آخر الأخبار

مصر والمصريون في عهد مبارك

 






 

عرض/هيثم أبوزيد

 

 

 

-الكتاب: مصر والمصريون في عهد مبارك

-المؤلف: جلال أمين

-عدد الصفحات: 260

-الناشر: دار ميريت, القاهرة

-الطبعة: الأولى/: 2009

......................................................................................

 

ربما لا يوجد كتاب يصف عهد الرئيس المصري محمد حسني مبارك بدقة وموضوعية، مستخدما عبارات رشيقة وعناوين جذابة مثل هذا الكتاب، الذي كانت نواته سلسلة من المقالات الصحفية الأسبوعية، أثارت جدلا واسعا واهتماما كبيرا في أوساط النخبة السياسية المصرية.

 

 

فعبر 13 فصلا يقدم المفكر المصري البارز الدكتور جلال أمين أستاذ الاقتصاد بالجامعة الأميركية بالقاهرة تشريحا لما آل إليه حال الدولة المصرية في عهد الرئيس مبارك متناولا عددا من الملفات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الهامة التي تمس حياة الناس مباشرة.

 

 

ويرى المؤلف أنه قد آن الأوان لأن نلقي نظرة شاملة على عهد مبارك بأكمله، فها قد مر أكثر من ربع قرن على تسلمه حكم مصر، وهي فترة طويلة بأي معيار.

 

تفاؤل لم يدم طويلا

 

في مقدمة كتابه يرى المؤلف أن المصريين شهدوا في علاقتهم بمبارك (شهر عسل) لم يدم طويلا، فقد حرص الرئيس مبارك في بداية عهده على تهدئة الأوضاع السياسية في البلاد مع مختلف طوائف المعارضة، فقد بدأ بعد أسابيع قليلة من مقتل سلفه (السادات) باتخاذ قرار بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين الكبار، بل واستقبلهم في قصره بالترحيب والإكرام.

 

وكان ذلك مصحوبا بالامتناع التام عن الأعمال التي كانت تستفز المصريين، كالظهور المستمر لقرينة الرئيس، ونشر صورها باستمرار في الصحف، حيث لقبت في عهد السادات بسيدة مصر الأولى، كذلك امتنع الرئيس الجديد عما دأب عليه السادات من استخدام عبارات جارحة في وصف معارضيه، أو تهديدهم بالسجن وأحيانا (بالفرم).

 

وفي فبراير/ شباط 1982 دعا الرئيس مبارك صفوة العقول الاقتصادية في مصر، من مختلف الاتجاهات، إلى مؤتمر لمناقشة الوضع المتردي للاقتصاد المصري، وهو حدث أشاع في نفوس الاقتصاديين المصريين الأمل في أن إصلاحا حقيقيا على وشك أن يتحقق، كما صحب كل ذلك عودة الصحف المعارضة إلى الظهور، بل وسمح للصحف الحكومية بمستوى من الحرية لم يعهد منذ قيام ثورة 1952، فشهد المصريون فترة ذهبية من حرية التعبير والنقد أشاعت تفاؤلا شديدا بما يمكن أن تصبح عليه الحياة السياسية في مصر.

لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلا، وبرأي المؤلف بدأت السماء تتلبد بالغيوم قبل انقضاء سنة واحدة على اعتلاء الرئيس مبارك كرسي الرئاسة، وبدأ اليأس يتسرب إلى النفوس شيئا فشيئا من أن يحدث أي إصلاح حقيقي في السياسة أو الاقتصاد.

 

نظرية الدولة الرخوة

في الفصل الأول من الكتاب ينظر المؤلف إلى الأوضاع في مصر من خلال نظرية عالم الاقتصاد السويدي الشهير جنار ميردال عن الدولة الرخوة، تلك الدولة التي يعدها ميردال سر البلاء الأعظم، وسببا رئيسا من أسباب استمرار الفقر والتخلف.

