نصر القفاص
يقول الشيخ "على
عبد الرازق" فى كتابه "الإسلام وأصول الحكم" بوضوح لا يحتمل شكا أو
تشكيكا: "لا يريد الله جل شأنه لعباده المسلمين, أن يكون صلاحهم أو فسادهم
رهن الخلافة ولا تحت رحمة الخلفاء.. فالله جل شأنه أحفظ لدينه وأرحم لعباده" ثم
يؤكد المعنى بروايته حكاية انهيار الخلافة العباسية فى "بغداد" عند
منتصف القرن السابع الهجرى.. حين هجم التتار وقتلوا الخليفة العباسى المستعصم
بالله, وقتلوا معه أهله وأكابر دولته.. وبقى الإسلام ثلاث سنوات بدون خليفة!! وأنقذ
الموقف "الظاهر بيبرس" فى مصر, حين أعلن عثوره على واحد من بيت الخلافة
وأخذ منه البيعة لكى يدين له المسلمون.. ومن بعده استمر "الشراكسة" يحكمون
حتى أخذ الخلافة "العثمانيون" سنة 923 هجرية – 1517 ميلادية.
ناقش الكتاب نظام
الحكم فى عصر النبوة بالتفصيل, وقدم الدلائل والحجج والبراهين فقهيا واستفاض فى
تقديم نماذج من السيرة.. واعتمد على شرح "ابن خلدون" ودراسة "رفاعة
الطهطاوى" التى تحفظها دفتى كتاب "نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز"
وقدم شرحا يؤكد الفصل بين الإسلام كرسالة والحكم.. وانتهى إلى أن: "الرسالة
مقام والملك مقام آخر" ولم يترك المؤلف دليلا من القرآن أو السنة دون أن
يقدمه ويناقشه, وصولا إلى "السيرة النبوية" وفيها ذكر: "أن رجلا
جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم لحاجة, فقام بين يديه فأخذته رعدة شديدة.. فقال
له صلى الله عليه وسلم.. هون عليك, فإنى لست بملك ولا جبار.. إنما أنا ابن امرأة
من قريش تأكل القديد بمكة"!!
كرر الشيخ "على
عبد الرازق" التأكيد على أن فكرة الخلافة ليست أكثر من أكذوبة سياسية, ولكي
يثبت ذلك أبحر فى القرآن والسنة..
ثم انتهى إلى أن
القرآن يمنعنا من الاعتقاد فى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحمل فى رسالته
الدينية نظام سياسي للدولة.. والسنة تمنعنا عن هذا الاعتقاد الخاطئ.. ومع الكتاب
والسنة فحكم العقل به معنى الرسالة ذاتها.. فالعصر النبوي كان خاليا من مظاهر
الحكم.. فلا ولاه ولا قضاه ولا ديوان, وذلك له مغزاه ومعناه الذى يذكره قول الرسول:
"أنتم أعلم بشئون دنياكم".. فالإسلام لم يفضل أمة على أمة ولا لغة على
لغة ولا زمن على زمن ولا جيل على جيل.. إلا بالتقوى.. رغم أن النبى كان عربيا
وكتاب الله تنزل عربيا.. وكل الدلائل والبراهين تقطع بأن الوحدة العربية فى زمن
الرسول, لم تكن وحدة سياسية.. وكل ما حمله الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب
وعقوبات هى شرع دينى خالص, لمصلحة البشر جميعا.. والثابت أن العرب تنافروا
وتباينوا وربط بينهم الإسلام فى قلوبهم: "واذكروا نعمة الله عليكم إذا كنتم
أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها".
