محمود جابر
قبل البدء.. هبه جمال الدين
أحب أن أشير إلى أن هذه الأطروحة هى معالجة وربما محاكاة لكتاب
عاطف عزت ( فرعون موسى).. وهذه القراءة أو المعالجة كانت حوار حول الكتاب بيني
وبين صديقي الراحل المهندس محمد سعيد عبد اللطيف، هذا الكلام أحببت توضيحه حتى لا يأتي
أحد ويقول أن ما تقوله ذهب إليه فلان، كما حدث فى مقال عن الإبراهيمية حينما علق
احدهما أن ما كتبته حول الإبراهيمية سبق للدكتورة هبه جمال الدين ذكره، ويلومني أنني
لم اذكر اسمه، وكأن المعرفة حكر على من كتبها، وأنا أدرك أن ذكر من سبقنى فى عمل
يجب أن آتى عليه ولكن، ولان لكل مقام مقال، فإن هذا الكلام يتناسب مع العمل البحثى
لا مع المقال ... لهذا أحببت الإشارة، هنا لـ (عاطف) ولم اشر قبل لـ (هبه) .. لان
هذه السلسلة عمل بحثى بعكس مقال الإبراهيمية ..
السامرى ودلالات جديدة:
استكمالا للحديث عن ( اليم) إن قصة السامري الذى اتخذ عجلا حدثت على الضفة الأخرى من ( اليم) قال الله تعالى على لسان موسي : {
قَالَ فَٱذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي ٱلْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ
لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَٱنظُرْ إِلَىٰ إِلَـٰهِكَ ٱلَّذِي ظَلْتَ
عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً }. فإذن عجل
السامري قد نُسف وقُذف به في مياه ( اليم) وليس في البحر الأحمر كما هو شائع. وهذا يقودونا إلى استنتاج آخر
هو أن القوم الذين كانوا يعبدون الأصنام في قوله تعالى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِى
إِسْرٰءيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ
لَّهُمْ } هم قوم من سكان شبه جزيرة سيناء.
ونلاحظ أنّ كلمة الأصنام جاءت بصيغة الجمع في الآية في إشارة ضمنية
لوجود مجموعات مختلفة دينياً في المنطقة وليس من الضروري أن تكون مختلفة عرقياً.
والقرينة التاريخية التي تدل على صحة هذا التفسير هي أنّ سيناء كانت تعج بأعراب
وبعض من بنى إسرائيل وعماليق.
وهنا إشارة هامة جدا، إذا كان موسى قد هرب هو وقومه من المصرين فهل
من العقل أن يعبر بهم الضفة الأخرى من اليم وفقط، ألم يخشى هجوم المصريين عليه هو
وقومه، وإذا كان هذا لم يحدث فهذا يعزز ما ذهبنا إليه من أن الموضوع لا علاقة له
بالمصريين بل على العكس فإن بنو إسرائيل استقروا فى سيناء فى حماية المصريين
أنفسهم، وخاصة أن موسى ترك قومه بعد الخروج من مصر – المدينة- وذهب الى مناجاة ربه
أربعين يوما.
قال تعالى(وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) ۞ وَوَاعَدْنَا
مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي
قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) الأعراف.
منظور الاتصال والحركة والخروج :
كانت الرغبة المصرية، والأمر الإلهي يتفقان على خروج بنى إسرائيل
من مصر، والتخلص من فرعون وملئه وجنوده، فالسحرة- العلماء- الذين هم من مصر كانوا
مع موسى وعلى علم كامل بنبوءة موسى وأمر الله له بإخراج بنى إسرائيل من مصر وقد
سبق أن قالوا لفرعون(قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ
الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي
هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَ) 72 طه.
وموسى فى المقابل يعلم قدرات المصريين العلمية والعسكرية وحاجتهم
ان ينفك التحالف ما بين فرعون وبنى إسرائيل والعبرانيين جميعا .
