محمود جابر
فى الحلقة التاسعة من قصة موسى وفرعون لابد أن نوضح أن حركة
التاريخ تعتمد على (الإنسان) و(المكان) و(الزمان)، فهذا الثالوث هو أساس أي دراسة
تاريخية صحيحة.
ومن الخطأ والظلم الفادح أن يُنسب حدثٌ من أحداث التاريخ لمكانٍ
غير مكانه، أو لزمانٍ ليس بزمانه، أو لشخوصٍ غير أشخاصه. وخطورة هذا العمل أنّمن
لا تاريخ له سيبني على تاريخ غيره في الوقت الذي يفقد فيه صاحب التاريخ الأصلي
تاريخه وبالتالي يفقد معه شيئاً ثمينا له قيمة معنوية واقتصادية.
وتاريخ مصر القديمة عامة وصراع موسى مع فرعون خاصة هو تاريخ تتداوله
الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها طالما أنّ هذا القرآن حيٌّ يُتلى، فتلاوة
القرآن هي التي ستحتفظ بهذا التاريخ حيّاً.
قلنا أن أم موسى تعيش فى رحاب قصر فرعون،
وقد أسسنا لإقامة أم موسى فى القصر أسس اعتقد أنها منطقية، وفى هذه الحلقة نحن مع
تأسيس جديد لهذه الإقامة وهو المكان الذى ألقت أم موسى ابنها فى الماء حيث عبر
القرآن عن مكان الإلقاء بـ " اليم ".
ومن المشهور بين المسلمين أنّ فرعون غرق في البحر الأحمر، وللأسف
هذا كلام لا دليل عليه البتة ويعارض صريح القرآن وصريح اللغة ومع ذلك تجده في كتب
التفسير عامة كما سنرى.
ونتيجة هذا التفسير الخاطئ انتقلت أحداثٌ مهمة من منطقته الأصلية
وتغير المكان يحرف فهم الحدث ودلالاته، وفي
هذه المقال سنتتبع فصل من القصة ونتفحّص اللغة والمكان والزمان لنصل لنتيجةٍ
علميةٍ صحيحة في هذا الموضوع.
"اليّم ":
أولاً، ذهب البعض أن كلمة "اليَمّ" كلمة غير عربية، وقال
عنها بعض المفسرين أنّها كلمة سريانية، والسريان كانوا في منطقة العراق فعربتها
العرب كما ذكر الإمام الزهري، ولكن الإمام الحدادي قال: إنّ كلمة
"اليَمّ" مأخوذة من اللسان العبراني وهي لغة اليهود من بني إسرائيل،
وقيل هي لغة القبط، ولأنّ البجة (النوبة) مازالت تسمى الماء "يم" حسب
إفادة الأستاذ محمود كرار الباحث في اللغة البجاوية وقواعدها.
قال الإمام مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) في تفسيره إنّ اليَمّ بلسان
العبرانية يُعني به البحر، وهو نهرٌ بمصر، ووافقه ابن الجوزية وكثير من المفسرين ..
فإذن كلمة "اليَمّ" هي في الراجح لغة مصرية قديمة
استعارتها العبرية التي هي لغة بني إسرائيل.
والراجح أيضا أن اليم جزء من النيل أو فى نهايته – المصب مع البحر-
كما سنرى.
وبعد أن انكشفت لنا حقيقة
كلمة "اليَمّ" نرجع للقرآن مرة ثانية لنـتأكد من صحة هذا التحليل لنقف
عند المرة الأولى التي استخدم فيها القرآن الكريم هذه الكلمة.
بالنظر في القرآن الكريم ثبت لنا أنّ كلمة "اليَمّ"
ذُكرت أول مرة في قصة أم موسى حين أمرها الله تعالى قائلاً: { أنِ ٱقْذِفِيهِ فِي
ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ....ۤ} 39 طه .