عاد الشيخ "على
عبد الرازق" إلى التاريخ الإسلامي وكتب السيرة, ليوضح أنه بعد رحيل الرسول
عليه الصلاة والسلام.. عادت كل أمم العرب إلى الشعور بشخصيتها واستقلاليتها.. بل
ارتد بعض العرب, باستثناء أهل المدينة ومكة والطائف, وفى ذلك برهان آخر على أن
وحدة العرب كانت إسلامية وليست سياسية.. وكانت زعامة الرسول فيهم زعامة دينية
وليست مدنية.. وكان خضوعهم له خضوع عقيدة وإيمان, وليس خضوع حكومة وسلطان.. وكان
اجتماعهم حوله اجتماعا خالصا لوجه الله تعالى.. ولعلمه بذلك رحل دون تسمية أحدا
آخر كى يخلفه, ولا أن يشير إلى من يقوم فى مقامه.. وإن شاء لفعل وما ترك أمر
الدولة مبهما على المسلمين.. لذلك طبيعى ومعقول إلى درجة البداهة أن لا توجد بعد
النبى زعامة دينية, وأى زعامة بعده لا صلة لها بالرسالة ولا الدين.. هى إذن زعامة
لا علاقة لها بالدين.. أي زعامة مدنية وسياسية.. زعامة حكومة أو سلطان.. وإذا
دققنا النظر فى البيعة "لأبو بكر الصديق" سنتأكد أنها بيعة سياسية.. فهذا
"سعد ابن عبادة" رضى الله عنه أعلن رفضه البيعة "لأبو بكر".. كما
أن "أبو بكر" نفسه قال: "يا أيها الناس إنما أنا مثلكم, وإنى لا
أدرى.. لعلكم ستكلفونى ما كان رسوله الله صلى الله عليه وسلم يطيق.. إن الله اصطفى
محمدا على العالمين وعصمه من الآفات, وإنما أنا متبع ولست مبتدع" ثم حقق
مسألة "خليفة رسول الله" ليؤكد ويثبت عدم معرفة صاحب هذه التسمية, لكن
الثابت أن "أبى بكر" أجازه وارتضاه.. ثم أكد: "لست خليفة الله
ولكنى خليفة رسول الله" وهذا المعنى جعله يناقش "عمر بن الخطاب" فى
رفضه لقتال المرتدين, لأن "عمر" قال له: "كيف تقاتل الناس وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله الا الله, فمن
قالها عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" وهذا فى حد ذاته يؤكد أن
حرب المرتدين فى الأيام الأولى لخلافة "أبى بكر" لم تكن حربا دينية.. بل
كانت حربا سياسية صرفة.
وأكد الشيخ "على
عبد الرازق" فى كتابه الزلزال "الإسلام وأصول الحكم" على أن
السلاطين يرون مصلحتهم بالخلط بين الديني والسياسي, لكى يتخذوا من الدين دروعا
تحمى عروشهم.. وتلك جناية الملوك واستبدادهم بالمسلمين.. فهم يحرمون علوم السياسة
وباسم الدين يضيقون على العقول, وذلك أدى إلى موت قوة البحث ونشاط الفكر بين
المسلمين.. أصابهم ذلك بالشلل فى التفكير السياسى والنظر فى كل ما يتصل بالخلافة
والخلفاء.. والحق أن الدين الإسلامي برئ من تلك الخلافة التى تعارف عليها المسلمون,
وبرئ من إحاطتها بالرهبة والقوة.. فلا شئ يمنع المسلمين أن يسابقوا الأمم فى علوم
الاجتماع والسياسة, وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذى أذلهم واستكانوا إليه.. لا
شئ يمنع المسلمين من أن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول
البشرية, ومادلت عليه تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.
عشر سنوات قضاها
الشيخ "على عبد الرازق" دارسا وباحثا ومجتهدا لفهم أكذوبة "الخلافة"
التى شاهد نظامها يتهاوى وينهار, وبعد أن أيقن أن "الإمبراطورية العثمانية"
لم تترك علما ولا فكرا ولا إبداعا.. بل عاشت على السيف والمدفع.. قتلت وأبادت
وأعدمت ونهبت ورسخت الفساد والانحطاط فى كل الدول التى تحكمت فيها.. وكانت كلما دب
الضعف فى أوصالها تضحى بمصائر وأقدار شعوب وأمم ودول كانت ضمن سطوتها.. فكتاب "الإسلام
وأصول الحكم" واضح أنه بدأ فى عقل مؤلفه عندما تركت "الدولة العثمانية"
مصر لكى تخضع خضوعا تاما للاحتلال الانجليزي الذي أعلن الانتداب على مصر عام 1914..
