عز الدين البغدادي
هناك إشكالية قديمة تتهم الشيعة بقتل الحسين، وهو فهم خاطئ يدافع
عنه البعض لأسباب طائفية وبطريقة لا منهجية، والغريب أن بعض عامة الشيعة يكررون
ذلك دون فهم، والأدهى أن يقع شخص بمستوى الشيخ مرتضى المطهري في ذلك فيكرر نفس
الدعوى في ج1 ص 128 من كتابه الشهير والهام "الملحمة الحسينية".
وهناك من احتج لهذه الدعوى بما روي من أنّ الحسين لما بلغه مقتل
مسلم وهاني خطب في أصحابه فقال: أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل
وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا.
ويؤيد ذلك أنّ المشهور هو أنّ من شارك في قتل الحسين كانوا من أهل
الكوفة وأنّ من أرسل الرّسل إلى الحسين كانوا من شيعة عليٍّ في الكوفة. إلا أن هذا
فهم غير تامّ هذا لو كان صاحب الدعوى سليم القصد، أما إذا لم يكن كذلك، ثمّ أضفت
التعصّب إليه كان أبعدا عن منهج الصواب.
• ولا بدّ قبل الحكم أن ننظر في الكوفة التي كانت تتميّز بتنوّع
سكانها بين شيعيّ وخارجي وعثماني، ولم يكن كلّ سكانها شيعة. في الكوفة أيضاً أناس
يحبون أهل البيت، لكنّهم ليسوا معبئين ولا مهيّئين لذلك الموقف، ثمّ لا تغفل أنّ
القول بأنّ غالب أهل الكوفة كانوا شيعة فيه لا ينفي وجود غيرهم، فشيعيّة الكوفة
تعني أنّ الشيعة فيها أكثر من غيرهم دون أن ينفي هذا وجود غيرهم. ونحن نعرف أن كل
فرق أو معظم المسلمين (الفقهية أو العقدية ) ظهرت في الكوفة.
• ثم إنّ التشيّع مفهوم مشكّك، يصدق أو قل –بتعبير أصح- يطلق على
من كان مثل حجر وصعصعة؛ كما يطلق على من كان يرى فضل وتقدمة أهل البيت وإن لم يرفع
السيف في سبيل قضيّتهم ودفع مظلوميّتهم. فهو –أي التشيّع- مفهوم واسع مثل مفهوم
الصحابة، الّذي يضمّ المؤلفة قلوبهم ومن أسلم خوف السيف، وهو مع ذلك صحابي كما
يضمّ كبار الصحابة ومشايخهم. فحبُّ أهل البيت حبّ فطرة. وأحيانا يقف الحبّ عند هذا
الحد، وأحيانا يجاوزه إلى موقف سياسي.
مع ان التشيع لم يكن له وجود في ذلك الوقت كمذهب، بل كان رؤية
سياسية وأخلاقية، وبالتالي فما يجمع الشيعة بالمعنى المعاصر مع الشيعة بالمعنى
القديم ربما لا يتجاوز محبة آل البيت والولاء لهم وتفضيلهم.
• ثم هل يصح أن نصف من شارك في قتل الحسين بأنهم شيعة لأنه كان
يتشيّع سابقا؛ وكأن وصف التشيّع لازم لهم لصيق بهم كنسبتهم إلى عشائرهم مثلا. هل
يمكن عد شبث وشمر والأشعث وعمرو بن حريث شيعة؟ إذا كان ينبغي أن يعد عبد الرحمن بن
ملجم شيعيا لأنه كان من شيعة علي ثم صار من الخوارج.
• كما لا ننسى أنّ زياد ابن أبيه وبأمر من معاوية وإن كان لا يحتاج
إلى توصية فعل بشيعة عليِّ الأفاعيل من قتل وتشريد. وقد صرّح ابن زياد بذلك فقال:
يا هانئ أما تعلم أن أبى قدم هذا البلد فلم يترك أحدا من هذه الشيعة إلا قتله غير
أبيك وغير حجر.
وعن الحسن البصري قال: كان زياد يتّبع شيعة علي فيقتلهم.
وهذا ما يبيّن ويثبت لك بأن الكوفة تعرّضت منذ أيام معاوية وإلى
عهد ابن زياد لعمليّة تطهير للقضاء على الشيعة، وهو ما استعمل فيه أبشع الأساليب.
• أيضا، كان الشيعة في الكوفة مخترقين؛ لأن مدينتهم كانت حاضرة
الدنيا تجمع كلّ الأصناف، فهي مثل السّوق تجمع أصناف الناس وليست خالصة على اتجاه
واحد غالب عليها كما كانت دمشق أو ربّما المدينة بدرجة أقل. وأفضل مثال على ذلك ما
حصل عندما تمكن "معقل" من الوصول إلىمسلم بن عقيل، عن طريق خرق أنصاره
كما في القصل المعروفة. إنّ ما فعله ابن زياد نجح فيه هو أنّه فكّك ومزّق مجاميع
الشيعة في الكوفة، فقد كان هناك عدد كبير من الشيعة الموالين بحقّ، إلا أن تفكيك
خلاياهم جعل أي تحرّك لهم مكشوفا ومفضوحا، وما أسهل قمعه!! بحيث لن يكون إلا
انتحارا محضا.
