد الذى كان رئيسا للحزب وتم تخفيضه ليصبح نائبه - ومؤخرا فوجئنا بأن ابنا ثانيا من أبناء "رشاد عثمان" يوشك أن يصبح شيخا من شيوخ الغرفة الجديدة للبرلمان.. حدث ذلك.. ويحدث.. بعد ثورتين للشعب المصرى خلال عامين.

 

 

أعود للبرلمان الحالى وجلسة برئاسة الدكتور "على عبد العال" لإسقاط العضوية عن النائب "توفيق عكاشة" متهما بالاتصال والتواصل مع السفير الإسرائيلي.. وسمعنا عن جريمة النائب باستضافة السفير الإسرائيلي فى بيته.. وفى "مزاد التصويت" على إسقاط العضوية, بدا أن هناك ما يشبه الإجماع على أنه خائن.. والعياذ بالله.. ولعلنا مازلنا نذكر انفعال النائب "كمال أحمد" لحد محاولة ضربه بالحذاء.. وتم إسقاط العضوية.. ثم كانت "الدراما الرخيصة" بإعادته للشاشة عبر قناة "الحياة" بعد أن استحوذ عليها ما يسمى "إعلام المنظومة"!!

 

 

تابعنا قضية نائب محافظ الإسكندرية "سعاد الخولى" المتهمة فى قضية فساد, وكان معها أربعة.. أحدهم أصبح من أبرز نجوم ما يسمى بالقائمة الوطنية. التى تمت "فبركتها" لغسل سمعة حزب اسمه "مستقبل وطن" وتضم القائمة مرشحين لحزب "الحركة الوطنية" الذى أسسه الفريق "أحمد شفيق" إضافة إلى مرشحين يمثلون كيانا آخر غامض وغير مفهوم اسمه "تنسيقية الشباب" وبدأنا نتابع مساخر لا يمكن وصفها بغير "الكوميديا السوداء"!!

 

 

تلك كانت مقدمة اجتهدت لاختصارها جدا, حتى أدخل إلى الموضوع.. يلزم ذلك أن تركب "عجلة الزمن" إلى الوراء ما يقرب من مائة عام.. كان يحكم مصر – شكلا – الملك "أحمد فؤاد" بعد أن خدع الانجليز الشعب المصرى, بما نعرفه فى كتب التاريخ بتصريح 28 فبراير عام 1922.. وبموجب هذا التصريح تم إلغاء الانتداب البريطانى – شكلا – وتقرر إطلاق الديمقراطية بموجب دستور جديد صدر عام 1923, وتم اعتبار ذلك انتصار ضخم للخروج من مأزق ثورة 1919 التى سقط خلالها أكثر من أربعة آلاف شهيد!! خلال أول انتخابات برلمانية بعد صدور الدستور, سعى الانجليز والقصر الملكى والمقربين لهما إلى تحجيم "الوفد" وأنصار "سعد زغلول" عبر حكومة كان يرأسها "يحيى باشا ابراهيم" لكن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن.. فاز "الوفد" بالأغلبية الساحقة وتقلص الرهان على حزب "الأحرار الدستوريين" الذى أعد دستور 1923.. شكل "سعد زغلول" الوزارة وترأسها وكانت الأغلبية فى البرلمان تسانده.. دارت عجلة المؤامرات بسرعة, واضطر "سعد زغلول" للاستقالة بعد عشرة أشهر.. تم إعلان حل البرلمان لإجراء انتخابات جديدة.. قرر القصر الملكى عبر "حسن نشأت باشا" رئيس الديوان الملكى "فبركة" حزب جديد بدعم مباشر من "الملك فؤاد" دون إعلان ذلك.. وتم تنصيب "يحيى باشا ابراهيم" رئيس الوزراء الأسبق, والذى اشتهر فى التاريخ بأنه رئيس الوزراء ووزير الداخلية الذى سقط أمام مرشح "الوفد".. ليكون رئيسا – شكلا – للحزب.. بينما الذى يمسك بخيوط اللعبة هو "حسن نشأت" رئيس الديوان الملكى.. كان كل ما أذكره منشورا ومعروفا ومفضوحا فى صحف مصر وصحف بريطانيا.. ودارت عجلة الانتخابات البرلمانية الجديدة.. استخدمت حكومة "أحمد زيوار باشا" التى تولت الإشراف على الانتخابات, ومعه "إسماعيل صدقى" وزير الداخلية كافة الضغوط وكل المؤثرات المادية والمعنوية, لإسقاط "الوفد" وزعيمه ورجاله.. جعلوا حزب "الاتحاد" الذى "فبركوه" فى ائتلاف مع "الأحرار الدستوريين" واتفقوا على إفساح عدد من الدوائر للحزب "الوطنى المصرى".. إنتهت الانتخابات بمفاجآت مذهلة.. أعلن "الوفد" فوزه بالأغلبية.. وأعلن حزب "الاتحاد" فوزه بالأغلبية مجتمعا مع "الأحرار الدستوريين" وجاء يوم انعقاد أول جلسة.. حضر الملك وألقى خطاب العرش.. انصرف.. أجريت الانتخابات على رئاسة المجلس.. ترشح "سعد زغلول" ونافسه "عدلى يكن" وكان يرأس "الأحرار الدستوريين" وكل طرف يعلن امتلاكه للأغلبية.. ظهرت نتيجة الفرز.. نجح "سعد زغلول" بأغلبية واضحة.. سقط "عدلى يكن" لتأخذ الصدمة القصر الملكى وقصر المندوب السامى البريطانى.. وقبل أن تنعقد جلسة ثانية فى اليوم نفسه.. دخل "زيوار باشا" إلى البرلمان وطلب إلقاء بيان باسم القصر الملكى.. أعلن حل البرلمان الذى لم ينعقد!!