يوسيفوس فلافيوس فى كتابه فرعون ذو الأوتاد ...... فى تأريخه قال أن أحد ملوك مصر طرد
مجموعه من قبائل البدو الى بلاد الشام .. بينما استمر باقى هذه القبائل فى مصر –
سيناء- .. وهؤلاء هم الهكسوس .
ويمكن مراجعة بعض مما جاء فى كتاب د. حسن حدة، موسى والتوراة،
العربي للنشر والطباعة والتوزيع.
وقد تزوج موسى من تربيس بنت ملك الحبشة بعد أن أسرها ضمن من اسر من
الأحباش.
وهذا ما طرحه سعيد جودت فى أوهام التاريخ اليهودي،و محمد خليفة حسن
أحمد، تاريخ الديانة اليهودية، من أين تزوج موسى المرأة الحبشية وهذا دليل دامغ
على حرب موسى مع المصريين ضد الأحباش، وبعد الانتصار كانت أبنت ملك الحبشة من نصيب
موسى .
هذا التعاون مع جيش مصر وحاكمها تطوق باتفاق موسى مع السحرة، وهذا
ما كشفه فرعون وصرح به حين قال القرآن على لسانه(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ
قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا) 123 الأعراف .
فالقضية كما سبق ذكرها ان كان السحرة تابعين لفرعون فإذا حدثت
المناظرة فهم على دين الفرعون، ولكن وضح أن السحرة لهم دين أخر وفرعون له دين
وموسى له دين ثالث ...
وهذا ما جاء فى القرآن(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ
مَّعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ
السَّحَرَةَ إِن
كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ
أَئِنَّ
لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) الشعراء.
الآيات تقول بوضوح بالغ أن فرعون جمع السحرة لمناظرة موسى، وفى
حالة فوز السحرة الناس سوف تتبع السحرة، لا تتبع فرعون !!
والسحرة لو كانوا من رعايا فرعون فهل من المعقول أن تطلب الرعية أجرا من الحاكم ؟!!
لهذا السحرة فى مواجهة موسى كانوا متساهلين حيث طرحوا عليه الخيار
لا الجبر ( إما ان تلقى وإما ان نكون نحن الملقين )... ثم سرعة موافقة السحرة
لموسى والسجود والتأييد له، وهذا ما شكك فرعون فى الأمر فأعلن ان هذا اتفاق حدث
بين موسى – حليف المصريين – والسحرة .
فمساومة السحرة وجمعهم من البلاد ولو الحاكم من أهل البلاد لطلب
حضورهم فورا وليس ينادى فى البلاد ويطلب منهم وهم يساومونه، وهذا جزء من الاتصال.
أما الجزء الآخر، وهو الاتفاق على الإخراج والطرد، وهذا ما كشفت
عنه آيات سورة الشعراء ....
-
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي
إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (52)
-
فَأَرْسَلَ
فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
-
إِنَّ
هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا
لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
-
فَأَخْرَجْنَاهُم
مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
-
كَذَٰلِكَ
وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60(
ومع تأمل بسيط للآيات نقول أن الله تعالى أوحى الى موسى أن يخرج هو
وبني إسرائيل ليلا من المدينة...
والمسافة من الحسينية شرقية الى منطقة
القنطرة لعبور سيناء حوالي 40 إلى خمسين كيلو متر ويكفى الليل لقطعه سيرا على الأقدام
...
وفقاً لرواية التوراة قد :{"فارتحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى
سكّوت نحو ستمئة ألف ماشٍ من الرجال عدا الأولاد. وصعد معهم لفيف كثير أيضاً مع
غنمٍ وبقرٍ مواشٍ وافرة جداً } (سفر الخروج 12: آية 37 و38).
قامت نساء بني إسرائيل بعملية تمويهٍ استعرنَّ بها من نساء آل
فرعون حُليهنَّ وقلنّ لنساء آل فرعون أنّهن خارجات لعيدٍ من أعياد بني إسرائيل
تمويهاً لعملية الخروج.