• ومع كلّ ذلك، ومع ما حصل من قتل وتشريد، وما وقع من تقييد
وتفكيك؛ فقد كان هناك من خاصّة وخيرة شيعة عليّ من بقي على عهده، لم يتأثر ولم
يضعف، ممن دفع ابن زياد إلى أن يغلق الطرق التي يمكن أن يبلغ بها الناس إلى الحسين
أو يخلصوا له، قال أبو مخنف: إنّ حُسينا حين غُلِب على عسكره ركب المسناة يريد
الفرات، فقال رجل من بنى أبان بن دارم: ويلكم، حولوا بينه وبين الماء لا تجتمع
إليه شيعته.
وقال الذهبي: وضبط عبيد الله الجسر، فمنع من يجوزه لما بلغه أنّ
ناساً يتسلّلون إلى الحسين.
• ثمّ هناك أمر آخر لا بدّ أن يوضع تحت النظر حتى يتّضح لك الأمر
وهو أنّ الكوفة كان فيها طائفة الأشراف التي كان لها أثر كبير، والأشراف هم شيوخ
القبائل وأهل الوجاهة فيها، ومعظم هؤلاء –كما في كل وقت- ليس لهم رأي ثابت، فهُم
يمكن أن يميلوا مع أي جهة، وبالتالي فهؤلاء لا يمكن أن يعدّوا في شيعة عليّ.
وهذا ما أشار إليه الحسين حيث قال: لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة،
ولقد كتبت إلي شيعتي بها وأشراف الناس وأستخير الله. ميّز بين شيعته وبين الأشراف.
وذكر كذلك أنّ عزرة بن قيس من أشراف أهل الكوفة وكان ممن كاتب
الحسين، وقد روي أنّ عمر بن سعد بعث عزرة بن قيس إلى الحسين وقال له: ائته فسله ما
الذي جاء به؟ وماذا يريد؟ وكان عزرة ممن كتب إلى الحسين فاستحيا منه أن يأتيه،
قال: فعرض ذلك على الرؤساء الذين كاتبوه، وكلهم أبى وكرهه.
هذا ويمكن أن يكون تصرف سليمان بن صُرَدْ الذي قاد التوابين ضد ابن
زياد مما يوضح لنا هذه المسألة، حيث أدرك أنّ قتلة الحسين (رض) في الكوفة، ومع ذلك
اتجه لمقاتلة ابن زياد بدلاً من مقاتلة قتلة الحسين في الكوفة قائلاً لأصحابه: إني
نظرت فيما تذكرون فرأيت أن قتلة الحسين هم أشراف أهل الكوفة، وفرسان العرب، وهم
المطاَلبون بدمه، ومتى علموا ما تريدون وعلموا أنهم المطاَلبون كانوا أشد عليكم.
• ثم إذا كان قتلة الحسين شيعة اعتمادا على قوله: "وقد خذلنا
شيعتنا" فقد قال الحسين (ع) أيضا: ويْحَكُم، يا شيعة آل أبي سفيان، إنْ لم
يكنْ لكم دينٌ وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم، إن كنتم عَرَباً
كما تزعمُون.
بل ان ابن تيمية وصف قتلة الحسين (ع) بأنهم نواصب فقال: ... ولهم
في المكابرات وجحد المعلومات بالضرورة أعظم مما لأولئك النواصب الذين قتلوا الحسين.
وقال: .... وهم ينكرون على بعض النواصب أن الحسين لما قال لهم: أما
تعلمون أني ابن فاطمة بنت رسول الله (ص)؛ قالوا: والله ما نعلم ذلك.
ومع ذلك فإنّ من الخطأ أن ننجرف في ذلك الفهم أو تلك الدعوى التي
تفتقر إلى المنهج والتي تنظر إلى موضوع قتلة الحسين على أنّهم شيعة أم نواصب. بل
يجب أن نفهم المشكلة التي كان المجتمع يعاني منها.
لقد كانت حال الناس في ذلك الوقت وبسبب الحروب التي لم تتوقّف
والتي كانت العراق ساحتها، وبسبب ظلم بني أميّة وما فعله زياد وابنه من قتل وتنكيل
أدّى ذلك إلى تحطيم بنية النفس، تلك النفس كانت تحارب الحسين وهي تبكي عليه.
أي إنّ المرض التي كانت الكوفة تعاني منه هو شلل الإرادة، فعندما
تحبّ شيئا أو تعتقد بصوابه ثم تقف ضدّه فإن هذا يعني أنّ هناك فارقا بين التعقّل
والإرادة التي تفعل.
لقد روى سعد بن عبيدة، قال: إن أشياخاً من أهل الكوفة لوقوفٌ على
التلّ يبكون ويقولون: اللهم أنزل نصرك، قال: قلت: يا أعداء الله، ألا تنزلون
فتنصرونه!