 

 

منذ هذا التاريخ عرفت مصر حكاية "فبركة" أحزاب على عجل للسيطرة على الحكومة.. تكررت عندما تولى "إسماعيل صدقى" عام 1930 الوزارة, وقرر أن "يفبرك" حزبا على مقاسه وبمواصفاته.. قدم حزب "الشعب" ونجح فى أن ينتزع له أغلبية وألغى دستور 1923 وأعد دستورا يناسب "مولانا" معروف تاريخيا باسم دستور 1930, الذى تم إسقاطه وإعادة دستور 1923 بعدها بخمس سنوات.. وفى زمن ثورة 23 يوليو تم إلغاء الأحزاب, واعتماد منهج الحزب الواحد.. بدأت الحكاية بـ"هيئة التحرير" التى فشلت.. إنتقلنا إلى "الاتحاد القومى" فكان مصيره الفشل.. ثم كان "الاتحاد الاشتراكى" الذى اعترف "جمال عبد الناصر" بفشله فى بيان 30 مارس عام 1968 وطالب بإصلاحه!! ولأن الرئيس "أنور السادات" كان قد عاش زمن "فبركة" الأحزاب والقفز للأمام فى الأزمات.. رفع شعار الديمقراطية والدستور.. أعادنا إلى تعدد الأحزاب وأعادها إلينا.. "فبرك" من الكواليس حزب "مصر العربى الاشتراكى" برئاسة "ممدوح سالم" الذى احترم قواعد الديمقراطية, فنجح فى الانتخابات التى أدارها عدد لا بأس به من المعارضين المحترمين.. أزعج ذلك الرئيس الذى سارع بـ"فبركة" حزب جديد بقيادته مباشرة وأسماه "الحزب الوطنى الديمقراطى" إلى أن سقط مع الرئيس "مبارك" فى مشهد غير مسبوق.. حتى ظهرت محاولات "فبركة" حزب جديد على عدة مراحل.. فكان حزب "مستقبل وطن" الذى يقدم فصولا من العبث واللهو والمسخرة.. لا سابق لها فى تاريخ مصر أو غيرها منذ عرفت الدنيا النظام الحزبى!!

 

 

أردت بهذا المرور السريع على تاريخ الأحزاب فى مصر, أن أوضح أن "فبركة" الأحزاب هى ابتكار مصرى خالص وبراءة اختراعه مسجلة باسم أنظمتنا السياسية المتعاقبة منذ ما يقرب من قرن.. وكل حزب تمت "فبركته" باع مؤسسه وقائده فى أول منعطف.. فحزب "الاتحاد" باع "حسن نشأت" و"يحيى ابراهيم" بمجرد ظهور حزب "الشعب" بقيادة "إسماعيل صدقى" الذى باعه حزبه فور مغادرته السلطة حتى أنه قال بعدها: "أكبر خطأ وقعت فيه هو اعتمادى على الفاسدين والانتهازيين فى بناء حزب الشعب"!! وحزب "مصر" باع "ممدوح سالم" كما باع "الوطنى الديمقراطى" مؤسسه "أنور السادات" ثم قائده "حسنى مبارك"!!

المهم أن تاريخ مصر يؤكد أن شعبها لا يثور لأسباب اقتصادية, حتى فى "الشدة المستنصرية" وقت أن أكل الناس القطط والكلاب.. والشعب المصرى لا يثور لأسباب سياسية طلبا للديمقراطية والحرية.. لكنه يثور دفاعا عن كرامته.. فعلها فى ثورة 1919 بسبب أن "وينجت" المندوب السامى البريطانى قال لقادة الوفد – سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى – لماذا تطلبون الاستقلال وقد كنتم عبيدا للأتراك؟! أليس أفضل لكم أن تكونوا عبيدا لإمبراطورية بريطانيا العظمى؟! ورد عليه زعماء مصر, ونشروا نص الحوار فى الصحف وأعلنوه فى مؤتمر جماهيرى.. ونص الحوار ثابت تارخيا.. كما التف الشعب حول ثورة 23 يوليو بزعامة "جمال عبد الناصر" دفاعا عن كرامته.. وكان "عبد الناصر" يدرك ذلك فرفع شعار "العزة والكرامة", وقاتل لأجله كل الذين حاربوه لأنه لم يقبل مساسا بكرامة المصريين.. وكانت انتفاضة 17 و18 يناير عام 1977 دفاعا عن كرامة شعب استهان به رئيس, بوعده أن تعيش البلاد فى رفاهية بعد حرب اكتوبر.. لكنه اختار الصلح مع الأعداء, وقرر تحميل الشعب فاتورة ما تصوره للإصلاح.. وعاد الشعب وثار يوم 25 يناير عام 2011 عندما استخف به "مبارك" ورجاله بتجويد التزوير وممارسته بفجور.. ثم ثار الشعب فى 30 يونيو 2013.. دفاعا عن كرامته التى حاول أن يدوسها "الإخوان" بجعل رئيسهم الها!!

 

 

الحقيقة الثابتة فى تاريخ مصر أن شعبها قد يقبل أن يتعايش مع أزمات اقتصادية.. قد لا يدقق فى لعبة السياسة وآلاعيب الساسة.. لكنه لا يقبل بالقطع والجزم والحسم أن تمس كرامته.. وهذه الحقيقة تفرض على ضميرى أن أدق ناقوس الخطر, لأننى كنت داعما ومؤيدا للرئيس "عبد الفتاح السيسى" ولا أنفى أننى مازلت أملك أملا كبيرا فيه.. وخوفى أن ينتحر الأمل باكتمال انتخابات ما يسمونه "مجلس الشيوخ"!!


إرسال تعليق

0 تعليقات