آخر الأخبار

مصر بين الباش اغا العثماني والفيلسوف اليوناني

 




 

 

بقلم/ علي أبوالخير

 

 

هاج الإخوان المسلمون ومعهم الوهابيون السلفيون وكل المتأسلمين في مصر وخارج مصر ضد الدولة المصرية، لأنها عقدت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع دولة اليونان، وحشروا الإسلام حشرًا، وادّعوا أن تركيا المسلمة أولى من اليونان المسيحية، وأن المفروض أن تكون مصر في عداء مع اليونان وغيرها لصالح الجانب التركي، وهو أمر نراه مرفوضًا من الوجهة السياسية والدينية والتاريخية، فاليونان لم نرَ منها إلا الخير والتواصل، وتركيا العثمانية لم نرَ منها سوى الاحتلال والبؤس والشقاء والفقر.

 

 

ولو عدنا للتاريخ لوجدنا أن العلاقات بين مصر واليونان من أقدم العلاقات بين بلدين في العالم، إذ يعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد بأكثر من 300 عام، منذ نشأة الإسكندرية على يد الإسكندر الأكبر، كما أنه يوجد يونانيون عاشوا في مصر، ومصريون عاشوا واستوطنوا اليونان، والجالية اليونانية أو الجريج كما ينادونهم بالإسكندرية ما زالت موجودة، وما زالت بقايا الإغريق في مدينتي، مدينة المنصورة، والتقينا بهم وصادقناهم، وما زالت الأسماء اليونانية موجودة في المنصورة؛ مثل: كازينو أندريا- حلواني راندوبلوا- النادي اليوناني.. وغيرها، ولا ننسى أن المرشدين البحريين اليونانيين رفضوا الانسحاب عندما أمّم الرئيس جمال عبد الناصر قناة السويس عام 1956، في الوقت الذي تحالفت فيه تركيا مع إيران وبريطانيا ضد مصر في حلف بغداد المشهور عام 1955.

 

 

 

في العصر الحديث فإن العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين مصر واليونان تعود إلى عام 1833، أي بعد استقلالها عن تركيا بثلاث سوات لا غير، ورغم أن مصر من الوجهة النظرية السياسية ولاية عثمانية، فإنها على أرض الواقع دولة مستقلة، تعاملت مع اليونان من منطلق التاريخ المشترك، وهو تاريخ علمي فلسفي حضاري، بدأ من مصر واستقر في بلاد الإغريق، وعاد لمصر من جديد، يقول الدكتور وسيم السيسي: هو ذا هيرودوت يقول المدن الإغريقية كلها مدن مصرية قديمة، وأفلاطون يقول: ما من علم لدينا إلا وقد أخذناه من مصر، وقال الدكتور طه حسين: اليونان في عصورهم الراقية يرون أنهم تلاميذ للمصريين، ومارتن بارنال في كتابه أثينا السوداء: الحضارة اليونانية كلها من أصل فرعوني، فطاليس أبو الفلسفة اليونانية وأفلاطون وسولون أبو القانون اليوناني وفيثاغورث، كلهم تعلموا جميعاً في جامعة الإسكندرية، ثم تضافرت الحضارة المصرية مع أحفادها من اليونان، فكان الإسكندر الأكبر ابن آمون، اختطفه الموت صغيراً 33 سنة عمراً، ثم كان بطليموس الأول، ومكتبة الإسكندرية، وفيها 700.000 بردية ومليون كتاب، كانت السفن تفتش عن الكتب، تؤخذ مقابل رهن حتى تنسخ ثم ترد لأصحابها، أما مدرسة الإسكندرية التي دامت ستمائة عام من 300 ق. م حتى 300م، كانت جامعة عالمية تقوم على الفكر المصري اليوناني، وهو الفكر الذي انتقل للعرب في عصور نهضتهم، ومنه انتقل لعصر النهضة الأوربية، والتي ما زالت تستقي فلسفتها من العصر اليوناني، مع ملاحظة أن اليونان الجغرافية القديمة كانت تشمل أراضي الدولة التركية الحالية، فالتواصل هو الأصل بين مصر واليونان، والعداء كان قليلا نظرا لأنه تواصل فكري فلسفي حضاري قبل كل شيء.

 

 

ولكننا لو عدنا للتاريخ المشترك بين مصر وتركيا، صحيح يوجد مصريون أصلهم أتراك، وأتراك أصولهم مصرية، لكننا نجد أن العلاقة منذ البداية قامت على الغزو العثماني واحتلال مصر وباقي الدول العربية، وباسم الإسلام ولقب الخلافة، قتلت وسبت ونهبت، يقول المؤرخ المصري ابن إياس، الذي عاصر الغزو العثماني لمصر، إن سليم الأول أمر بجمع ألفين من المصريين من رجال الحرف والصناعات وكبار التجار والقضاة والأعيان والأمراء، وأرسل بهم إلى القسطنطينية، كما عمد العثمانيون مع بداية ولايتهم لنزع ما في بيوت مصر والقاهرة وأثمن ما فيها من منقول وثابت، حتى الأخشاب والبلاط والرخام والأسقف المنقوشة ومجموعة المصاحف والمخطوطات والمشاكي والكراسي النحاسية والمشربيات والشمعدانات والمنابر، دخلت بسببها مصر طور الكمون والسبات العميق لمدة ثلاثة قرون، لم يظهر فيها عالم أو فيلسوف أو شاعر كبير أو تعليم علمي، وحتى قرّاء القرآن الكريم لم يظهر منهم نابغة، فتركيا تأخذهم وتدعي ملكيتهم لهم، ولقد أجمع المؤرخون على أن حكم الولاة العثمانيين لمصر هو أسوأ حكم شهدته في تاريخها الإسلامي.