 

فهي دولة تصدر القوانين ولا تطبقها، ليس فقط لما فيها من ثغرات، ولكن لأنه لا يوجد في الدولة الرخوة من يحترم القانون، الكبار لا يبالون به لأن لديهم من المال والسلطة ما يحميهم منه، والصغار يتلقون الرشى لغض البصر عنه، وفي هذه الدولة تباع الرخص والتصاريح، ويعم الفساد، فرخاوة الدولة تشجع على الفساد، وانتشار الفساد يزيدها رخاوة.

 

ويضيف المؤلف: عندما قرأنا ما كتبه الأستاذ ميردال في نهاية الستينيات عن الدولة الرخوة، لم يطرأ ببالنا قط أن كلامه يمكن أن ينطبق على مصر، فقد كانت مصر في ذلك الوقت أبعد ما تكون عن وصف الدولة الرخوة، ثم جاء عهد الرئيس مبارك، وكان كل يوم يمر منه يأتينا بدليل جديد على رخاوة الدولة المصرية.

 

"عندما وقعت الهزة الأرضية عام 1992 كادت الدولة المصرية -من فرط رخاوتها-أن تسقط متهالكة على الأرض, ففي لحظات معدودة انكشف للجميع نسبة الأبنية المخالفة للقانون ولم يعاقب عليها أحد، والأدوار المحكوم عليها بالإزالة ولم يزلها أحد ".

 

ويسوق المؤلف حشدا من الأمثلة الدالة، فبعد عام واحد من حكم مبارك قامت إسرائيل باعتداءات صبرا وشاتيلا، فوقفت الدولة المصرية منها موقف المتفرج، ثم جاء حادث خطف الطائرة المصرية عام 1986 فلم يصدر من الدولة المصرية رد الفعل الملائم، ثم انهار مصرف النوبارية بزاوية عبد القادر ولم يعاقب الوزير المختص، ثم غرقت الباخرة سالم إكسبريس فأبدت الدولة تراخيا مدهشا في إنقاذ الركاب من الغرق، ثم انتشرت فضائح مذهلة عن وزارة البترول، وانتهت بخروج الوزير دون أن يقدم للمحاكمة، ثم أثيرت فضائح شركات توظيف الأموال، فتمكن أغلبية المحتالين من مؤسسيها من الهرب خارج البلاد سالمين.

 

ومن أهم الأمثلة التي يسوقها المؤلف تلك الحالة التي بدت عليها الدولة عندما تعرضت مصر لهزة أرضية عام 1992 لم تستمر أكثر من أربعين ثانية، فإذا بالدولة المصرية كلها -من فرط رخاوتها- تكاد تسقط متهالكة على الأرض. ففي لحظات معدودة انكشف للجميع نسبة الأبنية المخالفة للقانون ولم يعاقب عليها أحد، والأدوار المحكوم عليها بالإزالة ولم يزلها أحد، والآثار الواجبة الترميم ولم ترمم، والمدارس التي تجاوزت عمرها الافتراضي ومع ذلك سمح للتلاميذ بدخولها.

 

رجال الرئيس ورجال أسلافه

وفيما يعد إشارة واضحة لسبب رئيس من أسباب (موت السياسة) في مصر يلحظ المؤلف فرقا هاما ونوعيا في الرجال المحيطين بالرئيس مبارك عن أقرانهم ممن عمل مع الرئيسين جمال عبد الناصر وأنور السادات، فيرى أن رجال الأخيرين تميزوا بأنهم كانوا دائما من السياسيين، وكانت السياسة تجري في عروقهم وتشغل تفكيرهم وتتحكم في تصرفاتهم، وكان كثيرون ممن تولوا الوزارة في كلا العهدين يشاركون الرئيس حماسه للمشروع الذي يقوم بتطبيقه، أو كان لهم على الأقل القدرة على تصور وظيفة الوزير على أنها وظيفة سياسية.

 

ثم تغير هذا الأمر بالتدريج في عهد مبارك حتى اعتدنا أن يأتي رئيس للوزراء لم تعرف عنه قط اهتمامات سياسية قبل اعتلاء منصبه، ومن ثم لم يكن هناك مجال للتنبؤ بما يمكن أن تكون عليه سياساتهم بعد تولي المنصب، ثم تبين بالتدريج أنه لا حاجة لأحد بهذا التنبؤ، إذ لم تكن هناك أي سياسة على الإطلاق.