وقد اتفق جميع المفسرين على أنّ كلمة "اليَمّ"في هذه الآية بالذات مقصود
بها نهر النيل لا غيره، كما أشرنا، ثم جاءت قصة غرق فرعون فأكّد الله تعالى أنّه
أغرق فرعون في "اليَمّ"-الذي هو نهر النيل أو جزء منه - في أربعٍ من
السور هي الآتي:
1- سورة الأعراف فى قوله تعالى: { فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ
عَنْهَا غَافِلِينَ } (آية رقم 136).
2- سورة طه في قوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ
فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } (آية 78).
3- سورة القصص في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلظَّالِمِينَ}
(آية 40).
4- سورة الذاريات في قوله تعالى: { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ
فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ } (آية 40) (لاحظ التوافق في رقم
الآيات في الذاريات والقصص).
وبعد مطالعة كل ما كتبه اللغويين أو المفسرون أو
المترجمين العرب في ذلك تتبعت الآيات التي ورد فيها (البحر) و(اليم) في قصة موسى وفرعون
والخلاصة هي أن العرب تجزأ البحر نفسه إلى أجزاء :
فإذا قالوا (لجة) يعني ذلك وسط البحر وعميقة. وإذا قالوا (عرض البحر) هو الجزء الذي تسير فيه
السفن، وإذا قالوا (سيف البحر) ذلك للساحل والاثنان يطلقان على اليابسة أو ماء
الساحل القرآن دقيق ومحكم فجاء التعبير بـ (اليم) ليوضح حال مكانية جغرافية لموقع
الحدث في البحر نفسه و(اليم) هو مابين وسط البحر وساحله ويكون ذلك في البحر المالح
والبحر العذب والبحر العذب هو الواسع الممتد عرضا .
وواضح من سياق القصة الواردة بخصوص طفولة موسى
عليه السلام أن الأبنية كانت على طرف اليم النيلي أو قد تكون حتى محاطة باليم لان
اليم ماء الساحل أن كان غزيرا مغرقا وليس ماء الساحل الذي تخوضه فلا يصل ركبتك واليم المقصود هنا هو في بحر النيل والنيل يكون بحرا
بالذات وقت الفيضان فيكون واسعا ويكون اليم عند ضفتيه تقول العرب:" يم الولد إذا
ادخلوه الماء من جهة الساحل ليعمدوه" .
واسم البحر عند الساحل اليم دقة اختيار الاسم
الصحيح في القرآن اليم عند قصة موسى الطفل هو (يم النيل) .
أما في غرق فرعون فهو في البحر المالح سواء كان
لسان البحر الأحمر إلي سيناء في خليج السويس أو الذي اندثر وقامت عليه قناة السويس
ولكن مكان الغرق تحديدا عند الجزء المسمى اليم وهو قريب من الساحل وتفاصيل ذلك في
القران واضحة وبحسب القصة بني إسرائيل شاهدوا غرق فرعون وهم على الساحل بعد نجاتهم
مما يعني انه قريب منهم وليس في لجة البحر .
فغرق فرعون وجنوده عند طرف البحر بعد أن أملوا أن
يلحقوا بني إسرائيل .
لو
فكرنا فيما ذُكر حول المدينة لوجدنا أن القصة كلها تدور في بقعة محددة من الأرض
المصرية .. إذا فاليم أيضا عبارة عن تجمع مائي في منطقة محددة اسمها “اليم”.
في
منطقة الشرقية كان يوجد في القديم خليج ماء كبير باسم “خليج البوص” (يم سوف) ..
وهو بنفس المعنى والنطق بالعربية والعبرية.
لقد كان نهر النيل مُتصل بالبحر الأحمر عن طريق قناة “سيزوستريس”
التي حُفرت في الغالب على عهد “سنوسرت الثالث” وأعاد اللاحقون حفرها حتى جاء
الخليفة العباسي جعفر المنصور فردمها تماما منعا لوصول أي إمدادات إلى الثائرين
على الحُكم العباسي . انظرا موسوعة ويكيبيديا عن – قناة سيزوستريس.