 

 

كانت تركيا العثمانية تأخذ الجزية من مصر وغيرها كضريبة رأس، من المسلم وغير المسلم، دون حياء ديني أو أخلاقي، تقول أستاذة التاريخ الدكتورة ماجدة مخلوف: "مثلت الإرسالية السنوية (تقصد الجزية) التي ترسلها مصر إلى إسطنبول في كل عام عنصرا أساسيا في موارد الدولة، كانت أكبر إرسالية في الدولة العثمانية، وكانت تعرف باسم الساليانة، وهذه الإرسالية عبارة عن الفائض من إيرادات مصر من الجمارك والجزية والأرض والضرائب الشرعية والعرفية، وبعد سداد كل المصروفات الخاصة برواتب العسكريين ومصاريف الحرمين الشريفين، بحيث لا يقل الفائض عن مبلغ محدد، وبلغت قيمة هذه الإرسالية في البداية ثمانية أحمال ذهبية، ثم تحددت بعد ذلك بمبلغ يتراوح بين 500000 قطعة ذهبية، ومع ظهور الأزمة المالية في الدولة العثمانية في القرن السابع عشر، رفعت الدولة قيمة هذه الإرسالية إلى 600000 قطعة ذهبية، ثم تم رفع خراج مصر من ستين ألف كيس إلى ثمانين ألف كيس، وعرفت المالية العثمانية تعبير الكيسة المصرية وتعادل ستمئة قرش، وارتبط هذا الاصطلاح بمصر وحدها، وكانت تمثل هذه الأموال السنوية التي تؤخذ من إيرادات مصر الاحتياطي المالي للدولة، ومنها تسدد مصاريف السلطان الخاصة والمعروفة باسم (الجيب السلطاني) واحتياجات القصر والديواني الهمايوني واحتياجات الدولة الطارئة التي لم تدرج في الموازنة، وكان السكر والحبوب، كلها تُرسل من مصر، وقد اشتهرت في مصر عدة صناعات منها صناعة السكر والنشادر وملح البارود الذي يصنع منه، وكانت لوازم المطبخ السلطاني تنقل من مصر، وهي عبارة عن 500000 إردب من الأرز، و2000 قفص سكر، و200000 إردب من العدس، ومثلها من الحمص، والخيار شنبر، والليمون البنزهير.

 

 

وكل تلك الجزية التي تم تهذيبها إلى كلمة إرسالية، أفقرت مصر، وكان الفلاح المصري يئن من الألم بسبب نظام الالتزام، دون أن يردع الخلفاء والولاة المتعاقبون خلق أو دين أو مروءة، ثم يدّعي البعض أن الأتراك كانوا سادة العالم وأنهم نشروا الإسلام في أوروبا، وما تفتخر به تركيا أنهم انتصروا على أوروبا، فيشهد التاريخ أن الإسلام لم يدخل أوروبا على يد حاكم عثماني، سواء في النمسا أو المجر أو البلقان، وحتى مسلمو البوسنة والهرسك وألبانيا، فقد دخلوا الإسلام قبل ظهور العثمانيين، وكلها كانت حروبًا عسكرية سياسية، وادعاءات التدين سواء عند العثمانيين أو عند الباباوات، لا يغفر لهم مسؤولية القتلى الذين راحوا في تلك الحروب.

 

لقد حاولت مصر مبكرا الاستقلال عن الدولة العثمانية، فكانت أولى المحاولات ما قام به علي بك الكبير 1728 – 1773، فقد استقل بالحجاز والشام بمساعدة روسية، ولولا خيانة صهره محمد أبو الدهب، وقد مات علي بك قبيل وصول الحملة الفرنسية بخمسة وعشرين عامًا فقط، وربما كانت محاولته الاستقلالية هي التي ألهمت محمد علي بمشروعه الحضاري الكبير، ومحاربة الأتراك العثمانيين والانتصار عليهم.

 

اليوم يعيد التاريخ نفسه، وتقف تركيا الأردوغانية في موقف عدائي من الدولة المصرية، وهو موقف نشهد أنه طبيعي وتلقائي يتفق مع ما ذكرناه من التاريخ.

 

نحن لا نريد الباش أغا العثماني، ونقف حيث تكون مصلحتنا.

إرسال تعليق

0 تعليقات