لقد بلغ الضعف والكسل إلى حدٍّ مرعب، فهو يرى الحقّ لكنّه يفقد
إرادته التي تتحرّك نحو الموقف الّذي يؤمن به. وقد ذكر أنّه لما أتى علي بن الحسين
زين العابدين بالنسوة من كربلاء، وكان مريضا، وإذا نساء أهل الكوفة ينتدبن مشققات
الجيوب، والرجال معهن يبكون. فقال زين العابدين عليه: إنّ هؤلاء يبكون علينا! فمن
قتلنا غيرهم؟ إنّه مرض فقدان الإرادة الّذي أصيبت به الأمة. وعندما يفقد الإنسان
بصيرته وإرادته يفقد كل قدرة للتحرك ويستسلم للواقع الفاسد ويتكيّف معه. وعند ذلك
يسيطر الطاغية على إرادة الأمة ووعيها ومصيرها وحتى على ذوقها وأخلاقها ويتم مسخ
شخصيّة الأمة تماما.
إذن، القضية ليست قضية سنة وشيعة، بل قضيّة خلل اجتماعي كان في ذلك
العصر وهو موجود الآن بالفعل في عصرنا عصر الاهتمام بالمصالح الشخصيّة فقط. ليس
الهدف أن تثبت بأنّ الشيعة هم من قتلوا الحسين، فهذا طرح مبتذل، بل الهدف أن تكشف
عن مرض الأمة الّذي شلّها.
لقد بلغ الخوف والتواكل أنّ الناس صار يثبّط بعضها بعضاً عن نصرة
الحسين، حتى لقد كانت المرأة تأتى ابنها وأخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك. ويجيء
الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غدا يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرف
فيذهب به فينصرف.
وليس عجبا أن يكون هذا حال عامّة الناس ما دام الخلل قد تسرّب إلى
كبرائهم ومشايخهم. لقد ذكر أبو مخنف أنّه لما جاء كتاب يزيد إلى عبيدالله بن زياد
انتخب من أهل البصرة خمسمائة فيهم عبد الله بن الحارث بن نوفل وشريك بن الأعور
وكان شيعةً لعليّ، فكان أول من سقط بالناس شريك. بل لقد خرج شريك مع ابن زياد في 500
رجل، فكان يتأخر ويتباطأ رجاء أن يسبق الحسين (ع) ابز زياد بالوصول الى الكوفة،
وهذا أمر عجيب؛ وإلا فقد كانوا قادرين على أن يفعلوا ما هو أكثر من ذلك. بل كانوا
قادرين على قتل ابن زياد، وكيف لا؟ وكان لهم شأن في قبائلهم وكان الوقت وقتَ ضعف
لبني أميّة لم يتم لهم الأمر بعد موت معاوية أو لم يستقر بعد. مع العلم أن شريك
معروف عنه بأنه رجل شجاع وشخصية محترمة، لكنه ضعف جدا ربما بسبب قوة بطش السلطة
ورعبها لا سيما بعد قتل شخص بقوة وحضور هاني بن عروة وسحله في السوق.
لقد عمل بنو أميّة على تخدير الناس وشلّهم وتخويفهم بل وإرعابهم
رغم أنّ قلوبهم كانت مع الحسين. فهم يحبون الحسين بقلوبهم وعقولهم لا يصعب عليها
تمييز الأمر إلا أنّهم كانوا عاجزين عن أن يأخذوا عن عقولهم أو يتبعوا قلوبهم، فهم
لا يملكون من أمورهم شيئا. لكن بعد أن ثار الحسين وبعد أن سال دمه الشريف ودماء
أبناءه وإخوانه وأصحابه؛ صحت الأمة من سباتها، وليس هذا غريبا فكثيراً ما يحتاج
الإنسان إلى صدمة كبيرة حتى يصحو وحتى يعود إلى السيطرة على زمام نفسه ويكون قادرا
على استعمال إرادته، لذا فبعد مقتل الحسين بدأت الثورات ضدّ الظلم وإذا بالناس
تنقلب رأساً على عقب، فتتسلح بالعزم وتتحرر من الخوف وإذا بالحسين يتحول إلى شعار
على ألسن الثوار وهم ينادون: يا لثارات الحسين.
إنّ هذه المسالة –موضوع البحث- تبين لك خللا خطيرا في التفكير فكل
يريد أن يلقي المسؤولية على الطرف الآخر هذا يقول: الشيعة قتلوا الحسين وذاك يقول
النواصب. ولم يستطع احد أن يفهم دلالة ما حصل بسبب التعصب وغلبة التقليد، وأيضا
بسبب تخلف مناهج البحث وفهم التاريخ، ومحاولة فرض أفكار تتعلق بالعقيدة على منهج
التاريخ، وهو ما ينتج فهما سيئا ومشوّها جدا.
عموما "الملحمة الحسينية" كتاب مهم إلا أن أهم ما فيه هو
ما نقله عن النوري في كتاب الهام "اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر"
وعليه ملاحظات هذه منها.
(من كتاب "كشف الموهوم من تحريف ثورة السبط المظلوم")
0 تعليقات