 

لكن المؤلف لا يكتفي برصد هذه الظاهرة، بل يحاول أن يقدم لها تفسيرا لا يبعد به كثيرا عن طبيعة الحكم الحالي في مصر، فالرئيس مبارك كان قد صرح في بداية عهده بأنه ليس من أنصار سياسة "الصدمات الكهربائية" وكان يشير -بلا شك- إلى سياسة سلفيه السادات وعبد الناصر.

 

فهو لا يغلق الاقتصاد ولا يفتحه، ولا يحارب إسرائيل ولا يوقع اتفاقيات جديدة معها، وبالفعل كانت هذه سمة عهد الرئيس مبارك كله، وكان هذا العهد محتاجا إلى نوع ثالث من الرجال لتنفيذ المطلوب، يشتركون مع من عمل في العهدين السابقين في ولائهم التام للنظام، ولكن لهم خصيصة أخرى، تتمثل في عدم الاهتمام بالسياسة أو الشأن العام، كما أن لهم من الصفات الشخصية ما يجعل جلوسهم في هذه المناصب لا يسبب أي متاعب لراسمي السياسة الحقيقيين في الداخل والخارج.

 

فقر مدقع وثراء فاحش

ويخصص المؤلف فصلا كاملا من كتابه لرصد ما يعانيه الفقراء في مصر، وهم يشكلون النسبة الكبرى من عدد السكان، فطيلة السنوات العشرين الأخيرة كانت قدرة الفقراء على إشباع حاجاتهم الأساسية (من مأكل وملبس وتعليم وصحة ومواصلات) آخذة في التدهور، وفي الوقت نفسه كانت الثروات التي تكونت في السنوات الأولى من عمر الانفتاح قد بدأت تلفت الأنظار، وشاعت بين الجماهير قصص كثيرة عما حققه تجار العملة، أو المقاولون، أو مؤجرو الشقق المفروشة من ثراء.

 

ورأى الناس ازدياد عدد حفلات الأفراح التي تقام في الفنادق الكبيرة ببذخ شديد لمجرد إثبات النجاح الباهر الذي حققه هؤلاء التجار والمقاولون في تكوين الثروات الطائلة.

 

"أهم مظاهر الفحش في سنوات حكم الرئيس مبارك يتمثل في مصدر الثراء نفسه, فلم تعد أعمال الوساطة تمثل المصدر الرئيس للثراء كما كان الحال بداية الانفتاح، بل أصبح الاستيلاء على أموال الدولة هو أهم مصادر الثراء في مصر".

 

ويرى المؤلف أن الثراء المفاجئ الذي حققه البعض في السنوات الأولى من الانفتاح لم يثر لدى الفقراء من الإحباط ما أثاره الإثراء الذي حدث في السنوات العشرين الأخيرة.

 

فالثراء السابق كان مقترنا بقدرة كثير من المصريين على الهجرة، ومن لم يهاجر كان يعيش عصر زيادة عامة في الدخول يقترن بإنفاق سخي من جانب الدولة، وارتفاع كبير في أجور الحرفيين بسبب الهجرة نفسها.

 

ويضيف: كان ثراء السنوات الأولى من الانفتاح يثير من الضحك والسخرية أكثر مما يثير من الإحباط واليأس. لم يعد الأمر كذلك في العشرين سنة الماضية، فالأغنياء يزدادون ثراء، والثراء يزداد فحشا، بينما أغلقت كل الأبواب أمام الفقراء من المتعلمين وغير المتعلمين على السواء.

 

كان أهم مظهر من مظاهر الفحش التي يرصدها المؤلف للثراء في سنوات حكم الرئيس مبارك يتمثل في مصدر هذا الثراء، فلم تعد أعمال الوساطة (كالتجارة والمقاولة والسمسرة) تمثل المصدر الرئيس للإثراء كما كان الحال بداية الانفتاح، بل أصبح الاستيلاء على أموال الدولة هو أهم مصادر الإثراء في مصر.