فخرج موسى ببني إسرائيل فى أول الليل متجها جنوباً نحو السكّوت –
منطقة القنطرة الحالية-
وقوله تعالى( متبعون ) لا تعنى إتباع فرعون لموسى لان هناك فاصل زمنى حيث لم يعرف
فرعون بخروج موسى وبني إسرائيل إلا بعد خروجهم ومشيهم طول الليل!!
أذن المتابع لموسى وبني إسرائيل ملك مصر أحمس لحمايتهم وتعقب فرعون
إذا وصل ..
وكلمة متبعون تعنى يمشى وراءه ويتابعه...
ولكن بعد أن لحق فرعون وجنود موسى يقول القرآن ( تراءا الجمعان) وتراءا يعنى رأى كل واحد
منهما الآخر ...
وحتى يكون الحدث أكثر وضوحا فإن القرآن بعد أن تحدث عن فريقين ( تراءا) قال (وإنا لجميعُ حاذرون) فالجميع أي أكثر من
جماعة...
وحتى تكون المسألة هنا أوضح فإن قوله تعالى (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ
مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فالجمعان يرى كل واحد من هما الآخر دون خوف ولكن هنا ما جعل
السياق يتحدث عن ( حاذرون) و( مدركون) وهذا يدل على وجود قوة ثالثة تخيف كلا
القوتين السابقتين موسى وفرعون .
هذه القوة الثالثة يقول عنها القرآن (وَأَزْلَفْنَا
ثَمَّ الْآخَرِينَ) أى قربنا من كان بعيدا بسرعة هائلة غير متصوره..
اقتراب جيش المصريين جعل الجماعتين المترائيتين والقريبين بعضهما
من بعض يخافا جميعا من القوة الثالثة، فأما جماعة موسى قال لهم موسى لا تخافوا أن
معى ربى سيهدين وينجينا جميعا، أما جماعة فرعون فقد خافوا من جيش المصريين واندفعوا
فى الماء حتى وصلوا قرب الخليج فغرقوا ( ثم أغرقنا الآخرين)....
وغرقُ فرعون لم يدفع موسى للرجوع لمصر بل واصل رحلته مع قومه حتى
استقر بهم المقام في أرض السكوت من الناحية الغربية أولاً ثم واصلوا الرحلة يقول
الله تعالى: { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ ٱلْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَى
ٱلأَمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ }. هذا الجبل الغربي يقع أيضاً على الشاطئ
الأيمن بالنسبة لحركة انسياب المياه التي تنحدر من الجنوب وتتجه شمالاً أو من
الشرق في اتجاه الغرب، وهذا المكان هو أفضل مكان لعبور اليم في تلك المنطقة. {
فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ ٱلْوَادِي ٱلأَيْمَنِ فِي ٱلْبُقْعَةِ
ٱلْمُبَارَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ أَن يٰمُوسَىٰ إِنِّيۤ أَنَا ٱللَّهُ رَبُّ
ٱلْعَالَمِينَ} وقوله: { يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ
عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ }وقوله:{ وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ
ٱلأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ
هَارُونَ نَبِيّاً}.
ملاحظات :
- لما
كان فرعون وقومه ليس هم المصريين فكان تعبير القرآن دقيق حينما يقول (فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا
آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) الزخرف ... الآية
تتحدث عن هلاكهم جميعا فرعون وقومه....
فهل المصريين بالقلة التى تهلك
جميعا فى حدث هائل مثل هذا ولا تسجلها اى كتب تاريخيه أم أن الحدث حدث فعلا لقوم
وجماعة قليلة من الأعراب ... والتوراة تؤكد هذه القلة فى سفر الخروج حينما تقول :
ان فرعون شد مركبته وأخذ قومه معه"...!!
ومع كل هذا الوضوح فى القصة ان بني إسرائيل
شرذمة قليلون هل هذه الشرذمة تتطلب أن يخرج شعب كشعب مصر فى أعقابهم وان يغرقوا
جميعا؟!!
أنها أسئلة لأصحاب العقول ودعوة
لقراءة القرآن من جديد حيث انه كتاب مفصل وواضح ولا يحتاج إلا سوى عقل منصف وقراءة
متقنة ...
وللحديث بقيه
0 تعليقات