وكان الشيخ "على عبد الرازق" يدرس ويقرأ ويشاهد مأساة ما يسمى بدولة
الخلافة وما جنته على الدول العربية وغيرها من الأمم فى آسيا وأوروبا.. وكان راصدا
للنهاية التى ارتضت بدولة "تركيا" وتخليها عن فكرة الخلافة.. بل أن مؤسس
هذه الدولة – مصطفى كمال أتاتورك – لعن الخلافة وحطم أسسها ولغتها وابتعد عن
تجارتها بالدين.. وانتهى المؤلف من دراسته.. الكتاب الزلزال.. لحظة أن شرع الملك "أحمد
فؤاد" فى إعداد سيناريو يسمح له بأن يكون "خليفة" المسلمين وحاكما..
فقرر الشيخ إطلاق صيحته قبل أن تذهب مصر إلى هذا المستنقع فى عام 1925, خاصة وأن
البلاد كانت قد انتزعت بقوة ثورة 1919 حقها فى إلغاء الانتداب, وراحت تؤسس لدولة
مدنية حديثة.
كان حلم الملك "أحمد
فؤاد" مدفوعا بدعم ومساندة "شيوخ الأزهر" الذين أعجبهم ذهاب الملك
إلى تلك "الجزيرة المسحورة" المسماة بالخلافة.. فراحوا يزينون للملك
الحلم أو قل هذا الوهم على حساب وطن وشعب, ضاعت منهما مئات السنين بسبب "الخلافة
الملعونة" منذ أن سقطت مصر لترزح تحت الحكم العثمانى عام 1517, وبموجب هذه "الخلافة"
باعوا مصر بمؤامرة مكتوبة مع الانجليز والقوى العظمى لكى يتم استعمار البلاد عام 1882..
أى أن المستعمر العثمانى باع مصر للمستعمر الانجليزى تحت راية "الخلافة"
وكلها حقائق ومعان واضحة.. إندفع الشيخ "على عبد الرازق" لكشف زيفها
وخطورتها بكتابه "الزلزال" وفى المقابل أشعل "شيوخ الأزهر" النار
حول الرجل وكتابه وأفكاره.. رجموه بالكفر والزندقة.. رفضوا مناقشته.. خافوا من
علمه وأفكاره وعقله.. وتطاير الشرر فى كل الاتجاهات.. وقف الشعب المصرى مذهولا بين
أحد علماء الأزهر وشيوخه.. وتكشفت الحقائق عندما خرجت المعركة من ميدان الأزهر – الدينى
– إلى ساحة السلطة – السياسية – ولأن المجتمع كان يستجمع قواه بحثا عن الاستقلال, فقد
انتظر الجميع كلمة زعيم الأمة "سعد زغلول" وخلفه "الوفد" وتصدى
حزب " الأحرار الدستوريين" للذين أرادوا ذبح الشيخ "على عبد الرازق"
وتولى "عبد العزيز باشا فهمى" قيادة المعركة ومعه أستاذ الأجيال "أحمد
لطفى السيد" وآخرين من الذين يؤمنون بضرورة فصل الدين عن السياسة.. وتحولت
المعركة إلى تطبيق عملى للأفكار التى طرحها الشيخ, ليسجل التاريخ صفحات شديدة
الأهمية فى تاريخ مصر.. لكننا للأسف انخدعنا وهجرناها وساعدنا تجار الدين
ومستثمريه بذلك, وهو الخيط الذى التقطه الانجليز فتحركوا وأسسوا "جماعة
الإخوان" لتكون الخنجر فى ظهر مصر بدلا من رفضها تجرع "كأس الخلافة
المسموم" فكانت تفاصيل حان وقت إزاحة الستار عنها..
يتبع
0 تعليقات