تقول التوراة : “إن موسى خرج من لدن فرعون وصلى إلى الرب، فرد الرب
ريحا غربية شديدة جدا، فحملت الجراد وطرحته إلى بحر سوف” – (سفر الخروج 10 : 13)
إذا فقد كانت معيشة فرعون حول مكان يُسمى أو “خليج سوف” أو “يم
سوف” .. أو مجازا لملوحة مائه “بحر سوف”.
من الملاحظ أيضا في قوله تعالى فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ .. أن شاطئ النهر يُسمى
ضفة، بينما الساحل ُيطلق على شاطئ البحر أو البحيرات أو الخلجان.
التوراة أطلقت على تلك المنطقة “بحر سوف” أو “يم سوف” و“سوف” في
اللغة العبرانية هو البوص، وربما سُمي كذلك لنمو الغاب والبوص حوله .
وسوف نجد أن الرواية قد استقامت بعد غرق فرعون..
بعد أن غرق فرعون وجيش وملآه (حاشيته الفاسدة)، دخل أحمس بجيشه
واستطاع تحرير كامل الأرض، وأعطى الأمان كاملا لبني إسرائيل وموسى عليه السلام في الاستقرار
أو العودة، أنظر ماذا قال القرآن في ذلك :
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ
هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ
(57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي
إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ (60) – سورة الشعراء
ما معنى (كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) ؟ .. إذا أخذنا بالرواية
الشهيرة أن بني إسرائيل كانوا يعيشون في كنف وادي النيل، فإن الآية لن تكون منطقية
لأنهم لم يعودوا أبدا .. لكن ما حدث بعد غرق فرعون ان استقر موسى وبنو إسرائيل على
الشاطئ الآخر من اليم وكان لهم الأمان والحق في العودة والتمتع بالخيرات والثمرات
والجنات والعيون
كما يظهر أن القيادة المصرية في ذلك الوقت كانت مؤمنة موحدة بموسى
وبالكتاب وبالرسل، ويظهر أيضا أن المصريين قد عادت لهم الأرض بعد هلاك فرعون وقومه
الجبابرة، فنقرأ ماذا قالت سورة الدخان في ذلك الجزء
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا ۖ إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا
مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا
فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَٰلِكَ ۖ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) –
الدخان
إذا فقد ورث الأرض قومان، أو مجموعتان .. ذكرت الشعراء أن الأولى
هي بني إسرائيل، وسورة الدخان قالت “قوما آخرين” لم تسمهم .. إذا أخذنا بالرواية
أن فرعون كان مصريا، فلن نستطيع العثور على هؤلاء “القوم الآخرين” أبدا .. أن
الآية السابقة من الآيات تقول أن “القوم الآخرين” هم المصريين الذي عادت لهم أرضهم
مرة أخرى .. وبهذا تتحقق الآيتان .. فقد ورث خيرات الأرض بني إسرائيل والمصريين
معا، ويؤكد ذلك قول الحق في سورة الأعراف.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ
مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ
كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ
وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ
(137)
ويمكن أن نلخص الحلقة فى نقاط هى :
1-
ولد موسى وألقت به أمه فى اليم، ولم يذكر القرآن كلمة بحر
أو نهر .
2-
فرعون قصره كان بجوار اليم وهكذا عثر على موسى الذى ألقته أمه
فى اليم .
3- غرق
فرعون وجنوده فى اليم ولم يذكر القرآن انه غرق فى البحر، ولكن امر الله تعالى موسى
فأن يترك البحر (( رهوا)) وهنا إشارة أن اليم متصل بالبحر مما يدل على انه اليم له
لسان – مصب مع البحر ونقطة التقاء عند خليج السويس .
4-
بعد خروج ونجاة بنى إسرائيل وموسى أقاموا على الجانب الأخر
من اليم .
5- لما صنع
السامرى العجل ثم قام موسى بتحريق العجل المصنوع من الذهب نسفه فى اليم لانهم
كانوا يقيمون فى سيناء ويفصلهم عن مكان الخروج اليم " بحر سوف" الذى
يفصل ما بيت الدلتا فى منطقة الشرقية والجهة الاخرى لسيناء .
وللحديث بقيه
0 تعليقات