 

ففي ظل معدلات نمو منخفضة للغاية، وتدهور مستويات الإنفاق من الحكومة ومن الشعب على السواء، لا يكاد يبقى من فرص الإثراء إلا نهب الأصول الموجود بالفعل، وأسهل هذه الأصول نهبا في ظل دولة رخوة هي ممتلكات الدولة بالطبع، سواء تمثلت في أراض مملوكة للدولة وتعرضت للبيع، أو أموال مودعة في بنوك الدولة معروضة للإقراض، أو ممتلكات شركات عامة تعرض للخصخصة.

 

لم يتوقف الإثراء بلا سبب طيلة السنوات العشرين الماضية، ورأى فقراء المصريين ذلك بأعينهم، وعرفوا أسبابه ومصادره، فزاد شعورهم بالغيظ والإحباط.

 

الفساد من السياسة إلى الثقافة

من النتائج الدالة التي يصل إليها المؤلف في رصده لسنوات حكم الرئيس مبارك أن عهده اتسم ببعض السمات التي سمحت لصور جديدة من الفساد بأن تترعرع بين المثقفين.

 

فقد بدا مع مرور سنة بعد أخرى أن سياسة العهد الجديد لن تختلف في أي شيء مهم عن السياسة التي دشنها السادات، ويرى المؤلف أن مناخا كهذا كان لا بد أن يسود فيه اليأس من حدوث التغيير المأمول، وفي ظل هذه الدرجة من اليأس يبرز نوع جديد من المثقفين القناصين للفرص، يائسون هم أيضا كغيرهم فيما يتعلق بالمستقبل المصري، ولكنهم أبعد ما يكونون عن اليأس من تحسين أحوالهم الشخصية.

 

"في ظل مناخ الفساد يسود اليأس من حدوث التغيير المأمول، وفي ظل هذه الدرجة من اليأس يبرز نوع جديد من المثقفين القناصين للفرص، يائسون هم أيضا كغيرهم فيما يتعلق بالمستقبل المصري، ولكنهم أبعد ما يكونون عن اليأس من تحسين أحوالهم الشخصية".

 

فحين يختفي مشروع للنهضة يوحد الجميع ويمنح فرصة للموهوبين من المثقفين للتألق، لا تبقى إلا المشروعات الخاصة التي تجلب للمثقف وأسرته الثراء وبحبوحة العيش.

 

في هذا المناخ يميل بعض أصحاب المواهب الحقيقية من الراغبين في الإصلاح وتحقيق النهضة إلى الانزواء، إن لم يكن بالموت أو الشيخوخة، فبالقنوط والإحباط، ولكن يميل بعض المثقفين الموهوبين أيضا إلى تغيير موقعهم فتنطفئ موهبتهم بسبب هذا التغيير، إذ ينشغلون بكتابة أشياء تافهة لا تعبر عما يشعرون به.

 

وينتهز هذه الفرصة عدد كبير من عديمي الموهبة، فيقفزون لاحتلال مراكز المحررين والكتاب ورئاسة تحرير الصحف المملوكة للحكومة، فيكتبون كلاما لا معنى له، مما لا يكاد يقرؤه أو يعبأ به أحد، بل إنهم هم أنفسهم لا يعبؤون برأي الناس فيهم، إذ إنهم في الحقيقة لا يوجهون كلامهم إلا للممسكين بالسلطة، ولا يريدون به إلا تأكيد ولائهم لها.

 

وربما يوجه بعض القراء سهام النقد للكتاب، بحجة أن المؤلف لم ير إلا الصحائف السود في كتاب الحكم الحالي، لكن من يحيا في مصر، بين أفرادها ومؤسساتها، بين أغنيائها وفقرائها، يدرك حتما أن المؤلف لم يبتعد عما اعتاده منه قراؤه من رصانة وموضوعية

 

إرسال تعليق

0 تعليقات